الخميس ٦ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

قصة سندويتش

مد أطراف أنامله ليمسح لعابه السائل على شفتيه، عندما اصطدمت أنامله بشفته المتحجرة المتشققة تذكر أنه حتى اللعاب قد جف هوالآخر في جسده وأصبح ذكرى تماما كبطنه الضامرة التي عندما ضغط عليها أحس بأنه يضغط على فقراته القطنية ولكن أليس المشهد الذي يشاهده جديرا بأن يسيل له اللعاب وتنتفض معدته انتفاضة المستيقظ من قبر على نفخة بوق يذكره بأن هناك ما يعرف بالحياة؟

كذلك معدته استيقظت من موت طويل كي تستعيد ذاكرة الطعام عندما لمحت عيناه ذلك الكائن الأبيض ذوالبشرة البيضاء والشعر الذهبي اللامع كآشعة الشمس والعيون الملونة وملابسه الملونة تارة بلون الصحراء ة تارة بلون الزرع الأخضر والتي تزين أكتافها النجوم.. ذلك الكائن الأبيض الذي أصبح أحد مظاهر مدينة (الفاشر) الثابتة وكأنه جزء من تكوين هذه المدينة منذ الأزل..

عندما لمحت عيناه ذلك الكائن الأبيض يجلس على مقعد أمام أحد المطاعم الشيطانية - التي نبتت منذ مقدم ذلك الكائن الأبيض – يقضم ذلك الرغيف المسمى (سندويتش)..

كان الظلام دامسا إلا من بقعة ضوء - مسلطة على الكائن الأبيض الجالس – منبعثة من أحد الفوانيس المعلقة على باب المطعم وكأنها إنما سلطت عليه هوبالذات كي يراه بوضوح ذلك الجائع المتربص من الناحية الأخرى للشارع.. وكان الشارع خاليا تماما إلا منه هووهذا الكائن الأبيض.. وكل الظروف مهيئة له كي يختطف السندويتش ويختفي في الظلام الدامس الذي لا يختلف عن لون بشرته.. ولكن.. يختطف السندويتش؟ أهكذا يوحي له شيطانه الرجيم؟ ولكن كيف؟ هزته كلمة”كيف”هزا عنيفا.. لم يعلم أهي كلمة”كيف”هي التي تهزه كي ينفض عنه شيطانه أم هي الرهبة من (الكائن الأبيض) الخرافي هي التي جعلت جسده يقشعر؟ أيا يكن.. فإن شيطانه الرجيم قد فر للتوواللحظة.. أما جسده.. أوذكريات جسده.. فقد جفل منسحبا خلف صندوق قمامة كبير.. فقط عيناه امتنعتا عن الجفول فراحتا تهاجمان”سندويتش الكائن الأبيض”من جميع الجهات وما تبقى من عقله الحكيم يبتهل بأن يتخلى الكائن الأبيض عن نصف السندويتش.. أوربعه..

أوقطعه منه أوحتى فتفوتة.. وبدأ قلبه ينقبض انقباضات من تنزع منه الروح مع كل قضمة يقضمها الكائن الأبيض من السندويتش.. وتعالت أنفاسه متهالكة مضطربة ولكنه سمع لها صدا آت عن يساره، التفت يبحث عن مصدر الصدى فوجدها صورته التي في المرآة ولولا أنه لا توجد مرايا لظن أنها حقا صورته ولكنه كان شخصا آخر.. مظلم كبشرته.. ناحل كجسده.. مهلهل الملابس مثله.. منقرض البطن.. متطلع العينين إلى السندويتش الذي في الجهة المقابلة من الطريق.. لا يجرؤ هوالآخر على اختطافه وكذلك لا يجرؤ على تسوله ولكنه لم يختبئ خلف صندوق قمامة بل وقف على حافة الطوار يتطلع إليه (السندويتش) باشتهاء.. ولكن.. كيف يجرؤ هذا على أن يشاطره”فتاته”أوحتى يتطلع مثل تطلعاته؟فهب خارجا من خلف صندوق القمامة وتوقف بجانب ذلك المتطفل رامقا إياه بغيظ وتحد.. لم يحرك الشخص الآخر عيناه من على السندويتش أما هوفلم يعد يحفل بالسندويتش قدر ما يحفل بهذا المتطفل الوقح الذي شاركه حلمه..
لم يدري كم من الوقت مر وهولا يعلم”ما هوالوقت؟”

إذ هي إلا كلمة قد يسمعها ولا يدري لها معنا.. وهوملاصق لهذا المتطفل الوقح يرميه بنظراته النارية الحانقة والآخر (المتطفل) لا يزال متطلعا بالسندويتش غي عابئ به ولا بنظراته النارية.. ولكنه انتفض وحانت منه التفاتة سريعة عبر الطريق إلى الجهة المقابلة عندما لمح بريقا في عيني ذلك الآخر المتطفل وابتسامة ترتسم على شفتية.. فوجد الكائن الأبيض وقد اقترب من سلة قمامة وقذف بقطعة صغيرة من السندويتش – هي كل ما تبقى منه – في هذه السلة ثم دلف في سيارته.. أدارها ثم انطلق..
تابعت العيون الأربع السيارة وهي تغوص في الظلام شيئا فشيئا ثم تختفي.. ولكن العيون الأربع ظلت جامدة حتى اختفى صوت محركها تماما..

كان لا يزال ينظر إلى الجهة التي اختفت فيها السيارة عندما سمع صوت أقدام تركض بجواره فالتفت في هلع فوجد الآخر المتطفل وقد انطلق صوب سلة القمامة على الجانب الآخر من الطريق.. لا يمكن.. لن يكون هذا.. ركض خلفه.. عندما أدركه كان ذلك الآخر المتطفل قد غاصت ذراعه اليسرى في سلة القمامة تبحث عن بقايا السندويتش.. عن حلمه.. لا.. إنه حلمي أنا.. بقايا الكائن الأبيض تخصني انا وحدي.. أنا وحدي..

جذبه من شعره المجعد المنفوش.. طرحه أرضا وطرح معه سلة القمامة.. اندلقت أحشاء سلة القمامة على الأرض فاضحة كل بقايا”الكائنات”وليس بقايا”الكائن الأبيض”وحده.. ولكنه لم يعبأ..
تعلق بعنق المتطفل يخنقه فخمشه الآخر بأظافر حديدية قبل أن يغرسها تماما في جلده وينجح في أن يزيح يديه المطبقتين على عنقه ثم يستدير ليلطمه.. تلقى اللطمة فزاد حنقه.. زادت الدنيا ظلاما أمام عينيه.. حتى بقعة - الضوء المنبعثة من المعلق على باب المطعم – اختفت.. غاص برأسه في بطن الآخر المتطفل (المنقرضة).. انطرحا أرضا.. أصبحا كتلة واحدة سوداء متموجة في عنف..

عندما طار رذاذ دماء لم يعلم أهي دماؤه أم دماء ذلك المتطفل؟ لم يعبأ.. بل لم يصرف حتى جزء من تركيزه في البحث عن إجابة السؤال..

اختفى الإحساس بالجوع.. تلاشى حلم الحصول على الفتات.. حتى اهتمامه بالحلم تلاشى.. كل ما كان مهتما به في تلك اللحظة هوألا يحصل هذا المتطفل على فتات”الكائن الأبيض”مهما كان....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى