الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

يومية جسد

لملمت السماء الدثار المعتم الذي غطت به وجه النهار فبدأت أطراف النهار في الظهور رويدا رويدا خيوطا فضية من فجر جديد وعما قليل ستعتلي الشمس عرشها متطلعة إلى الدنيا تحتها من فوقه حيث سهل منبسط وبضعة أشجار متناثرة هنا وهناك وحوض ماء واسع على هيئة مربع على أحد أضلاعه تقوم طلمبة ماء ضخمة لسحب المياة من جوف الأرض.. و.. جسد ممدد أمام البئر على ظهره معطيا مشرق الشمس جانبه الأيسر.. رأسه ملقى على الكتف اليمنى في اتجاه مغرب الشمس.. الأقدام حافية.. والأرجل منفرجة على آخرها..

مشهد جديد مبهم أمام عيون الفجر المغطاة بالضباب وندى الصباح ولكن ما أن اعتلت الشمس عرشها حتى بدأ المشهد في الوضوح قليلا..

كان الجسد لفتاة.. في العشرين كانت.. عميقة السمرة.. مجدولة الشعر في ضفائر صغيرة.. ناهدة الصدر.. فائرة الجسد.. تلبس جلبابا قبل أن يمزق في أجزاء عدة ويعفر بالتراب وقد انحسر عن نصفها السفلي كاشفا من أول سرتها حتى أطراف أقدامها.. أنامل يدها اليسرى مغروسة في التراب كأنها تتشبث به.. هذا ما رأته الشمس من على عرشها الدوار في هذه الساعة من الصباح.. أما ما لم تره الشمس فهوالوجه الأسمر البرئ ذوالتقاطيع المليحة والعيون الواسعة التي ترنوفي اتجاة مغرب الشمس بنظرة يائسة والفم الدقيق الذي يبتسم ابتسامة باهتة.. ابتسامة ساخرة..بينما خيط جاف من دماء ينسكب من زاويته اليمنى.. ويد يمنى ممدودة عن آخرها في اتجاه مغرب الشمس وكف منبسط وكأن صاحبته تستجدي النجدة وبطن متوضعة للخلاء وأرجل منفرجة كاشفة عن عورة معراة.. منتهكة.. تحيط بها هالات زرقاء من كدمات عنيفة وخدوش غائرة كأنها طعنات أنصال حادة متقاطعة في منطقة العانة وفي فخذيها من الداخل، وصدر ناهد ولكنه جامد في مكانه بعد كف القلب الذي بداخله عن النبض، ولفظت الرئة بآخر ما في جعبتها من أنفاس..

هذا ما لم تره الشمس من عليائها في هذه الساعة من النهار، ولكن قد تراه عندما يدور عرشها دورته اليومية ويذهب بها إلى حيث الغروب ولكن قبل أن تستطيع الشمس رؤية هذا المشهد كاملا كان آخرين باستطاعتهم رؤية هذا المشهد عندما أقبلت قطعان من الماعز والأبقار إلى حوض الماء لتمد بوزها وتلعق سطح الماء الرقيق المتبقي به ثم تنتشر حول البئر وحول الجسد الملقى تلتهم الحشائش النابتة في الأرض، وظلوا في أكلهم وشربهم حتى أتى راعيهم يتهادى في بطء من بعيد.. يجيل نظره في قطيعه حتى وقع بصره على الجسد الملقى.. اقترب منه في حذر وهويحملق فيه بذهول ثم ارتسمت على وجهه آي الرعب ما إن تبينه فراح يصرخ في قطيعه ويضرب فيه بعصاة كي يطرده من المكان، وظل يجول في المنطقة كالممسوس جريا وراء أبقاره وغنماته ضاربا لهم صارخا فيهم حتى أجلاهم تماما عن المكان ثم ألقى آخر نظرة مرعوبة على الجسد ثم ولاه ظهره وأطلق ساقيه للريح وعرش الشمس يدور بها في الساحة السماوية..

يمر الوقت.. ينتصف النهار.. من بعيد تتهادى أصوات أنثوية ضاحكة.. بعد لحظات تظهر صاحبات الأصوات الضاحكة.. مجموعة من النسوة ذوات أعمار مختلفة بوجوههن السمراء العميقة وجلابيبهن المشدودة في مناطق من الجسد مبرزة نهودا مختلفة الأشكال والأحجام وأردافا مستديرة.. يحملن فوق رؤوسهن جرار مياة.. كن قد قدمن نحوالبئر.. عندما اصطدمت أعينهن بالجسد الملقى جمدوا في أماكنهن.. تفحصن الجسد من أعلاه إلى أسفله.. درن حوله.. توقفن عند البطن المعراة والأرداف المكشوفة والعورة المنتهكة.. صحن وقد أدركن ما حدث لهذه الفتاة أومن كانت فتاة ثم تبادلن همهمات.. ليست همهمات شفقة ولكنها سباب لصاحبة الجسد، تطلعن إلى العورة في قرف.. ابتسمن في مزيج من التقزز والسخرية وبعض من الشماتة.. ضحكن ضحكة ساخرة مبتورة كأنهن مصابات بالزغطة ثم انصرفن إلى البئر، انهمكن في ملء الجرار غير عابئات بالجسد الملقى وكأنه غير موجود بالمرة.. تبادلن أحاديث خليعة.. تبادلن ضحكات ممطوطة.. هممن بالانصراف عندما رأين شابا في الثلاثين طويل القامة مفتول العضلات وسيم الملامح يضع نظارة شمسية على عينيه يرتدي قميصا وبنطلونا وحذاءا من فرونمر.. يحمل بندقيته الآلية متقاطعة على ظهره ويربط خنجرا حادا على ذراعه اليسرى.. توقفن.. تبادلن همسات وضحكات رغبة مكتومة.. ابتسم عندما رآهن.. أقبل عليهن وذهبن إليه.. أحطن به.. طفحت الرغبة من على ملامحهن ونظراتهن وكلماتهن.. احتكت صدورهن وبطونهن (عمدا) بجسده.. وهو.. كان يرسل ضحكاته إليهن.. أما ذهنه فقد كان منصرفا تماما تجاه الجسد الممدد وعيناه من تحت الفاترينة الزجاجية السوداء تتطلع إلى الجسد الممدد في شغف ترفع من على بقيته الجلباب لتعرية تماما، لحظات ثم فقد اتصاله بالأخريات، أحسسن بانصرافه عنهن كلية إلى هذه ( الحقيرة ) المنتهكة.. انسحبن موليات ظهورهن له ولكن رؤوسهن أخذت تتلفت إليه بين الحين والحين تقذفه بنظرات الرغبة والشبق والحسرة على لذة لم تنل..

أما هوفقد اقترب من الجسد.. يسيل الزبد من فمه بينما تهتك عيناه ستر النهد.. يرسل لسانه الغليظ يلعق الزبد السائل على شفتيه بينما يتأمل البطن.. تنقلب نظراته المشتهية على حسرة وهويتابع الخطوط الغائرة في الفخذين وحول العورة.. يطلق تنهدة حزينة.. لا على صاحبة الجسد ولكن على ذاته التي كانت أحق بأن تذوق حلاوة هذه العورة.. انسحب بنظره صاعدا إلى النهد المستور.. هم بأن يفعل شيئا ولكنه تدارك.. ما قيمة أن تنهل عيناه من حلاوة نهد ميت ؟ ياللحظ العاثر ويالحظ من ذلك الذي سبقه إليها.. هكذا قال لنفسه وهويهز رأسه متحسرا ثم نفض الحسرات عنه وانطلق في الاتجاة الذي سارت فيه النسوة يتبعهن تشيعه النظرات اليائسة والفم المرسوم في سخرية..

أطفأت الشمس آشعتها الحارة وهي تتأهب للمغيب عندما أقبل اثنان من عساكر الشرطة أحدهما يحمل أربعة أعواد من البوص والآخر يحمل بكرة من شريط أصفر عريض، بحركة آلية اقتربوا من الجسد وبحركة آلية غرس أحدهم أعواد البوص الأربع حول الجسد على شكل أركان مربع وبحركة آلية فرد الآخر الشريط الأصفر العريض حول الأركان الأربع صانعا حاجزا حول الجسد، لف العسكري الشريط عدة مرات حول الأركان الأربع ثم ثبته في أحد الأعواد بشريط لاصق.. اقترب من صاحبه فانفرج وجهاهما عن ابتسامة رضا بددت الآلية التي كانت تكتنفهما، أحاط كل منهما كتف الآخر بذراعه ثم انصرفا كتوأم ملتصق برأسين وذراعين وأربعة أرجل..
حدث كل هذا ولم تقع عين أحدهما على الجسد ولوعفوا.. بل ولم تقع على الكلمات المكتوبة بالعربية والإنجليزية بالتبادل على الشريط الأصفر العريض والتي كانت تقول " احترس.. خطر " ولا على علامة الجمجمة المرسومة على الشريط بين كل كلمة بالعربية ومثيلتها بالإنجليزية والتي توحي بأن ما في داخل هذا السياج الأصفر المربع خطر فاتك وليس جسد منتهك.. وقد تكون أعينهم قد وقعت على هذه الكلمات وهذه العلامة.. وقد يكونون قد وضعوا هذا الشريط ذوهذه الكلمات والعلامات عن قصد.. قد يكون..

أخيرا.. تواجة الوجهان.. وجه الشمس الغارب ووجه الفتاة اليائس الساخر..
أخيرا.. اطلعت الشمس على الفرج المعرى المنتهك..

دمى وجه الشمس خجلا.. دمى غضبا.. دمى.. ولكنه استدار منسحبا ململما خلفه خيوطا من ألوان صفراء وبرتقالية وحمراء دامية.. جارا خلف هذه الخيوط دثارا أسودا معتم يغطي به ستر الأرض وستر الجسد..

انسحبت الشمس كما انسحب الجميع تاركة خلفها عينا يائسة ترنوفي اتجاه خط الأفق وفم يبتسم في سخرية ومرارة ويد ممدودة طالبة النجدة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى