الأحد ٣٠ آذار (مارس) ٢٠٠٨
حكايات ابن آدم
بقلم ظافر مقدادي

الحكاية الرابعة: غيابةُ الجُبّ

(اقتُلوا يوسفَ أو اطرحوهُ أرضاً) قال اخوَتُهُ، فقال قائلٌ منهم (لا تقتلوا يوسفَ وألقُوهُ في غيابةِ الجبّ).

تنهض الشمسُ مُبكّرةً من مخدعها وتُلقي على العباد تحية الصباح. يتمطّى يوسفُ في مخدعهِ في غيابةِ الجبّ ويُلقي على أطفالهِ نظرةَ الإشفاق. خيوط الفجر الأولى تستبيحُ سرّ الفقر في بلد النيل. عبادُ (العزيزِ) يصطفّون على أبوابِ المخابزِ قبل آذان الفجر، ويوسفُ كان من المُصطفّين. هل نفذت مخازنُ القمحِ؟ قال محمّدين. الناس ستأكل بعضها، ردّ حسنين. ولكن الأرضَ ما بخلت على مصر منذ أيام سيدنا يوسف عليه السلام، أردفَ شعبان.

(وقالَ المَلكُ إني أرى سبعَ بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبعٌ عجافٌ، وسبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأُخرَ يابسات).

أشرقت الشمس باكيةً، واشرعت المخازن شبابيكها للمُصطفّين. هاج العباد وماجوا، تصارعوا للوصول الى الشبابيك. ينتظرني خمسةُ أطفال في البيت ولا أريد سوى عشرة أرغفة، صرخَ مجدي. ينتظرني أربعةٌ لي وثلاثةٌ للمرحوم أخي وزوجتي وزوجته وأمي، استغاثَ فؤاد. من أينَ حلّت علينا هذه المجاعة؟ تساءلَت سكينة؟ الموسم كان مُباركاً هذا العام ككل الأعوام السابقة!، أجاب أبو العارفين. يا أخي ما عادَ المباركُ مباركاً، علّقَ الباش مهندس. طرحت سكينةُ حُسنيةَ أرضاً للوصول الى الشباك قبلها، وأدمى حسنينُ وجهَ محمدين. وبعد ساعة على فتح الشبابيك أعلن الموظف أن الخبزَ قد نفذ، وأغلق الشباك.

قالَ يوسف (تزرعونَ سبعَ سنينَ دَأَباً، فما حصدتُّم فذروهُ في سنبلهِ إلاّ قليلاً ممّا تأكلون، ثمّ يأتي من بعدِ ذلكَ سبعٌ شدادٌ يأكلنَ ما قدَّمتم لهنَّ إلاّ قليلاً مما تُحصنون، ثمّ يأتي من بعد ذلكَ عامٌ فيه يُغاثُ الناسُ وفيه يعصرون).

عاد يوسف الى جُبّهِ خالي الوفاض. والعيون البريئة تتفحصّ اليدين الفارغتين وتفيضُ دمعاً. هل ستفهم الأفواه الجائعة خبث السياسة؟ مضغَ الصغارُ عَبراتهم وبلعوا حسرتهم وعادوا للنوم علّ الغداء يأتيهم على أطباق الحُلُم.

لو كان الأمرُ بيدها لما أشرقت الشمس، ألهذا تطلعُ مُحمرّةَ الخدينِ خَجلى؟!. تنفُثُ قبورُ البلد المبارك سكانها الى الحارات قبل الفجر وكأنها قد ضاقت بهم ذرعاً. ويغادرُ يوسف غيابةَ الجبّ علّه يحفلُ اليوم ببعض الصيد، أرغفة معدودة يقيم بها أودَ أطفاله ويُسكتُ بها الأمعاء المتعطشة للبقاء.

لقد اطعمت عائلتي أرُزاً ومعكرونة طيلة الأمس، قال الباش مهندس الواقف في طابور الخبز منذ منتصف الليل. صحتين وعافية يا باش مهندس، ردّ حسنين، وأضاف: ليت عندنا معكرونة، فقد ارتفع سعرها ايضاً. لماذا لا تستعمل الحكومة مخزون القمح الاحتياطي لإطعام الناس؟ تساءل ابو العارفين. يقولون لا يوجد مخزون احتياطي، ردّ مجدي. وأين المخزون؟ سأل فؤاد، وأعقب: لقد كان موجودا منذ يوسف عليه السلام. الفساد الفساد، ردّ ابو العارفين، لقد باعوا المخزون. سمعت أن بواخر القمح التي تأتي الى البلد يتم بيعها في عرض البحر فتتجه البواخر الى بلاد أخرى، علّق الباش مهندس. وما أن انفتح شبّاك المخبز حتى تحول الطابور الى نيلٍ جارف. وخرّ حسنين صريعاً بطعنة سكّين محمّدين. وبعد ساعة أقفلت جنة الخبز طاقةَ الفرج.

(ثمّ أذّنَ مُؤذنٌ أيتها العيرُ انكم لسارقون).

لن تطلع الشمسُ غداً.. وبأيّ وجهٍ ستطلع! خارت قواها هذا اليوم وانصرفت الى عينها الحَمِئة ممتقعة بحمرة الخجل، فما رأته اليوم في (أم الدنيا) أعظم من العار. قرر يوسف عدم الذهاب الى الجبّ.. وبأي وجهٍ سيذهب! افترشَ ساحةَ المخبز وأسند ظهره الى حائطٍ قد ينهار عليه. توافد الحجيج الى المخبز وعيونهم شاخصة الى الحجر الاسود. صلّوا العشاءَ جمعاً، وأردفوها بقيام الليل؟. تسامروا، تذكروا، ترحمّوا. قال مَن أمّ بهم: لماذا لا تستعمل الحكومة مخابز الخدمة الوطنية التابعة للجيش لحلّ المشكلة؟ فردّ الموظف الحكومي بأن المشكلة ليست في تشغيل مخابز الجيش وإنما في مافيا السوق السوداء. وأين الحكومة منهم؟ قال الإمام. المسألة مسألة نفوذ، قال الباش مهندس. لا وانتَ الصادق، علّق ابو العارفين، المسألة مسألة سياسة الليبرالية والخصخصة والفساد. ولكن ألا يخشون حدوث ما حدث في عام 1977؟ تساءل مجدي. سيطل علينا أحدهم ليعلن الحرب على (الحرامية)، وحاميها حراميها، قال فؤاد.

وعنما طلع الصباح سكت الحشد الجائع عن الكلام المباح. وما أن انفتح شباك الجنة حتى تحول الحشد الى بحر متلاطم الامواج. غرقت سُكينة، وفقد الامامُ الوعي، وعلا صراخ العباد تحت الاقدام. أطلق موظف المخبز رصاصة لفض الزحام، وانقض الحشد على المخبز واقتحموا باب الجنة.

قال اخوةُ يوسف للمَلك (إن يسرق فقد سرقَ أخٌ لهُ من قبلُ، فأسرّها يوسفُ في نفسه ولم يبدهَا).
من الذي اقتحم المخبز؟ ومن الذي سرق الخبز؟ سأل ضابط التحقيق. لا نعرف يا سيادة الضابط، أجاب المتواجدون عند المخبز المسروق. ألم تروا شيئاً غير عادي قبل الاقتحام؟ شخصاً غير عادي؟ كان هناك رجلٌ وسيمٌ بوسامة سيدنا يوسف يفترش الارض منذ المساء، كان يستمع ويراقب ولكن لا يتحدث. وهل تعرفون أين يسكن؟ في (بير السلّم)، ردّ أحدهم. دلني عليه، قال الضابط.

* ألا تريد أن تعترف يا يوسف؟

 لو كنت السارق لكان قميصي قد قُدّ من دبرٍ وأنا هارب والناس تشدني من الخلف.

* ألم تسرق الخبز يا يوسف؟

 لو كنت السارق لما رأيتم اطفالي يتضورون جوعاً.

* هل تعرف ما الذي اقترفتهُ يداك؟ لقد سرقتَ خبزَ مصر.. لقد سرقت خبز الفقراء.

 ولكن الناس كانت تقول أن المافيا والخصخصة هي التي سرقت!

* خذوه وزجّوا به في السجن.

(قالَ يا بُنيّ لا تقصُص رؤياكَ على إخوتكَ، فيكيدوا لكَ كيداً، إنّ الشيطانَ للإِنسانِ عدوّ مبين).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى