السبت ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم ماجد عاطف

العجوز

إنّه عجوز تجاوز السبعين من عمره، ويصر على قطع المسافات الطويلة. تنهكه عقبات الطريق فيستريح في أكثر من محطة. إن سمح الموسم قطف "الخرفيش" وقشّره أمام البوابة الموصلة للبيت، وربما أطرق برأسه للحظات يستعيد فيها من ذهبوا، مثل عمّه، وما تغيّر من شجرٍ وحدودِ أرضٍ ومبنى.

غالباً يأتي على مهل ويحرص على التكلم مع نفسه قبل أن يصله أو على اِحداث جلبة تنبه إليه، ويكون الشاب في الداخل على مقربة أو في الحقل المجاور، فيأتي. قد يستقبله أولاً وقد يسبقه العجوز أمام الباب ويفاجئه، وبعد السلام والابتسامات والتحايا، يأتي سؤاله مثل قالب الجص الذي لا يتغيّر:

  كيف حالك اليوم؟

لم يتح له يوماً التأكد مما إذا كانت هذه طريقة سؤاله للجميع، أم أنها خاصة به. هي تشعره أن حاله متغيرة، تستدعي، كل مرّة، السؤال، مع أنها مستقرة.. كأنّه يتابع فيّه تفصيلاً معيناً أكثر منه حالا عامة. لا يعرف أصلاً كيف يراه فهو في نصف عمره، مسافرٌ لفترة طويلة قد عاد فقط منذ عامين؛ وحتى عندما عاد بقي في شأنه، قلما يخالط أحداً (إلا إذا كان سقوط كرة الأولاد في الساحة، أو توغل بقرة هاربة، أو مجيء قارئ عداد الكهرباء مخالطةً).

  بخير من الله.
  الحمد لله.

فإذا كانت في كأس الشاي بقية، ارتشفها العجوز ومضى لا يزيد، ينحني رأسه كأنه يفتش في التراب عن نفيس أضاعه، مجرجراً خلفه دمايته المخططة الرثة.
أحياناً يأخذ في سرد أخبار لا يتابع الشاب خلفياتها ولا تهمّه، ولكنه يستحي من قول هذا له، فيتركه يسرد كيف شاء. وبلور فكرة متكاملة عنه مفادها أنه خرف يعيش في الماضي، الحاضر عنده مجرد إحالة لا أكثر، وهو لا يعرف هذا ولا ذاك، يستحيل عليه أن يفهمه. يستقبله من باب الاحسان وربما التسرية، وعلى العموم فإن مشاغله قليلة ينفق معظم وقته في القراءة ومشاهدة التلفاز. لكن كانت هناك أشياء يفكّر فيها بهدوء، ويقلّبها -يوماً وراء يوم- على وجوهها المختلفة. إنه يعرف ما يريده في الدنيا بل ويعرف أيضاً كيف سيحققه، والمتبقي كان مجرد انتظار.

ويأتى ظهر يوم من الأيام، متمايلاً: يحمل كيساً صغيراً بيد ويضغط بوزنه عبر عصا على الجهة الأخرى، ليستعيد التوازن. كان كيساً من القثاء الصغير وضعه إلى جانب العتبة.

  كيف حالك اليوم؟
  بخير من الله.
  الحمد لله.

لما رآه متضايقاً من الهدية، قال ضاحكاً:

  فقوس "البر". (و"البر" منطقة منبسطة بعد جبلين يملك العجوز فيها قطعة صغيرة)

فلم يرد.

  عمّك –ألله يرحمه- كان يحبّه!

أحرجته الفكرة، فهذه هدية يتوجب عليه ردها بمثلها أو أحسن منها، وهو أمرؤ لا يحب تلقي الهدايا ولا ردّها.. يعيش بدخله الصغير الذي خطط له أن يستمر طويلا. لأجل هذا، إضافة لميله للوحدة، تجنّب المناسبات الاجتماعية كافّة. وثمّة مَن غضب عليه من الأصدقاء القلائل، ذات خضرة وربيع، كيف أنه لم يتحمّس لزيارته مع أنها كانت رغبة غالية. تركه يتحامل عليه ويظن به الظنون لكنه لم يستطع اخباره بالسبب.

كان عليّه أن يجد، بسرعة، شيئاً يرد به الهدية في وقتها، وإلا فإنها ستصبح أكبر بكثير.. إذا ما صارت ديناً.

** **

وجلب، في مرة أخرى، ضمة من النعناع.

هذه أسعدته! مقتلعة باليد لم تكلف شيئاً ومن السهل ردها. ذهب على عجل ليصنع الشاي الخفيف، فسيكون مذاقه مع النعناع رائعاً. لمّا هم بفك الضمة، انتزعها من يده بجلافة لا تصدر إلا عن يد خشنة:

  هذه للزراعة..

مجدداً لم يفهمه.. احتار ماذا يفعل، فتشاغل بصب الشاي. طلب قدّوما فأحضره له. عقد دمايته الرثة على خاصرته وتجلت ساقاه بالسرول الأبيض والقى عصاه وغطاء رأسه على الأرض. أخذ يسوي مساحة معشوشبة -لا تتجاوز مترين مربعين- أمام المنزل.

فيتأمله ويجد إنّه غارق في مكان ما، داخل ذاكرته، ربما اتخذ فيه قراراً هاماً.. ربما هناك التقط فكرة حيوية أو قرر موقفاً ودياً من شخص ما أو تلقى خبرا.. ربما تباطح مع خصم له فبطحه أو انبطح. مَن يستطيع حصر تفاصيل علاقة عجوز مع أرض؟

أما الأماكن عنده، هو الشاب، فهي لا تعني الكثير: هي باقية ونحن ذاهبون، أو ربما هو الذاهب. والزراعة يجهل عنها كل شيء. لو مر من أمام شجرة مثمرة، ما خطر له أن يقطف منها. يفضل ترك الثمار على أمها دون أن يفرق بينهما.
صار العجوز يلهث من التعب مع أن الجهد المبذول طفيف. سوّى طبقات التراب مراراً حتى أصبحت ناعمةً، ثم غرس جذور العروق -كما لو كان يغمرها بأصابعه في الماء- ورواها، والآخر يتفرج. وكأنه استحق نتيجة تعبه، طلب شاياً مرة ثانية. كان راضياً عن نفسه.

قال له وهو يرتدي ملابسه:

  آن لك أن تتزوج.
ضحك من الفكرة، خاصة كيف تسلسلت. لم يكن متأكداً من التداعي، فسأله:
  لماذا؟
وأجاب بعد أن دس يده في الكُم وصنع بها نصف دائرة:
  لمن ستترك هذا كلّه؟
ذعر من جوابه لكنه تمالك نفسه.. أن يكون واضحاً بهذه الدرجة! وخطر له -بشكل ما- أن سلوك العجوز معه كان لغة تعتمد على الأداء في ايصال المعنى، وليس على الصوت..

ليست "اللغة" غريبة عنه، إنه يعرفها جيداً كما يعرف دواعيها، لكن الغريب أن يكون العجوز الذي يستخدمها.. هو الخرف رثّ الثياب الذي لا يتردد في التبول على قارعة الطريق، إذا ما دهمته الضرورة!

رد بلا اكتراث:

  كما وصلتني تصل غيري.

بعد أن ذهب، بقي لساعات مستغرقاً في مواقفه يستعيدها واحداً واحداً..
لقد تبيّن له المغزى الكلّي بعد أن حذف العفوية أو عامل الصدفة. لم يكن وحده الذي يعرف هدفه أو الذي ينتظر. كُثرٌ هُم سكوتٌ يحتسبون. يناجون -إذا لم يجدوا من يكلمونه- حفيف الورق وتيار الريح وعري الصخور؛ وحين يأتي الليل تأتي معه أشياء كثيرة فتضيء منطقة سَكنٍ في القلب، آمنة. ويتحوّل الكون من ظواهر ذات مظاهر إلى وعي مطمئن يستوعب الوجود بأكمله، ويحضره الذين يحبّهم مهما كانت المسافة الفاصلة. وبعد الصدمة، إن احتمل، تتجلى له مراحل الصوفيين الثلاث، إنما دون صوفية، ويصير قادراً على أن يتمثل أية كينونة. وربما هتف لها من شدة تماهيه معها:

  أنتَ –أو أنتِ- أنا!
كان عليه أن يتأكد.

قبيل مساء، أخذ يراقب بدقة وهدوء لا يسمحان للذي داخله أن يتجسد خارجه، مرور العجوز ومحطة استراحته.

يلم العجوز ثوبه عند البوابة محرراً ساقية ويراقب الطريق من خلفه منحنياً في الأثناء.. عندها يمضى نحو ورقات عنب أطارتها الريح من دالية الدار المجاورة، فيقدّر أن عابراً في الطريق أتى (ويكون محقاً). يجمع العجوز باهتمام شكلي كل ورقة يابسة كما لو كان يقطفها ليحشوها بالأرز، ويضعها على الأرض فوقها حجر، فيلاحظها العابر ويضحك من العجوز الذي عاد طفلاً يلهو.

ويلمح الشابَ ينتظره أمام الباب لكنه لا يأتي مباشرة، بل –كعادته- يتوقّف يستعيد حدود الأرض التي تداخلت الآن (بينما كانت في السابق واضحة). يشير لشجرة لوز ركّب عليها فلاح غبي مشمشمةً غريبة، ويقترح أن يقطع الفرع الغربي المركّب. "سينمو لوزاً في السنة المقبلة وستكون الحبات أفضل"، يقول بصوتٍ عالٍ.

لم يعرف الشاب أين يركز: هل على الكلام خاصة "الغربي المركّب"، أم على "القطع"، أم على اليد التي تشير -في الأثناء- إلى المستوطنة؟

وقد ينسى العجوز ايقاع خطواته فيتلفّت ثم يعيدها كما كانت: بطيئة منهكة.
لا، ليس عجوزاً كما يظهر! دهنه، هذا العتقيّ، خفيّ جداً. وعندما يصله، يسأله –على غير العادة- عن قبر عمه: هل نظفه؟ مات العم جندياً ذات حرب، لكن ما المغزى؟

قبره قديم تحللت العظام التي فيه، وانزاحت البلاطات التي فوقه، وكان يخيّل له أن في شقوقها هوام الأرض، فكان يتجنّبه.

فيجيبه، بحياد، أنه قريباً سيفعل.

  أنا عجوز، بعد أن أذهب اقرأ عني الفاتحة!

ويلتقطُ المفردة هذه المرّة خطرةً: لأن "الظرفية" واضحة كما هي النبرة التي تتغيّر.. لكن الشرط ألا يرد بما يفصح أو يصرّح بالمعنى أو حتى عن الفهم. ويمسك العجوز بالعصا أفقيةً من منتصفها ويرفعها براحته الأخرى عن جانبها فتنزلق كأنها... إإيه، توضح أيها العجوز قصدك!

ويدخل إلى المطبخ كعادته ليصنع الشاي، فيلحقه بالصوت المنغّم أنه يريد "قهوة مُرّة"..

عندما يعود بالقهوة محمر الوجه قد تلقى وتسلم، يكون العجوز قد ذهب، فيرتشفها وحده مباشرة: من الركوة الساخنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى