الثلاثاء ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم إياد الرجوب

اليوم الذي وبّختني فيه أشيائي

فجأة، صارت الطبيعة غير الطبيعة، والأشياء غير الأشياء، كل شيء تغير، ولم أدرك واجبي في مسايرة تطورات العصر، عشتُ روتين الحياة سنين، ولم أتنبه لضرورة التغيير، ظللتُ كما كنت، فوجدتني أمام ما لم أتوقع.

المنشفة ترفض دخول الحمام

نهضت من النوم، فاصطدمت بأول مفاجأة، رفضت المنشفة مطاوعتي والدخول معي للحمام، تناولتها من على المنْشَر فصرخت في وجهي: اتركني أيها الأحمق، فمثلك لا يليق بي أن أدخل وإياه إلى الحمام،. تلفتُّ حولي علّي أجد مصدرا إنسيّا أنثويا للصوت، يا إلهي! ما الذي يجري؟ من صاحبة الصوت؟

خلّصت المنشفة نفسها من يدي وقالت: انصرف، لا تحاول أن تتجاهلني، فلا تتلفت يمينا أو شمالا، أنا هي صاحبة الصوت، أرح نفسك ووفر وقتك، لن أدخل معك الحمام، ولأكون صريحة معك أكثر؛ لن أسمح لك بأن تلمسني يا وضيع، ابحث لك عن منشفة أخرى تسقيها عصارة قاذوراتك، فقد شربت منك حتى ارتويت ظانة انك ستَنظَف في احد الأيام وتنتعش مروءتك، وتغار على عرضك وأرضك ودينك، وتخرج للناس شاهرا سيفك، لكنك كنت تزداد قذارة وخنوعا وشربتَ ذلاً حتى الثمالة، اغرب عني يا سافل.

انتابني شعور مخيف من توبيخ المنشفة، فقررت التنازل لها عن حقي فيها، فقد كنت اشتريتها منذ شهور ودفعت ثمنها للبائع، وظننت ساعتئذٍ أنها أصبحت ملكي ورهن إشارتي، لكنني اكتشفت اليوم أنني ذهبت في الظن بعيدا، فالمنشفة ليست جارية تمتلكها وتتحكم بها كيفما شئت، المنشفة ليست أنثى عربية تسمع وترمع.. وصوتَها لا ترفع، تركتها هناك على المنشر، ودخلت الحمام من دونها، كان همي حينئذٍ أن أغسل وجهي ولا تهمني لحظة ما بعد رشقه بالماء.

الماء يضحك في الصنبور

وللحقيقة؛ فقد دخلت الحمام وأنا أرتجف رعبا من حديث المنشفة، فتحت الصنبور.. ويا للهول! انهمر الماء رماديا مصحوبا بضحكات مستفزة، ارتعبت جدا، ولا داعي للتلفت هذه المرة، فالصوت قادم من الصنبور، نعم الضحكات خرجت من الصنبور كأنها انهيارات صخرية، ضحكات خشنة كما لو أنها صادرة عن عجوز أكل صدره التبغ، فغدت حنجرته أوسع من مئذنة مسجد قريتنا، لحظات.. وصار الماء الرمادي يتساقط حبيبات مجمدة من الصنبور، توقفت الضحكات، صاح بي صوت جهوري مستهزئا: أرني الآن أيها الخائب كيف ستزيل عفونة وجهك، رجوتُ الصوت موجها ناظريّ للصنبور: كأس ماء من فضلك ولن أستزيد، رجاءً لا تفشّلني، عندي اجتماع رسمي بعد قليل، ولم يبق لدي وقت، سأنهي وإياك أي خلاف بعد عودتي، ساعدني الآن كي أغسل وجهي ولك ما تريد.

رفض الماء أن يغدو سائلا، وصاح: الآن ترجوني وتتحجج بالوقت؟ أين كنت كل السنوات الماضية؟ ماذا فعلت من كل اجتماعاتك الماضية، ماذا استفدت أنا منك ومن اجتماعاتكم، ها أنا في طريقي للانقراض، أصبتموني بالعقم، وأنت تعلم ذلك منذ سنين، فهل خصصت لأجلي اجتماعا واحدا؟ طلبت منك أن تساعدني في تكاليف عملية زراعة لأتكاثر بالأنابيب، لكنك بخلت علي بكل شيء، ولم تخصص لي ولو دقيقة واحدة في أحد الاجتماعات لتناقش مشكلتي مع أصدقائك علها تجد حلا، والله لئن لم تنصرف من أمامي لأرشقنّك نارًا تسلخ جلد وجهك وتعميك إلى يوم الساعة.

حتى الحبيبات المجمدة توقفت في الصنبور، ولم أرشق وجهي بقطرة ماء، خرجت للمطبخ مقهورا علّي أجد قنينة كنت أملأها للشرب، فلم أعثر على قطرة، جفّت المنابع بوجهي وقررت ألا اغسله كي يتأكد الأعضاء من إجحافنا بحق الماء.

باب الدولاب يتوعّدني


عدت للدولاب حتى أستبدل ثيابي، حاولت فتح بابه فرفض وصرخ بي أن أبتعد، طلب مني ألا ألمسه.

  لماذا يا باب؟
  لأنك أنت.
  وماذا صرت أعني لديك؟
  صرتَ تعني ذليلا، وأنا أعيش عمري واقفا ولا انحني، فكيف تريد مني أن أطاوع من أدمن الانحناء؟
  بالأمس كنت مطاوعا يا صديقي؟
  كنت أعيش اللحظات الأخيرة من صبري عليك.
  وماذا استجد اليوم كي تعاملني بهذه القسوة؟
  اليوم انتهت المهلة التي أعطيناها للأذلة حتى يستعيدوا كينونتهم.
  من أنتم؟
  نحن الأشياء.
  ألا تستطيعون تمديد المهلة يوما واحدة حتى نناقش مسألة تقصيرنا معكم طيلة القرون الماضية؟
  إن كنتم عجزتم على مدى قرون، فهل ستفلحون في يوم واحد؟
  دعنا نحاول.
  ابتعد يا سافل، فوالله إن اقتربت لأمسخنّك وألبسنّك جلد ضبّ لا تخلعه أبدا.

المشط يتفوه بألفاظ نابية

كان الحوار مع باب الدولاب أشبه بحوار مع رجل أمن يقف على باب الرئيس لا يفقه من أدب الحوار إلا فن الأمر بالابتعاد، فابتعدتُ غارقا في صمت عميق، حاولت أن أرتب شعري قليلا فرفض المشط المطاوعة أيضا ووبخني بألفاظ نابية أخجل من ذكرها، ومثله الحذاء الذي كنت انتعله وأمرغ وجهه بوحول الشوارع يوميا، لم يقف الأمر عنده حد الرفض والتوبيخ، بل راوغني وصفعني على وجهي وشعرت أنه ترك بصماته واضحة على جبيني، وعندما ذهبت للمرآة أتأمل شكلي وأتأكد من بصمات الحذاء؛ لم أر وجهي في المرآة، بل رأيت صورة تشبه الحذاء، بل رأيت الحذاء تماما.

قررت التوجه للاجتماع كما نهضت من نومي، فما المشكلة في البيجاما؟ على طبيعتي الحقيقية، لا داعي لستر أي بشاعة يسببها النوم والتقلب في السرير، كثيرون منا يذهبون برغبتهم لوظائفهم بثياب النوم، فما الضير أن أذهب اليوم بها إلى الاجتماع؟ خاصة وأن ظرفي قاهر.

نقاش جنسي عميق


دخلت قاعة الاجتماع، فاندهش الحضور من منظري، لم يصدف أن رأوني مرة مبعثر الشكل، فكيف وأنا قادم لاجتماع رسمي؟ نهض الجميع وحيوني ثم جلسنا، لم ينبس أحد ببنت شفة حول شكلي الغريب.

لم يكن الاجتماع مخصصا لبحث شيء، بل كان انعقاده واجبا يمليه النظام الداخلي للحفاظ على دورية الاجتماعات وتسجيل الجلسة في التقرير الإداري السنوي، تسلينا في البداية بحديث موجز عن قصص عادية جدا تحدث كل يوم، من قبيل استشهاد أم وابنيها في قصف صاروخي، وإعدام أخويين بعد اعتقالهما، وإهانة أحد الوزراء واختطاف آخر، وافتراس كلب لسيدة أمام عيون الجنود، وإلقاء مستوطن زبالته على رؤوس أسرة فلسطينية، والتحرش الجنسي بأسرى أطفال وأسيرات، وولادة أسيرة في السجن، ....الخ. حديث عادي لا يحرك أي مشاعر ولا حتى يفتح مواضيع للنقاش.

بعد ذلك دخلنا في حديث عميق مهم جدا انسجمنا فيه واستمتعنا، تحدث راسم عن إيقاعه بإحدى الفتيات ونومه معها، وكيف انسل من الموضوع مثل الشعرة من العجين، وعلقت هدى عليه بالقول إن الرجال بطبيعتهم خائنون، فرد فهد عليها بأنه أحب أربع مرات، وفي كل مرة كان يكتشف خيانة حبيبته، ومع ذلك فهو لا يعمم حكمه وما زال يبحث عن أنثى وفية، وشرع سالم يشرح كيف اكتشف سرا عظيما عن أكثر الأشياء لذة ومتعة في الحياة، وهو في نظره ممارسة الجنس، ودليله أن المرأة تكاد تفقد حياتها عند الولادة الناتجة عن ممارسة جنسية قبل تسعة شهور، ولا تكاد تنقضي أيام النفاس الأربعون حتى تراها تلتصق بزوجها تريد إعادة الكرة، فلو لم يكن الجنس هو متعة الحياة لما أقدمت عليه المرأة بنهمٍ، وهي تعرف أنه ربما يفقدها حياتها عند الولادة.

انبرت سناء تدافع عن الغريزة الجنسية عند المرأة وغلّفتها بمنطق غريزة البقاء، فساد جو من النقاش المنطقي في الموضوع، وغدا الحوار لا يُمل، ولم نستفق على أنفسنا إلا وقد أخذ منا الاجتماع ساعات، كنت خلالها أتحين فرصة صمت حتى أطرح أمام الحضور قصتي مع المنشفة والماء وباب الدولاب والحذاء والمشط والمرآة، لكن لم أظفر بفرصة لذلك، وأخيرا انتهينا من قصة سعدي مع جارته التي وقف وراء بث الشائعات حولها والتسبب في طلاقها من زوجها، وقد عد ذلك نصرا مؤزرا له، لأنها كانت أقسمت بحياة زوجها أن تنتقم منه يوم راودها عن نفسها، فقرر أن يتحداها ويُخرّب بيتها.

همّ الجميع بالمغادرة، ترددتُ في أن أطلب منهم التريث حتى أطرح قصتي، خشيت أن يصموني بالجنون، فقلت لنفسي: فلتعد للبيت وتتأكد من أشيائك مرة أخرى، فربما كان كابوسا.

"يلعن هيك بشر"


عدت للبيت، فوجدت ثورة أشيائي عليّ على حالها، لم تخفت، بل هذه المرة أردت تسخين الطعام، فحذرني الغاز بصرامة بعد المحاولة الأولى لإشعاله وقال: أتدري أيها المنحط؟ والله إن أعدتَ المحاولة لأشعلنّ فيك النار وأحرق البيت فوق رأسك، "يلعن هيك بشر".

قررتُ ترك البيت، فنصحني الباب وأنا أتجاوزه للخارج قائلا: لا تبحث عن بيت بديل، فلن تفلح في العثور على ضالتك، لقد أعلنا الثورة اليوم، انتظرناك هذا اليوم أيضا أن تطرح في الاجتماع قصتك التي أرّقتك صباحا، لكنك كنت أجبن من أن تطرحها، وتركتَ وأصدقاؤك قضاياكم المصيرية ورحتم تناقشون قصصكم الرّخيصة التي لم تملوها منذ قرون، ألا تستطيعون الانطلاق إلى أبعد مما بين أفخاذكم؟

طأطأتُ رأسي وسرتُ هائما على وجهي لا ادري إلى أين، فكّرْتُ وحلّلت وفسرت، فوجدتُ أشيائي محقّة، ولم أجد جوابا أستريح إليه أحاجج به المنشفة، ولا الماء في الصنبور، ولا باب الدولاب، ولا حتى حذائي العزيز الذي ما زالت بصماته واضحة على جبيني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى