الخميس ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم رشيد ياسين

حول خصائص التأليف الدرامي

قلت في حديث سابق لي أن الفنان كثيراً ما يلجأ إلى الكذب البريء ليتمكن من إحداث الأثر الذي يريد إحداثه في النفوس. وقلت إن المسرح ربما كان أشد الفنون إيغالاً في الكذب بحكم طبيعته الخاصة. ولابد لي قبل أن أغادر هذه الفكرة العامة من أن أضيف مستدركاً أن ما قلته عن الكذب الفني لا ينطبق على الفنون كلها، فالفنون ذات الطابع التجريدي -كالموسيقى والعمارة مثلاً -لا يمكن أن توصف بصدق أو كذب، لأنها -على العموم- لا تعكس أشكالاً وعلاقات موجودة في الطبيعة الخارجية، وبالتالي فلا تقاس بواقع موضوعي مستقل عنها، كما هي الحال في الفنون التشكيلية والدرامية والأدبية.‏

ويهمني أن أقف اليوم -في حدود مايسمح به المجال- عند مسألة الكذب الفني في المسرح. وهذا موضوع لم أختره اعتباطاً، ولا هو مجرد مسألة أكاديمية مقطوعة الصلة بواقعنا المسرحي ومشكلاته، فالواقع أن هذه مسألة وثيقة الارتباط بالاتجاهات السائدة في مسرحنا المعاصر. ذلك أن الاتجاه نحو التغريب عند بعض فنانينا المسرحيين وقد تطرقت إليه في حديث سابق) إنما يستند إلى الاعتقاد بأن المسرح يجب أن يتنزه عن الكذب ويكف عن الإيهام.‏

وقد نجم هذا الاعتقاد عن الالتباس الذي وقع فيه هؤلاء الفنانون عندما افترضوا أن للكذب الفني مدلولاً أخلاقياً سلبياً، ورفضوه على هذا الأساس. والكذب الفني -كما أسلفت في مقالي السابق- لا يقبل مثل هذا القياس الأخلاقي لأنه ذو محتوى جمالي محض. وعليه فهو لا يقاس إلا بمقاييس الجمال وحدها.‏

والواقع أن هذه المسألة قد حسمت منذ زمن بعيد، فمنذ القرن الرابع الميلادي ميز القديس أوغسطين في أكثر من كتاب بين الكذب الفني البريء والكذب الذي يراد به تشويه الحقيقة بقوله إن النوع الأول إن هو إلا تعبير مجازي يرمي إلى غير معناه الظاهر، بينما لا يشتمل الأخير على معنى آخر غير معناه المباشر .‏

ولكن ما الذي يجعلني أعتقد أن المسرح أكثر إمعاناً في الكذب من بقية الفنون؟
وما هي هذه الطبيعة الخاصة التي تقتضي أن يكون كذلك؟‏

عندما نتحدث عن فن المسرح فنحن في الواقع نعني أمرين: النص الأدبي والعرض المسرحي، أي الصورة الذهنية التي رسمها المؤلف على الورق والصورة الحسية التي بناها المخرج على خشبة المسرح.‏

ولن أتناول هنا الكذب الفني -أو الإيهام المسرحي- الذي تمارسه عناصر العرض، فكلنا يعرف أن القلاع الحصينة التي نراها على المسرح أحياناً إن هي إلا جدران من الورق المقوى لا تقوى على تحمل ركلة قدم، وأن عقود الماس التي تتلألأ على صدور الملكات في المسرح ليست في الحقيقة إلا قلائد من زجاج رخيص، وأنَّ قارورة السم التي يتجرعها روميو في الفصل الأخير من مسرحية شكسبير المعروفة لا تحوي غير الماء وقد لا تحوي شيئاً على الإطلاق.‏

لن أتناول إذن هذا الجانب المعروف من الإيهام المسرحي، بل سأتناول جانباً آخر لا ينتبه إليه المشاهد عادة، وهو الجانب الذي يكمن بالضرورة في صلب النص المسرحي ذاته.‏

تلتقي الدراما النص المسرحي) بالرواية -كما هو معروف- في أن كلتيهما تروي قصة ذات دلالة، لها بداية ووسط وختام. ولكن المجال الروائي أرحب بكثير من المجال الدرامي الذي تحدّه أبعاد زمنية ومكانية ضيّقة. -فالمسرحية التقليدية ذات الفصول الثلاثة لا يستغرق عرضها عادة سوى ساعتين أو ثلاث على أبعد تقدير. ويتوجب على المؤلف المسرحي أن يقدم إلى الجمهور أبطال قصته وبيئتها وأحداثها ضمن هذا الإطار الزمني المحدود. ويكفي أن نتذكر عدد الشخصيات وكثرة الأحداث في مسرحية كمأساة الملك لير -مثلاً- لندرك إلى أيّ حد ينبغي على المؤلف المسرحي أن يراعي الاقتصاد في تصوير الأشخاص والأحداث. والمؤلف مقيد، من الناحية الأخرى، بالمساحة الضيقة التي يقدم عليها العرض المسرحي، فهو لا يستطيع أن يتابع أبطاله في تنقلاتهم الواسعة -كما يفعل الكاتب الروائي- بل يستنبط الحيل ليأتي بهم فرادى أو مجتمعين إلى هذه المساحة الضيقة التي لا يستطيع مبارحتها. وقد واجه المؤلفون منذ ظهور المسرح هذه المشكلة الزمنية -المكانية، فكانت المآسي الإغريقية تدور في مكان وضمن فترة لا تتعدى في الغالب دورة شمسية واحدة. ومن هنا جاءت نظرية وحدة الزمان والمكان المنسوبة -خطأ- إلى أرسطو. ورغم التطور التقني الذي تحقق للمسرح في العصر الحديث، مما يتيح إمكان تغيير المشاهد بسرعة، فقد ظلت أحداث المسرح، عموماً، تدور في أمكنة محدودة، وأحياناً في مكان واحد لا يتغير منذ بداية المسرحية حتى نهايتها. ويجب أن نضيف إلى هذه القيود الزمانية -المكانية شيئاً آخر، هو غياب عنصري الوصف والتحليل في المسرح، فالمؤلف المسرحي لا يستطيع أن يغوص إلى دخائل شخصياته ليكشف لنا عن أحاسيسها ودوافعها، كما يفعل كاتب الرواية أو القصة، ولا يستطيع أن يصف لنا ماضي هذه الشخصيات مثلاً، إلا إذا وضع هذا الوصف على لسان أحد أبطال المسرحية. ولهذا فالمصدر الأهم الذي نستمد منه معلوماتنا عن الشخصية المسرحية -عادةً- هو فعلها الدرامي والكلام الذي يجري على لسانها.‏

هذا -بمنتهى الإيجاز- هو مانعنيه عندما نتحدث عن طبيعة فن الدراما. وهي طبيعة تفرض على النص الدرامي مواصفات معينة تنأى به قليلاً أو كثيراً عن الصدق بمعناه المباشر. فالشخصية الدرامية التي تقدم نفسها إلى الجمهور دون وسيط، هي -في العادة- أكثر وضوحاً وحدّة من الشخصيات التي نلتقي بها في الواقع، وهي شخصية غالباً ما يهيمن عليها ويتحكم في سلوكها هاجس طاغ معين، أو عاطفة جارفة أو طبع مستبد. وهذا ما يجعل الشخصية المسرحية ترتبط عادة في الأذهان بصفة معينة شديدة الوضوح والتميز، فشخصية طرطوف ترتبط بالنفاق وشيلوك بالبخل واللؤم وياغو بالكيد والغدر.. الخ. وهي بذلك تختلف عن الشخصية الروائية أو الملحمية التي لا تستطيع دوماً تشخيصها بهذا الوضوح، وهذا ما عناه الفيلسوف هيغل بقوله: "إن الأبطال الدراميين في معظم الأحوال أبسط في ذاتهم من الشخصيات الملحمية".‏

والبطل الدرامي لا يسترسل في ما يسترسل فيه الناس من أحاديث فهو مقتصد في الكلام عادة، لا يقول إلا مايشف عن مقاصده وأحاسيسه. وليس من النادر أن يخاطب نفسه بصوت مسموع. وهذه حيلة يلجأ إليها المؤلفون ليساعدوا على معرفة ما يجول في نفوس أبطالهم.‏

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الحبكة الدرامية، فالمؤلف -كما قلنا- يستنبط المبررات ليجمع أبطال مسرحيته في مكان واحد أو أمكنة محدودة، وهو مضطر إلى الاكتفاء بأقل عدد ممكن من الشخصيات وإلى غربلة الأحداث وتكثيفها بحيث تحسم على المسرح في ساعة أو ساعتين صراعات إنسانية كبيرة معقدة، يتطلب حسمها في الحياة الواقعية فترة طويلة من الزمن.‏

هذه بعض أشكال "الكذب الفني" التي يستخدمها كتاب المسرح بحكم طبيعة الفن الذي يمارسونه. ولا أظنني بحاجة إلى القول بأن هذا النوع من الكذب لا ينطوي في ذاته على أي مضمون أخلاقي، وبالتالي فمن الخطأ أن نرفضه على هذا الأساس.‏ ‏


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى