الأحد ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

العاصفة

رجعت أنا وزوجتي من العمل متأخرين. منهكين ورغم ذلك دخلنا سويا إلى المطبخ، نهيأ أكلا سريعا،ونسمع في نفس الوقت حصاد اليوم من الأخبار. كان الجو عاصفا، ظل هكذا ساعات قليلة بدت كأنها الدهر كله. صوت الرياح القوية كأنه أزيز كل نحل العالم تجمع في المنطقة. حافلات مالت عن طريقها، وأشجار تكسرت أغصانها أو انقلعت من جذورها. هدوء مطبق بمنطقة (هاوجسون) التي أصبحت وكأنها خالية من السكان. برد محمل برذاذ ثلجي، لم أكن معتادا عليه طوال السنوات التي قضيتها في المنطقة. نظرت من خلال النافدة إلى قمة الجبل، خيل إلي أن هذه الريح ستظل محملة بالثلوج إلى ما لا نهاية. ليلة ولا ككل الليالي، شديدة البرد والثلج والظلام. عاصفة واقفة بشموخ وعناد على تلك الصحاري البيضاء. تشعل نارها على سعف الثلج وصوتها الوحشي منبعث من كل الجهات. تهيل على ضفاف النفس خوفا ورهبة معلبة في الصدور.

هدأت العاصفة، كنت حينها وزوجتي نأكل وجبة العشاء ونسمع حصاد اليوم من الأخبار. أخبار عن العاصفة في منطقتنا. فجأة انقطعت الكهرباء. أوقدت زوجتي الشموع. لم تصدق أن ليس هناك تلفاز يشغلني عنها. فتحت فاها وبدأت في الكلام من غير توقف وأنا أنظر إليها من حين إلى آخر، متظاهرا بالاستماع إليها ولو أن نصف كلامها كان يخرج من أذني الثانية. طال حديثها فشردت بعقلي أتخيل هذه المرأة التي جمعني القدر بها لتكون شريكة حياتي وتكون جهاز الراديو الذي لا يطفئه عاصفة ولا يعرف انقطاعا كهربائيا. جهاز خاص فقط بأخبار الفيتنام ومشاكل الفيتنام واقتصاد الفيتنام والسفر إلى الفيتنام. لعنت الساعة التي سافرت فيها إلى الفيتنام وتزوجتها هناك. كنت أنظر إلى شفتيها تتحرك وتتمطط وأحيانا تبتعد عن بعضها ثم تنطبق بشدة وأحيانا ترتخي، وأنا أتحدث في نفسي لا أسمع ماذا تقول!!

عجبت من أناس يحبون الكلام، يجترون الكلام، يشربون الكلام، بطنهم يستوعب كل الكلام، أو ربما كل الكلام لم يلفظوه بعد....!!

كلام، كلام، يخرج من فمها، يتطاير في الهواء، تستنشقه، تزفره، يدخل أذني، يقضمها، ينزل على رأسي يشقها وغالبا ينزل على معدتي ويؤلمها.

حسبي الله في زوجتي التي من يوم أن تزوجتها وأذني لا تعرف الاستراحة من سماع الكلام. يا إلهي كم كنت مفتونا ب (تي فو) سحرتني بادئ الأمر بشرقيتها وأنستني (كاريانا) المتعجرفة، المتكبرة. (كاريانا) التي تخلت عن أنوثتها وجعلتني أنفر منها رغم جمالها الأخاذ. طلقتها وها أنا الآن ضائع بين سحر الشرق وجمال الغرب. كل منهن يتباهى من أعالي أنوثة مجهولة وأنا بينهن وحدي على شجرة الحلم طال انتظاري على كالحات الدروب وبين الكلام والفلسفات مازلت أبحث عن السحر والجمال الحقيقيين في كل منهما.

حبيبيتي( تي فو)، اسمعيني من فضلك.

ما زالت تتحدث ولم لا؟! فهي لم تفرغ من الكلام. ضربت بقبضة يدي على المائدة، قفزت من محلها، اصفر وجهها أكثر مما هو عليه.

نعم، حبيبي.
سأسافر إلى تونس.
ماذا.....! وتتركني لحالي!؟
أنت لست وحدك! الكلام معك في كل مكان. في المطبخ، في الصالون، في غرفة النوم. كما أنني سأمكث فقط أسبوعين من الزمن لأمضي عقود شركتنا مع شركة تونسية.
لكن، لماذا أنت بالذات الذي اختاروك يا (طوماس)
لم يختاروني، أنا الذي اخترت نفسي. سأذهب إلى النوم الآن. تصبحين على خير.
تصبح على خير حبيبي.

تركتها وذهبت إلى غرفة النوم، فارا إلى السرير، مستنجدا بوسادتي، كنت أسمعها تغني في المطبخ وتنظفه وأحيانا تتحدث لحالها.

ضحكت بامتعاض ضحكة خرجت من قلب سئم الكلام، كره الكلام، فأصبحت أتمنى أن أكون أصما علني أوفر على أذني كلاما وكلام.

بعد يومين، سافرت إلى تونس، وفي الحقيقة لم يكن هناك عمل ولا عقود ولا شركات، وإنما فقط أريد أن استلقي على رمال مدينة (جربة)، تلك المدينة الجميلة بطبيعتها، وبرمالها وبحرها، أشجار النخيل، رمال ممتدة وشمس دافئة. استلقيت على الشاطىء، وضعت نظارات سوداء ودهنت جسمي بمرهم ضد أشعة الشمس ثم أغمضت عيني.

يا اللــه!! ما أجمل الدفء والهدوء وما أجمل الحرارة والسكون! ما أجمل البحر والرمال وما أجمل النخيل والبعد عن ( تي فو)...!!

ابتسمت وأغمضت عيني وجريدتي على صدري أستمتع بصوت الأمواج التي تتكسر على الشاطئ. أفيق في كسل مع الفجر الرطيب والشمس خجلى من وراء الأفق رانية إليّ، تنشر أشعتها على جسدي فتسري حرارة دفئها في كل مساماتي. تلفني أشجار نخيلها بثوبها الزاهي فنسيت كلام زوجتي ونعمت بسكون صمتها... تضمني على مهل وتمشي على ساقين من شمس والعصافير من حولي تزغرد على نغمات أمواج البحر التي تحضن الشاطئ ثم تنام على صدر الرمال.

أغمضت عيني، أريد أن أحس وأشم وأتذوق كرم الطبيعة. كم هي كريمة عندما تجود بسخاء! أحسست بنشوة، برعشة، بسعادة تملأ قلبي رقة وابتسامة. لا أعرف لماذا تذكرتها وهي هناك، شرسة غاضبة، باردة، تلسع من دون رحمة، تزمجر، تحطم، تكسر. ها هي الآن عاشقة، جميلة تزين الحياة، تضفي عليها جمالا بسحر هضابها الحسن وبرموش غابتها كلوحة من ظلال. تغدي الروح وهي هادئة، تنعش الفؤاد، تروي العين وتطفئ العطش كالشراب الزلال.

فجأة أسمع صوتا يقول لي باللغة الإنجليزية:

اهلا، هل تتحدث الإنجليزية؟

عدلت جلستي ورددت السلام محييا.

نعم، هل من مساعدة؟
لا فقط أريد الترحاب بك في مدينتنا. اسمي سمير. إن أردت أية مساعدة فأنا رهن الإشارة.
شكرته، أخذت جريدتي وبدأت أتصفحها. اختفى سمير وما هي إلا لحظات حتى رجع، وفي يده قنينتين من عصير الليمون. مد إلي واحدة. لم أطلب منه ذلك. كي لا أحرجه أخذتها شاكرا. تطلع يمنة ويسرة ثم قال لي بصوت منخفض:
هل تحب النساء؟ أعني هل لديك رغبة في النساء؟ يمكنني أن أهيأ لك ما تريد وحسب ذوقك.
ضحكت قائلا في نفسي " هربت من (تي فو) وسمير يريد أن يحضر لي (تي فوات)."
لا يا صاح، شكرا. أنا لا أحب النساء.
نظر إلي بدهشة. ارتبك، بدّد بصره، اقترب مني أكثر وقال بصوت هامس:
طيب إن كنت لا تحب النساء يمكنني أن أذهب معك ولكن، بشرط تسقيني قنينة من الوسكي.
تذهب معي إلى أين؟ ولماذا أسقيك قنينة وسكي؟
احمر وجه سمير.
لأنني لا أستطيع إلا وأنا سكران.
تستطيع ماذا؟

بعدها استوعب عقلي البطيء الفهم لكثرة امتلاءه بالكلام.

ضحكت عاليا قائلا بلغتي:

اللهم ( تي فو ) وكلام (تي فو) عن هذا السمير وقنينة الوسكي.

ذهبت إلى المطار، استقليت طائرتي إلى النرويج، إلى بيتي، إلى زوجتي التي فاجأها رجوعي السريع. وضعت حقيبتي في المطبخ، جلست حول المائدة، وضعت إبريق القهوة على الطاولة. جلسنا نحتسي القهوة، لم تسع (تي فو) الفرحة لرجوعي وبسرعة فتحت فاها الكبير، ثم انطلقت في الكلام وأنا أستمع إليها إلى أن سمعت شيئا وقع بشدة على الأرض، تلته صرخة مدوية. قفزت من مكاني.

ما هذا يا تي فو؟

توقفت( تي فو) عن الكلام. قفزت من مكانها مسرعة كالبرق إلى الطابق الفوقي حيث الحمام. لحفتها، فتحت غرفة الحمام فإذا بأمها عارية مستلقية على الأرض ونصف جسمها أزرق أحمر من جراء الوقعة. غطتها (تي فو) بسرعة بمنشفة. أما أنا فكنت كالمخدر بلا جسد ولا روح. كلماتي معتقلة في سري كأنني أسلمتها للموت. ماذا تفعل حماتي هنا؟! إنها أكثر كلاما من ابنتها. هل ستقضي عندنا شهرا بأكمله كعادتها كل سنة. لكن لم يمر على مجيئها إلا أربعة أشهر. يا إلهي كيف سأتحمل ثرثرتها وانتقاداتها شهرا كاملا!

ألف (سمير) ولا( تي فو) وأمها.

ماما: هل أنت بخير؟

نعم، الحمد لله لم يتكسر ضلع من أضلاعي.

نظرت إلي وقالت: سمعت صوتك، نهضت من الحمام بسرعة لأراك وأسلم عليك فوقعت على الأرض.

قلت بامتعاض: حماتي، عزيزتي، لديك شهرا كاملا لكي تسلمي علي وتحدثيني عن ألف ليلة وليلة بالفيتنام.

عدلت جلستها على أرضية الحمام، رفعت عينيها تنظر إلي وقالت مبتسمة: هذه المرة جئت للسكن معكم إلى الأبد. وأنت يا (طوماس) وراءك عمل كبير. ستذهب إلى إدارة الأجانب وتقدم طلب إقامتي، ثم لا تنسى أن تخبر صديقك المحامي،.ما اسمه؟ تحاول أن تتذكر....

المحامي الذي زارك بالبيت السنة الماضية، ترفع يديها ملوحة، المحامي الذي أعجبه طبخي. هل تذكر؟ و(تي فو) أيضا فتحت فاها موجهة كلامها إلي أيضا: حبيبي (طوماس) ستنام أمي بالغرفة المجاورة لغرفة نومنا. سنأتي بالخزانة التي في المستودع لتضع ملابسها. كم أنا سعيدة يا (طوماس)...
أختلط كلام (تي فو) بكلام أمها وسط بخار الحمام المتصاعد وأصبح ينزل على رأسي هذه المرة ليس كالرشاش وإنما كقنابل( الميركافا). لم أخرج من الحمام وكيف لي أن أفعل و(تي فو) وأمها مازالا يتحدثان في آن واحد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى