الأربعاء ٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

سورة العراة

أخيرا هبطت بي الطائرة إلى أرض المطار، وافلت جسدي من قبضة الطائرة، في ذلك البلد البعيد، والقريب. تنسمت روحي الصعداء ملء نفسي، ونجوت من سطوة الجوبحفراته الهوائية التي توخز القلب مع كل رعشة للطائرة.. تخلصت من الضغط على أذنيّ وبصقت من فمي قطعة علكة بيضاء في غاية الطراوة، ولم يبق لي سوى النوم حتى يتشبع به جسدي.. ها قد اقتربت اللحظة التي أرخي بها جسمي المرهق، وافرد ساقيّ المخدرين وأمدهما كما يحلولي بلا أي سلطان علىّ من الجوأوالبر أوالبحر.. لقد سئمت كل سلطان يمحق الروح ويسحق الجسد.

خرجت من أرض المطار، تترنح على كتفي الأيسر حقيبة السفر الصغيرة، ما إن اقتربت إلى الحارات المحشوة بالأجساد حتى استبد بي العجب، وسرت الدهشة في نفسي حتى تبلبلت.. أكاد لا اصدق ما أرى.. أينما وليت وجهي فثمة قردة ونسانيس، بأحجام مختلفة، اكتظت بها الأرصفة والشوارع والأزقة، جماعات وفرادى.. نظرت إلى تذكرة الطائرة علني مخطئا في الرحلة، شعرت أنني في غابة أوحديقة حيوان.. لكن الفضول دفعني إلى الاقتراب أكثر فأكثر، مسحت زجاج النظارة جيدا واعدتها إلى مستقرها وأجلستها بإتقان على طرف أنفي.. صرت قادرا على تمييز الملامح تمام التمييز.. آه.. معقول ؟! هؤلاء الذين حسبتهم قردة ونسانيس ليسوا سوى آدميين، من بني البشر، ويشهد على ذلك استقامة أجسادهم الخالية من الذيول، وتأكدت من ذلك حين بحلقت إلى مؤخراتهم الناشفة والمستوية مع ظهورهم، وقد علق بها بقايا براز طازج.. جميعهم عراة بلا أي ملابس تستر أجسادهم كما ولدتهم أمهاتهم، ذكورهم وإناثهم، أطفالهم وشبابهم، حتى العجائز ! كلهم عراة.. ما هذا ؟! أنا الوحيد العجيب بينهم والنشاز لأنني مستور بملابس، وجدتهم يتحركون بعشوائية، يمشون كأنهم واقفون في أماكنهم لا يتزحزحون، متهالكون كتماثيل عفرها الزمن ونحتتها الأيام، حتى تشوهت ملامحها، بعضهم نيام على الطرقات وفي الزبالة، ما أغاظني أنهم ينامون بعمق ويشخرون.. عجبت لأجسادهم الرفيعة النحيلة كعصا المكنسة، يعلوأجسادهم رؤوس مغطاة بشعر خشن كث مجبول بالعرق والتراب، تحملها رقاب مقوّسة رفيعة على وشك أن تنكسر.. منظرهم لحس عقلي، فجلودهم رقيقة متجعدة متمادية في تجاعيدها، وناشفة كأوراق أشجار الخريف وخشنة كملمس المبرد، خمنت لأول وهلة أن جلودهم مسلوخة عن جثث بهائم ميتة من زمن ولصقت بأجسادهم.. ذهلت للون أسنانهم البنية الغامقة، وقد نخرها السوس ومن الاستحالة تبييضها حتى لوتم غسلها "بماء النار" عالي التركيز، ورائحة أفواههم وأجسادهم تهب ساطعة وكريهة كرائحة الخميرة، رائحة زكمت أنفي حتى قفلت منخري بالسبابة والإبهام، فأثقلت صدري حتى خفت أن أكتم نفسي، وزاف بطني حتى كدت أن أتقيأ ما به، لولا أنني ابتعدت عنهم مسرعا مسافة كافية، كأنني اهرب من مصابين بالطاعون.. أقدامهم حافية مفلطحة، تجمع عليها أكواما من الطين، وبالكاد تظهر أصابعها الرفيعة التي تتشبث بتراب الأرض كالمخالب.. داهمتني موجات جارفة من الاشمئزاز عندما حدقت إلى أذرعهم النحيلة والرفيعة كأمعاء الدجاج، وظننت أن عروقها ديدان طويلة منفردة ومتشابكة.. لكنهم كانوا ينظرون نحوي مندهشون، مشدوهون، يتمتمون بشفاه ناشفة مشققة ما لم استطع سماعه.. من المؤكد أنهم يتألمون، يتأوهون، يئنون، يندمون، يتوبون.. وربما ما هوأكثر من كل ذلك، أوكل ذلك.

أبصرت رجلا غريبا يلبس جاكتة جينز بالية، منحوتة، يجلس لصق حائط بيت مشقق الجدران، أسرعت إليه ملقيا تحية هادئة، وقلقة، لم يحفل بردها، ربما لأنه ملّ الدنيا وما بها ومن عليها، عرفت منه فيما بعد أنه من بلد مجاور، ويعمل فراشا في إحدى الشركات الأجنبية.. ولكنني صممت على محادثته ورفعت صوتي أسأله :

 ما هي حكاية هؤلاء الناس ؟

أرسل نظراته الوديعة إلى وجهي، نظرات مطفئة مكسورة مترعة بالذل، اعتدل في مجلسه، تثاءب ملء فمه، تمطى وهويطلق صوتا كالخوار، ثم غمغم بقرف بعد أن تأفف تأفيفة طويلة متحسرة :

 تقصد ما هي حكاياتهم ؟

 هل تعرف شيئا عنهم ؟

 آه.. اعرف الكثير.

 دخيل الله.. أنا دخيلك.. الحقني.. حدثني عنهم.. لماذا هم عراة ؟

 إنها حكايات طويلة.. سأخبرك باقتضاب :

ذات يوم خرج هؤلاء الناس البؤساء يحملون تعاستهم المطوية في ردهات قلوبهم، خرجوا بمسيرة إلى الملك، يرفعون عريضة كبيرة، يطالبونه بها ببناء مدارس لأولادهم، فاستجاب الملك بلا أي إبطاء.. فطلب منهم جلالته أن يبيعوا أثاث بيوتهم الرثة، وملابسهم البالية، كي يبني بأثمانها المدارس، ولمّا أطاعوا وباعوا دون تأخير، اشترى الملك بالنقود سيارات حديثة طويلة، مجهزة بتقنيات عالية، ما شاء الله عليها، وكتب على زجاجها الخلفي بخط أنيق :" سيري فعين الله ترعاك "، ثم وسع قصره الضيق ليليق بمهابة جلالته السامية، وعلى مدخل القصر نقش بالخط العثماني عبارة : هذا من فضل ربي.. ثم شيد عددا من السجون الضيقة والزنازين بما تبقى من نقود.

سكت الرجل، وراح يحدق بالأرض، أحسست أن شيئا يمور ويتلاطم في ثنايا أعماق صدره الضيق، تناول من التراب عودا صلبا رفيعا وأخذ ينكش به أسنانه، وبحركة لا إرادية قضم طرفه الرفيع بأسنانه الصفراء، فوجدتني غاضبا محتدا مؤكدا:

 إنهم أغبياء.

 لا.. أنهم جهلة وجبناء.

 غريب ! منظر أجسادهم يدل على أنهم مرضى.. أجسادهم مسلّية.

 الموت يخطف الكثير منهم كل يوم بسبب الأمراض.. لهذا حكاية أخرى.

 ما هي ؟

اسمع يا سيدي.. ذات يوم خرج هؤلاء الناس يطلبون من الملك أن يبني لهم مستشفيات، بعد أن تدهورت صحتهم، فطلب منهم التوجه إلى العاصمة كي يبيعوا أي شيء لديهم، ولأنهم لا يملكون أي غرض يصلح للبيع ؛ طلب منهم أن يبيعوا أي عضومن أعضاء جسدهم، أي عضو يناسبهم ويختارونه بمحض إرادتهم، في الحقيقة أنه كان متساهلا معهم ولطيفا بهم.. البعض باع كليته، هناك من باع عينه، وهناك من باع شقفة من الرئة.. وهكذا.. ولمّا استلم الملك النقود أثمان أعضائهم.. شيد بها الحدائق الغناء حول القصر، حدائق مليئة بالأشجار المثمرة وأشجار الزينة، منظرها يشرح الصدر ويردّ الروح، ويطرب النفس، لقد خط في أرجائها عبارات حلوة كتبت بالخط الكوفي الجميل مثل : كلوا من طيبات ما رزقناكم.. إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده..

 اللهم لا حسد.. صلي على النبي، خشية أن تصيب الحديقة بالحسد.

 اللهم صلي على النبي..ما شاء الله.. لا تخف، أنا عيني باردة لا تحسد.

وما تبقى من أموال اشترى بها هدايا ثمينة إلى أصدقائه الملوك، وزاد رواتب أعوانه، وتوسع في بناء السجون، واشترى الكثير من الهراوات وبعض الأصفاد المتينة.

ما إن توقف عن الكلام حتى وجدتني ازعق :

 ناس جبناء.. الله لا يردهم.. الله لا يقيمهم.

 سوف أكمل الكلام، لا تقاطعني.. لماذا بصلتك محروقة ! طوّل روحك.

 أكمل ! هات ما عندك من حلوالحديث.. هات درر الكلام !

آخر مرة منذ عام خرج الناس في مسيرة طويلة ما لها أول من آخر، وقتما كان لديهم صحة وعافية، خرجوا في مسيرة حاشدة يطلبون من الملك رصف الشوارع بالزفت، وطالبوه أيضا أن يوصل المياه إلى بيوتهم، والملك يعلم أنهم فقراء، الله وكيلك على الحديدة.. فطلب منهم أن يبيعوا بعضا من دمائهم، كل حسب قدرته، هناك من باع لتر أولترين، وهناك من باع ثلاثة لترات، واشترى بأثمان دمهم بعض اللوحات الفنية لبيكاسو، وسلفادور دالي، ليزين بها جدران القصر ويرفع رأس بلده بين الشعوب والأمم.. الله جميل يحب الجمال.. وما تبقى من نقود تزوج به ابنة احد الملوك العظام، فصار عنده جلالته سبع نساء، بعين الشيطان، فهويحوّش النساء ويكدسهن في قصر خاص.. الله يعطيك ويطعمك مثلهن، إنهن في غاية الحسن، هذا بعض من حكاياتهم.. ارتحت ؟ هدي بالك ؟!

شعرت أن الدنيا تدور بي، ألّمت بي الدوخة.. ورحت امسح بكفي شعر رأسي، محاولا التخلص من شحنات كهربية اجتاحت جذوره ودغدغته، لا اعرف كيف قذف فمي زمجرة قوية معربدة :

 اتفوعلى هيك ناس.. اخص.. بستاهلوا أكثر من هيك.. الله لا يقيم عنهم شدة.

 لماذا أنت ناقم عليهم ؟

 أنا لست ناقما عليهم ؟ هم الذين نقموا على أنفسهم حين قبلوا بالخنوع والذل !

 لكنهم ألآن صاروا يكرهون الملك !

 لا فائدة تتأتى من كره صادر عن عجزة وجبناء !.. وهم ألان بلا صحة وبلا عافية وبلا كرامة، فكيف أحبهم ولا انقم عليهم.. حبهم برص !

 ألا تشفق عليهم ؟

 بإمكاني الإشفاق عليهم.. لكن الشفقة لا تغير من واقعهم أي شيء.

شمل المكان صمت جليل، كأنه أبدي، شعرت بسطوته تلف القلوب في محاولة لإيقاف خفقانها المتدفق باضطرام.. ورحت في أنفسي أفكر في ثقافة هؤلاء وتاريخهم، فاندفع لساني بالسؤال..

 ألا يوجد لهم تاريخ كبقية البشر ؟

 يوجد.. بين طيات الكتب.. خارج نطاق الذاكرة.

 هل عندهم ثقافة ؟

 فقط للمحافل والمناسبات.. يعني للمنظرة.

ما أن نطق بالإجابة حتى راح يحدثني عنهم، أخذت اسمع رغم القهر الذي اجتاح صدري، والألم الذي جاش في نفسي، قطعت كلامه لأساله أين الملك ألان ؟

 ركز مخك معي.. أرجوك لا تسرح بعقلك بعيدا.. عندما وصلت الأمور بالناس إلى ما وصلت إليه، هاجر الملك وأولاده وكل أفراد عائلاتهم إلى دولة أجنبية وحصلوا على جنسيتها.. لم يعد يرغب هو أو أي واحد من أولاده أن يحكموا شعبا مريضا فقيرا، فهم يريدون شعبا يانعا وطريا مثل عود الريحان وطازجا كعصير العنب.

 من سيحكمهم إذن ؟

 ها هم الآن حيارى يبحثون عن غريب يحكمهم.. ولم يجدوا بعد، ومن الواضح أنهم لن يجدوا من يحكمهم.. ستحل خسارة كبيرة بمن يغامر ويقبل أن يحكمهم، لقد تحولوا إلى كتل من العاهات، لقد انتهى تاريخ صلاحيتهم، وهم في وضع لا يساوون به ثمن صابون غسل أجسادهم المقيحة.. فما بالك ببناء البلد وتعميرها، وتكلفة علاجهم، ومن هوذلك المغفل الذي يقبل أن يحكمهم ولا يوجد بحوزتهم ما يسرقه منهم.. فتح مخك يا أخي.. بتفكرها مسخرة.

 لكن يوجد في البلد شركات أجنبية !

 ليست من أجلهم.. إنما من اجل الأرض وباطنها.

نظر إلى ساعة يده، استأذن بالانصراف، نهض، نفض بيده التراب عن مؤخرته وراح يلتهم الطريق.. وددت أن الحق به لأساله : لماذا لا يختارون منهم من يحكمهم ؟ لكنني امتنعت حين أدركت ما في السؤال من غباء.. عدت انظر إلى الناس العراة، أشفقت عليهم، حزنت لحالهم، وشعرت بأن حيوانا ضاريا خرافي الحجم ينهش قلبي.. لماذا أطاعوا جلالته ؟ لماذا ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى