الثلاثاء ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم عبد الهادي الفحيلي

ذكرى من لهب

عندما دلفت من الباب كان ثمة شيئا يشبه عطرا أنثويا، نفس امرأة ما مألوف لدي بصورة غامضة انقذف إلى أنفي الذي استلذه. هأنذا في وسط البيت. كانت جالسة مع أمي على كنبة أمامهما صينية الشاي وبعض مما يؤكل على المائدة الصغيرة.

رعشة غريبة ألمت بأعضائي وفرحة صغيرة تلبستني وأنا أرمي التحية. ياه، كم زاد جمالها! ابتسمت هي في اقتصاد. مدت لي كفها. انحنيت مادا لها خدي. تصلبت ذراعها. ارتبكت وأنا أتراجع بوجهي وأعدل قامتي. بحر من العرق البارد يغرق أدق شعيراتي.

 كيف حالك؟ سألتها.
 بخير والحمد لله.

سلمت على أمي وجلست. وجهي يتلون. الملعونة. كانت تعانقني فيما مضى.

عيناها مسمرتان على شاشة التلفاز. أرقبها بطرف خفي يخترق كتفي أمي الجالسة بيننا. انتبهت إلى شعرها الذي اختفى. أبصر مكانه منديلا يحدد تخوم وجهها. أهو غطاء الرأس ذاك ما منعها عن عناقي كما كانت تفعل قبلا عندما كانت تأتي لزيارتنا؟

هدأت قليلا. صبت لي أمي كأس شاي. وأنا أنحني قليلا لأتناول الكأس من الصينية استرقت إليها النظر من زاوية ضيقة جدا. لا تزال مركزة على التلفاز.

 ستبيتين عندنا الليلة. بادرتها أمي.
 لا. يجب أن أذهب. أخبرت أمي أنني لن أتأخر. لأنني أتيت من الشركة رأسا إلى هنا.
 ستأتي "س" بعد قليل من العمل. سأتصل بأمك وأخبرها بذلك. في الصباح اذهبي إلى عملك من هنا.
 دعي الأمر لفرصة أخرى خالتي.
 لا يمكن، اشتقنا إليك كثيرا جدا.
 أنا كذلك اشتقت إليكم.

وأنا اشتقت إليك أكثر. كم من الوقت مر على آخر زيارة لها لبيتنا؟
أسمع تحاورهما. أسمع دقات قلبي تكاد تخرج من بين ضلوعي لتحتل المكان. ستبقى إذن. لكني وددت لو ذهبت إلى حال سبيلها!!

قامت أمي لتتصل بأمها. كانت هي شاخصة إليها بعينين تبتسمان. كنت أتطلع إليها بصمت. عيناي تثقبان جهة وجهها المقابل لي. خصلة نافرة من المنديل على رأسها. سوداء كما لون شعرها في تلك الأيام.

قالت أمي: "صافي. قضي الأمر".

اتسعت ابتسامتها والتفتت إلي، ربما أحست بوقع نظراتي عليها. ارتعشت لسبب غامض.

دخلت أمي إلى غرفة أختي وأحضرت لها ثوبا لتغير ملابسها. قامت من مكانها. نفس المشية المعتدلة والقوام الممشوق المسافر عبر أزمنتي الموغلة في التصابي. عجيزتها ما تزال نافرة تكاد تنفجر من تحت المعطف الأسود الطويل الذي ينسدل إلى أسفل من الركبة يغطي سروالا من الجينز الأزرق.
تحرك ما بين فخذي.

دخلت إلى غرفة أختي. ذهبت أمي إلى المطبخ. بقيت مسمرا في مكاني أراقب باب الغرفة الموصد. تنزع ثيابها الآن لتلبس ثوب أختي المنزلي. تنزع منديلها. هل ما زال شعرها طويلا يلامس خاصرتها أسود بلون الظلام؟

ما الذي جاء بها الآن بعد هذه المدة السحيقة؟ أنا لم أحببها يوما وهي كذلك لم تقل لي ولو مرة أنها تحبني. سهرنا ذات ليلة نشاهد فيلما أمريكيا طويلا. ذهبت أختي لتنام وتركتنا لوحدنا لا ثالث لنا إلا أنفاسا تتلاحق وعواصف تحرق دمي وربما دمها أيضا، لأنه وبمجرد ما التفت إليها وشخص ما يلهب شفتي وعنق إحداهن على الشاشة، استدارت إلي مبتسمة على استحياء موشوم بشيء أحسسته يلهب نيراني وهي تعض على شفتيها. اقتربت منها وهي مسترخية على نفس الكنبة شعرها منتشر حولها. انتشرت في مواسمها المحملة بأنفاس الصبا ونحن ما نزال على أعتاب ربيع أيامنا. كانت تثيرني كثيرا لكنني كنت أعتبر الأمر عاديا. تماما مثلما تثيرني أي أنثى تحمل معها ما يصيب أي رجل بالدوار خاصة في بداية فتوحاته الجسدية. أسرتها صديقة أسرتي وأمي كانت تعتبرها ابنة أخرى لها أي أختا ثانية لي. ناوشتها مرات عديدة وأنا أضمها في غفلة منها فتدفعني ضاحكة وتفر مني أو أسرق قبلة خفية من خدها عندما تأتي وتسلم علي فتحمر خجلا خفيفا وهي تنظر إلى من يكون حاضرا ساعتئذ. لكن تلك الليلة كشفنا أوراقنا أمام بعضنا بالكامل.

صارت تكثر من زيارتنا بعد ذلك. أدمنت جسدها المنحوت من قطعة مرمر أبيض. أدمنتني. ما خرجت معها يوما. كنا نكتفي بتلك اللحظات المسروقة من شخير أمي واستغراق أختي في نوم كالموت. لم أتعلق بها بالشكل الذي يمنعني من معرفة غيرها. كانت تعرف ذلك. لم تهتم بالأمر. وأنا كذلك لم أهتم إن كانت تعرف غيري. حتى بعد أن توقفت زياراتها لنا بشكل مفاجئ لم يمثل لي الأمر شيئا يذكر. غرقت في أمور حياتي الخاصة. تذكرتها بضع مرات.

ثم هاهي الآن أشياؤها تحوم حولي. والملعونة ترفض أن تمد لي خدها! لكن لماذا أريد أن أصهر عناصر الزمن كأننا لم نفترق إلا أمس وليس لوقت يربو عن أربع سنوات على ما أذكر؟ أليس للزمن سلطته التي تلوي عنق الأشياء فتزلزل ثباتها الوهمي؟ ما الذي يضيرني إن نسيتني إن كان ما بيننا ما تجاوز حد الجسد؟

أتاني صوت آذان المغرب من المسجد القريب. فتح باب الغرفة، أطل جسدها المنقوش على لوحة الوقت فارعا، ابتسمت في وجهي باقتضاب. الثوب الضيق يسطر تضاريسها، صدرها الباذخ ووسطها الضامر وأنا بينهما أتأرجح ودمي يحترق. زاغت الصور في عيني وأركان قلبي أحسها تتململ في عنف. لو أضمها وأغرق وجهي في صدرها؟

تابعتها بنظراتي حتى اختفت في الرواق المؤدي إلى الحمام. ردفاها يتراقصان والثوب الضيق يكاد ينشق عنهما. شيء في رأسي يكاد ينفجر.على الشاشة أحدهم يتهادى مثل طاووس بين أجساد فتية تنادي لاغتصابها ويحرك لسانه بأغنية لم تبال أية حاسة في جسدي بفك رموزها.
عادت من الحمام. قطرات من ماء تسح من وجهها وذراعيها الذين تسرع في ستر بياضهما الذي يكاد يشع. سألتني عن اتجاه القبلة. قلت: "لا أدري اسألي أمي". عقدت ما بين حاجبيها مستغربة : "أولم تهتد بعد؟ حتى القبلة؟ عجبا!" لم أجب. دخلت إلى غرفة أختي وأقفلت الباب. أصبحت قديسة إذن؟ أنا لا أعرف اتجاه القبلة. لكنني كنت قبلتها في زمن ما عندما كانت تحج إلى بيتنا بشكل يثير الاستغراب. ليس استغرابي طبعا. فتغرف من محراب اللذة ما يجعلها تتزود لشهور عديدة. كانت لا تشبع. كنت لا أنضب. كان جسدها بركانا يستعصي على الكمون لكنني كنت أمتلك مفاتيح مجاهيله فأروضه باحتراف كبير. كان أبيض يثير الجنون، مرسوما بعناية فائقة لا زيادة ولا نقصان. كانت كاملة –في نظري طبعا. كثيرا ما كنت أقول لها:"سبحان هذا الجمال". فتضربني على خدي بشيء من عنف لذيذ وتقول: "أستغفر الله". كنت أضحك وأنا أعقب: "ولماذا لا تستغفرينه وأنت تكادين تنفجرين من اللذة؟" كانت تهوي علي بمخدة وتقول في غضب مفتعل تخترقه نشوة ظاهرة: "استح أيها الكافر، ولو، لا يجب على الإنسان أن يتجاوز حدوده مع الله. شر وخير خير من شر وشر".

 وهل ما نفعله شر؟
 بالطبع شر. هل أنت زوجي؟
 نعم أنا زوجك.
 هل أنت مجنون؟ أي عقد بيننا؟
 ها هو. وأشير إلى شيئينا.
 أيها الكافر. والله لن يجدوا قبرا يؤويك بعد موتك.
 أنا لن أموت. وحتى إن حصل ذلك سأطلب منهم أن يحرقوا جتثي وينثروا ما تبقى من رماد في وجه الريح.

فتهجم علي لتخنقني بيديها الرطبتين، أنفجر ضاحكا وأقلبها على الفراش لأمرغها في كفري وهي تتأوه فكأنما تنسى الله والشيطان والكون أجمعين.
كنت أتلذذ باستفزازها، وكانت تزداد شراسة. كانت رائعة. وربما ما شدني إليها أكثر هو حبها للمغامرة. كانت بارعة في اختلاق الأسباب لذويها لكي تزورنا وحدها وتبيت عندنا. أما كيف كانت تغالط أختي التي كانت تتقاسم معها فراشها وتتسلل إلى غرفتي فهذا مالم أقف على حقيقته رغم أنها كانت تؤكد لي أن أختي قد غرقت في النومة العشرين وليس السابعة. أتكون قد تواطأت معها؟ أمي كانت تغلق عليها غرفتها ولا تفتح الباب إلا فجرا لتؤدي الصلاة.

خرجت من الغرفة. نظرت إلي وأرخت عينيها إلى الأرض. بادرتها وأنا أبتسم:

 تقبل الله.
 آآآمين.
جلست في مكانها السابق. أتابعها. انتشرت عجيزتها على الفراش.
 أين غبت هذه المدة الطويلة؟
 ظروف.
 تغيرت كثيرا.
 حقا؟
 نعم، وازددت جمالا وفتنة.

انفجرت ضاحكة. زلزال ألم بي. أغلقت فمها بسرعة بكفها تقمع ضحكتها. سباع في داخلي تتدافع في قمقمها تحرضني لأهجم عليها وأغتصب قبلة عنيفة من ثغرها المنحدر من طقوس الاشتعال. لضحكتها وقع خاص يميزها عن كل من عرفت.

 كبرت إذن؟
 وأنت كذلك.
 لذلك غطيت شعرك.
 واجب على المرأة ذلك. اللهم اهدنا.
 تعملين؟
 فترة تكوين.
 جيد.

ماذا أقول لها الآن؟ على لساني وفي دمي تجري أكوان من الكلمات ومن أشياء أخرى. قلبي يكاد يتوقف من شدة نبضه. كانت مجموعة من الخيوط تنفلت من بين أصابعي. تكلمني باقتصاد كأنها تخاف إن هي أطلقت العنان للسانها أن أستعيد المبادرة. تجيبني على قدر السؤال.

انهمرت فجأة رغما عني وسألتها:

 هل نسيتني بهذه السهولة؟
 ...............

أي حماقة كبيرة هذا السؤال؟

طبقات من الجليد قامت بيننا. استمرت تشاهد التلفاز. أنتظر الجواب. عيناي لا تفارقانها. تستعطفان لسانها. لا أقبل أي شيء غير ما يذكي غروري. الزانية كأنها ليست معي! لا أنتظر الجواب ولا أريده! لو لم تأت أصلا!
دخلت أختي. قامت إليها. تعانقا طويلا. أتأمل بعينين تستمنيان استدارة ردفيها المكورتين تحت الثوب الذي ضاق عن تفاصيلهما. وأنزل إلى أسفل ساقيها اللامعتين مثل شمع أبيض أعض على شفتي وأنا أحضن في حرقة ماظهر منهما وقد انحسر عنه الثوب بفعل العناق. تبادلا القبلات بصوت مسموع. ألقت علي أختي التحية. مددت لها كفي مبتسما. لملمت أشيائي وقمت خارجا لا ألوي على شيء غير حريق دب في مفاصلي وبركان بعثته هذه الملعونة من مرقده الكامن منذ سنوات خلت.

عندما عدت متأخرا كعادتي من جلسات لعب الورق تلك مع رفاقي في مقهانا الخاصة، كان البيت غارقا في كتلة سوداء ضخمة. أنرت وسطه، غرفتا أختي وأمي مقفلتان. شيء منها – الملعونة- مايزال متأججا في المكان. استفاقت بعض الكائنات في دمي. نظرت ببلاهة إلى باب غرفة أختي الموصود دون أنفاسها وجسدها المنقوع في مواسم الفتنة.

دخلت المطبخ أبحث عن شيء يؤكل.

تناهى إلى سمعي صوت باب يفتح. خطوات متثاقلة تجر أذيالها على الأرض. صوت باب يفتح ويغلق ثانية. هدوء استمر للحظات ثم صوت ماء ينسكب. خرجت من المطبخ، فتح باب الحمام. خرجت منه وأطل جسدها الهادر من الرواق الضيق. شعرها منتشر في فوضى جميلة. لا غطاء يحجب عنه ناظري. فتحة الثوب ينفر منها شق الصدر المدمر.

عوت الذئاب الثاوية في دمي وسرت في جسدي رعشة رهيبة. أيتها الآلهة لطفا!!

وقفت تنظر إلي مشدوهة، لا تدري ماذا تفعل. وضعت يدها على أعلى صدرها. أتطلع إليها مترنحا. تاريخ من الفتنة ينتصب أمامي. يرتعش بيننا الصمت ودقات قلبي المجنونة والعواصف التي تزأر داخلي ونظراتها التي لم أعن بتفسيرها. دنوت منها، تراجعت إلى الخلف. اقتربت أكثر ومددت أصابعي إلى وجهها. مررتها على طرف خدها الناعم وأزحت عنه خصلات من شعرها الغجري. جفلت.مدت يدها الأخرى كي تزيح يدي. أمسكتها ونزلت بشفتي على خدها وعنقها. نفس رائحتها المميزة. صارت تحرك رأسها بشكل متسارع وهي تئن أنينا مكتوما.لاشيء يمكن أن يوقفني الآن. أحكمت وجهها بقبضتي ورحت أتمرغ في تفاصيل شفتيها. زمتهما وهي تدفعني جاهدة دون جدوى. ارتخت للحظة ثم عاودت دفعي بجهد أقل أقرب إلى اليأس. في لحظة وأنا مطبق عليها بقوة ارتخت تماما وطوقت عنقي وتركت العنان لذلك الشيء العجيب يفعل فعله. بعد لحظات دفعت وجهي برفق وقالت لي:"المكان مضاء ستستيقظ إحداهما". انتبهت للأمر. خاصرتها ودفعتها إلى غرفتي. أنرتها ورميتها على السرير. عدت وأطفأت نور المطبخ والبهو. انقلبت إليها لأنفجر في شعابها براكين أيقظتها شهبها السادرة في اللهيب وأقفز سنوات بسرعة الضوء نحو فتيل البداية.

في الصباح، وأنا أستعد للخروج إلى العمل، أمي أعدت الفطور على المائدة الصغيرة في بهو البيت، كانت خارجة من الحمام تمسح الماء عن وجهها وذراعيها الأبيضين بلون الثلج، الجزء الأمامي من شعرها نافر من المنديل المرمي على رأسها بلامبالاة. ابتسمت في وجهي بعذوبة وعيناها تهمسان لي بشبق. ألقت علي تحية الصباح والثوب إياه يكاد ينشق عن جسدها الأرعن. قالت لها أختي التي كانت في كامل هندامها للذهاب إلى العمل: "أسرعي في الصلاة كي تفطري، لقد تأخر الوقت".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى