الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم رحاب الصائغ

الشعر يطهر المنطق بالوعي

يليق بالكمال شعر الشاعر شيركو بيكه س، وقصيدة( الضيفة) الضيفة تعني: الإضافة/ الإجارة/ اللجوء/ وهي منزلة عالية من الاستقبال لأحدٍ ما.

وقصيدة ضيفة تحمل من معاني ودلالات كثيرة وكبيرة من شيم الإنسان المدرك للشعور الإنساني، والذي يصل به حد درجة استضافة القادم بكل هذا الحضور الذي يطهر المنطق، بقبول ضيفة والترحيب بها بخشوع وصمت، الضيفة (إمرأة) هنا الشاعر شيركو بيكه س، صعدَّ معاني الاستقطاب لهذه الضيفة وقبلها بما يملك من سيطرة على النفس.

أحياناً كثيرة يجد الإنسان نفسه قيد شيء ما يجذبه إلى ما في داخل الكون من معاني لذيذة لقراءة تصادفه، اليوم أثناء وجودي في بيت صديقتي شادي، جذبني كتاب وقع في يدي ليس بالصدفة، بل كان عند ابنها محمد، وكل ما حواه من قصائد، أثارت عندي الرغبة للكتابة عنها، طلبت من محمد أن يسلفني الكتاب، وبالفعل لم أقدر على تركه إلاَّ بعد الكتابة عن الشعراء المضمومين بين صفحاته، ومنهم الشاعر شيركو بيكه س.

أدهشني الشاعر شيركو بيكه س وما يملكه من ثقافة عالية في النظم والإبداع الممتزج بالروح المرصعة بالوعي والألم الذي أحاطه من كل جوانب قلبه وعقله حيال الحدث الذي دفعه لكتابة هذه القصيدة (ضيفة) أدخلنا معه عالم الرواية، رواية تمثل موقفاً شاهداً على وصف الألم والمعاناة الإنسانية، ناسجاً أروع صور الخيال في تناسق يشبه غيوم في كبد السماء مكونة لوحات تحمل من الجمالية ما يفوق الوصف، الشاعر شيركو بيكه س، وقصيدة (ضيفة) الكلمة تعني بالكردي ميوان، يقول:

ثمة ضيفة قادمة، ضيفة خريفية
ناحلة كالنسيم
ومجهولة العنوان
كطائر السماء ما بعد الأنفال
بلا لون كشجرة متربة
هادئة كبركة الغسق

الشاعر شيركوبيكه س أوجد للقصيدة حدث أكبر من المعتلج داخله لكن وجود الضيفة جعل للقصيدة ميلاد لإبداع جديد، ضرب تقاويم الزمن عرض الحائط، واضعاً بصمت الماضي المؤلم لقضية الأنفال، التوتر الموجود في المعنى الذي تفضحه تلك الضيفة بوجودها في حاضر الشاعر، لأن وجود الضيف يعني الفرح، والفرح عبر عنه " بثمة ضيفة قادمة" هذه الثمة هي الدلالة الصاعقة للموضوع، القصيدة تشدك كتفتح زهرة تأخذك إلى عالمها الجميل مع وجود الألم المنغرس في جسدها، بقوله:

جالسة القرفصاء
وهي الآن
عذاب أشعث
ساكنة في الرواق
إنها إمرأة

يثبت الشاعر شيركوبيمه س، أن الشفافية في الإبداع لا تأتي من خلف الغبار، بل من رحم الألم، والانفلات في هواء روح صادقة (المرأة) أجمل كائنات الكون، ارق مجودات الخالق، أعذب جسد يحمل الرقي في كل البراءة التي حيكت من منها أنفاس القصيدة، وغرست في هيكل تحمله المرأة كجسد، بقوله:

آتية من قرية الأوجاع
إنها شجرة الحور، آتية
ثمة ضيفة قادمة، ضيفة أوان الخريف
دخلت بيتي دونا رخصة
كأنها قشة
أو فراشة تزورها الرياح
أو ورقة هائمة
دخلت غرفتي
بلا استئذان
كدجاجة ضلت بيتها
كمتلصص أصيل من شق الباب دخلت
الشاعر شيركو، كم هو قادر على خلق الإبداع في صورة شعرية بارعة متلبسة بأجمل أثواب الجمال، بقوله:
من سهول الحيرة
ومن ضفاف جدول شاحب
جاءت كأنها إمرأة محطمة
وقنديل تعب
جاءت من هناك، راكبة بضعة فراسخ من الوحدة
راكبة لفحة شهرزور
أنها إمرأة السلم
مرهقة
إمرأة
ملؤها الضباب

بعفوية مملوءة بالحب المتواضع، كشعلة من عمق الكون انفجرت كلماته الرائعة، القصيدة تلفها مخاريط سحب الحياة المجدولة بفضاء الإبداع، فاتحة ذراعيها لعناق النجوم، لغتها تتسع بحركتها لا تترك مكان للتوقف حين قراءتها تسحبك إلى حلقات النهاية من كتفيك تجلسك في وديان الماضي الأليم، وتركض بك إلى حاضر متألق، وتزور من خلالها المستقبل، وتسجل تاريخ، بقوله:

ضيفتي إمرأة
في هيئتها تشبه عنقوداً مهترئاً
لكرمتٍ أرملة
إنها كالشعر المنزوع
والناي المحروق
إنها تشبه عيناً عكره
مليئة بالطمى
ضيفتي إمرأة
جاءت لأمر.. لأمرين.. لثلاثة أمور

توقفت كثيراً حيال هذا المشهد، هي إمرأة، فإذن هي شيء جميل، لكن الشاعر شيركو بيكه س، يعود لجمع الأعوام المحتطبة لهذه المرأة، التي هي قصة حدث تاريخي( الأنفال) كأنه يقول:

  ماذا نتج عن كل تلك الأيام، وما جرته من ظلم على البشر، لا شيء سوى الدمار والخراب، تركت الكرمة أرملة، الناي محروق، أسكتت الصوت المغرد في مكانه، والأشجار تالفة في عمق تلك القضية، أصبحت الذكريات، تعود وتعود وتعود، ولا يمكن نسيانها، فيعود الشاعر شيركوبيكه س، للقول:

لا.. لا.. لا
لا.. لأي منها
إمرأة هي ضيفتي

هنا هو رافض هذه الذكريات للكم الكبير الذي تحمله من الألم، لكننها تبقى ضيفة على الفكر قابعة في أعماق النفس، بقوله:

إمرأة هي ضيفتي
آتية من اجل بيت عليَّ شاهدة
لكي تحفر روحي وروحها معاً
على صخرة، بنصل قاطع من الحسرة.
يا إلهي.. يا إلهي

لم يملك خيط الخلاص، تبقى القضية، قضية حدث ترك شواهد كثيرة، تقض مضاجع العقول والقلوب، أكلت أقماراً من أزهار الحياة، وحصدت لفيف من الآمال، وحطمت بيوت النحل والأعشاب في أماكنها آمنة، الشاعر يدعو أن يموت بدل أن يصبح كسيح، طالباً نوع الموت، بقوله:

ورقي خالقي من الشعر
وإن فعلت ذلك
فاقتنلني فبل الأوان
بوردة خنجر محبة الناس
أو سويقة بنفسج أحزان نساء
هذا الوطن!!

دموعي غمرت وجنتي لروعة هذه القصيدة ورقة تباريحها، ودلالاتها وما حملت من رموز قادت لمعاني كثيرة وكبيرة من عذاب سكن قلب الشاعر شيركو، أدخلني غرف أحلام رغبته بأن يعود هذا الوطن للصفاء والنقاء بصوفية راهب ورجل حكيم كتب ثم أجاد ثم أبدع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى