الأحد ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم دولت محمد المصري

الـكُـرسـِـــيْ

الموسيقى تبعث من جوف صور مزروعة في صالة الصراع.. الكل يدور حول الكرسي واحد..اثنان.. ثلاثة.. على من يرسو المزاد على الأول.. الثاني.. الثالث..أم الرابع..الكل يدور حول الكرسي.. على من العطاء سيرسي.. و.. هوب.. توقفت الموسيقى الجميلة حتى الآن، من يجلس أولا.. يكن في طريقه للجائزة الكبيرة.. ويقلـّد بالأوسمة.

جلس الثالث بسرعة مذهلة، الرابع كان يمسك الكرسي فأزاحه مستقرا عليه بثقة متعجرفة دون أن يحس أحد بالخلل، أما الأول لم يتوان عن طعن الثاني بسكين خفية أخرجها من حلقه المعتاد على بلع كل ما هو صلب وحاد، سقط المطعون بتألم.. ينزّ دمه بانسياب بطيء كاللحظة التي غافلت كل من له بصر يتتبع به الأحداث بشغف، ولأن الطعنة نفذت دون أن يراها أحد فلم تكن النتيجة بأهمية تذكر، لينفلت التصفيق -المعلق باللحن الدموي الجديد- من أصابع الجمهور المشاهد لتعود الحماسة بعدما أُبعد الخاسر المصاب من ساحة الكرسيين المتبقيين.

الجزء الذي كان من الكل.. بدأ يدور بهستيرية، المشاركون:الأول.. الثالث.. والرابع.. يتدافعون.. يتزاحمون، مَنْ يصل.. له الجائزة التي لا ينافس بريقها أي شيء في الكون والتي تستحق العناء والتضحية بكل ما هو نفيس وغالي.. وهوب.. يتوقف اللحن الدموي كما الهتاف والتلويح بالأعلام لهذا وذاك.. يصمت الصمت للحظة مرتبكة.. عشوائية المعاني والأفكار القاتلة.. يداهمها الرابع بجلوس سريع وهادئ، أما الثالث بإشارة النصر الكبيرة التي يمتلكها بلا منازع.. يفقئ عيني الأول الذي يرتمي في حضن الرخام المزركش بالأصابع.. الأيدي.. الأرجل.. القلوب.. والعقول المستهلكة في ساحات المعارك الطويلة، لتضاف إلى الزركشة عينين أخريين من العيون الساقطة في منحدر الفجيعة، يجلس الثالث.. تحتد نظراته.. تثخن.. تصبح بسمك حائط من الصوان.. يضع رِجْلاَ ًعلى رِجْل قبل أن يداهمه المزايد ساحبا الكرسي، ليبدأ الصراع مع تحول اللحن الدموي إلى جعجعة.. يلفظها طبل مقيت.. تتناسب إيقاعاته مع تشوه الحقائق والأشياء في حين اقترابها من الذروة.

جزء الجزء الذي كان من الكل يدور.. ويدور حول الكرسي الأخير، بينما الجائزة الثمينة تتألق في نفوس من تبقى:

(إنها التفاحة التي نضجت وآن لمستحقها أن يلتقطها وهي تسقط). قال الرابع، أما الثالث اللاهث رد:(تلك أفكار غبية لا تستحق العناء..إن وصولي سيدعم اختياري للحقيقة.. لمجد الحقيقة التي تتجلى لمن هم مثلي.. ليس المهم التفاحة، بقدر ما تعطيك الإيحاء والقدرة على صنع القرارات وترجمتها لقوانين ومعادلات ثابتة المنهج).

قاطعه الآخر):لتصمت بأنفاسك المترهلة وحديثك السخيف عن حقيقة مفرغة إلا من الكذب والتنظير، أنا من يملك الحقيقة وقراراتي وقوانيني هي تلك المتعلقة بالشكل والحجم لما سأصل إليه).

و مع الجعجعة التي تطول لمزيد من الإثارة والتشويق يرد الثالث وهو يكز على حنكه العريض:(ألا ترى أن المشاهدين والمراقبين قد راق لهم سباقنا.. كما تروقهم حقيقتي المفرغة كما تدعي.. لا مزايدات أخرى..الجائزة من نصيبي حتما..). وبصراخ حاد كنعيق بومة.. يتقاذف المتباريين كلمة (لي)...(بل لي).. و..هوب.. يتوقف كل شيء، يُنـْتـشَـل الكرسي من على الرخام المصقول بعناية.. يتزحلق الرابع وهو يضرب الثالث على رأسه.. يتمالك الأخير ذاته ليرد الصاع صاعين ضمن دائرة الهياج الرهيب بين مؤيد ومعارض ومحايد ومطالب من الجماهير المتفرجة والحكام المعلّقين من ألسنتهم، تثور ثائرة المتصارعَيْن، يشتد العصف بالهواء المكيف الرخو.. يهجم الاثنان على بطل واحد.. في غوغاء غير محتملة.. و.. تنكسر رِجْلُ الكرسي في الحمى.. يستل الثالث مسدسه غضبا ليفرغه في رأس الرابع الذي لم يتوانى أن يطلق قذيفة آر بي جي من جيبه الصغير في بنطاله نحو الخصم ويحطمه بسلام، سلام مع تعاطف المشاهدين.. وامتعاض البعض الآخر.. تبريكات الحكام الذين بحنكتهم حكموا بعدل أقر أن الغاية أهم بكثير من الوسيلة.. وما الفرق ماداموا سيقلدون الفائز قلادة ذهبية للتمتع بالأخلاق، قلادة للفضيلة، وأخرى للشجاعة في اتخاذ القرارات وكلها ستساعد الرابح على حماية الجائزة الكبرى الممنوحة والذي يستحق أن تسقط التفاحة في حضنه وحده.. ويقدم له الكرسي الجليل على طبق من ذهب ولو أنه – الكرسي – فقد أحد أرجله.. لكن الحاذق الفائز.. لملم ما تبقى من نثار صاحبه الخاسر، خلطها بامكانات ضخمة.. صانعا رجلا لن تنكسر أبدا.

ويبدو أن الرابع في غمرة انتصاره وانشغاله الدائم والحثيث بأعمال التصليح والنجارة للكـرسـي الـذي بـدأ يهترئ.. نـسـي أن يـتقلد قـلائده التي باتت تذكـارات قـديمة فقدت أية قيمة............... تــُــذ كـَـــر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى