الأربعاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم كريم المحروس

الأزهر بين التمذهب وفقدان الاستقلال

اختار الفاطميون لهذا الجامع اسم (الأزهر) نسبة لابنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث عزمت دولتهم على جعله مسجدا لأداء صلاة الجمعة وقاعدة انطلاق لبعثات نشر فكر الفاطميين وعقائدهم في مناطق الشمال الإفريقي. وفيه تميز منهج الفاطميين التعليمي بتداول عقائدهم وأصول فقههم وفقه اتجاه التشيع إلى جانب إرث وتراث اتجاه الخلافة ومذهب الجمهور على المذاهب الأربعة، فدارت بهذا التنوع المذهبي حلقات الدروس والبحث والتحقيق في هذا الصرح العلمي الديني على وجه أكاديمي مميز لم تعرف بلاد المسلمين مثيلا له من قبل.

وسُجلت هذه المرحلة في التاريخ المصري كأهم مرحلة تعليمية متقدمة في الحياة الأزهرية بعد أن انعكست آثارها الثقافية على المجتمع المصري وكانت سببا مباشرا في إنتاج ذهنية إنسانية منفتحة غير متعصبة تميز بها المصريون إلى حد عصرنا الراهن، وبها تقبلوا الحقائق الدينية إذا ما كانت نتاج مصادرها المحققة بلا مذهبية أو تسييس طائفي.

تطور جامع الأزهر بعد ذلك، وأنشئت مدارسه وضمت إليه (المدرسة الأقبغاوية) التي بنيت على يد المماليك في عام (1339م)، وكذلك (المدرسة الطيبرسية) التي بنيت في العام (1319م). واستطاعت هذه المدارس صناعة التفوق في موادها وأساليب عرضها على مدارس عهد الفاطميين. لكن الفاطميين سجلوا تميزا حضاريا على غيرهم من خلال الرعاية الكبيرة لشأن مناهج التعليم والاعتدال والتنوع فيها بتجرد علمي، وأدخلوا إليها دروس علوم الكلام والفلسفة والاقتصاد والطب إلى جانب مواد الفقه والأدب والرياضيات وعلوم الآلة المتنوعة كاللغة العربية والمنطق والفنون الأخرى. وبعثوا إلى العلماء الكبار والمتخصصين في المدارس الدينية الأسبانية والمجتهدين من مختلف المذاهب الدينية، يدعونهم للانضمام والتدريس في الأزهر، وأولوهم اهتماما كبيرا، وأغدقوا عليهم العطايا، وأسسوا لهم كل سبل العيش الرغيد،وبنوا لهم مساكن بالقرب من جامع الأزهر، فزاد بذلك عدد فقهائه إلى أكثر من 37 فقيها، الأمر الذي انعكس بدوره على مهمة نشر حلقات الدراسة في أروقة الأزهر ومساكنه المحيطة.

وفي ذلك جاءت النتائج مثمرة، فتطور التعليم ليأخذ بعدا منظما في العام (369هـ)، فأعيد تنظيم الخريجين الجدد وضموا إلى إدارة تدريس منتظمة، فكانت الحصيلة العلمية نموا في أعداد المدرسين الخريجين بمستوى علمي رفيع، فضلا عن انتساب أعداد كبيرة من الطلاب من كلا الجنسين إلى الأزهر بعد ازدياد مستوى الدعم الذي قدمه الفاطميون للمؤسسة التعليمية برمتها. و"كانوا (الفاطميون) في أول عهدهم كالبطالسة الأولين يشجعون العلم، ويكرمون العلماء، فشيدوا الكليات والمكاتب العامة ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمرجعة، وعينوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حرا على نفقة الدولة، وكان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجانا، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم، كالمنطق والرياضة والفقه والطب، وكان الأساتذة يتشحون بلسان خاص عرف بالخلعة أو العباءة الجامعية – كما هي الحال اليوم - ورصدت للإنفاق على تلك المؤسسات، وعلى أساتذتها، وطلابها وموظفيها أملاك بلغ إيرادها السنوي 43 مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لإلقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء".

استمر حال التطور التعليمي المميز في العهد الفاطمي إلى عام (567هـ) حيث حمل الأيوبيون على هذه الدولة فدمروها وقوضوا أركانها وأغلقوا الأزهر لمدة تزيد على 300 عام لأسباب ودواعي طائفية محضة، ثم أسسوا بعض المدارس الدينية البديلة التي أقامت منهجها السلبي على مناهضة اتجاه التشيع الشائع في الشمال الإفريقي. ووظف صلاح الدين الأيوبي قواه وأدواته العسكرية والأمنية لتغيير هوية مصر الفاطمية وأمن (بناء المدارس لفقهاء الشافعية واختصاص القضاء بهم، وكان الغالب من أهل مصر الشيعة في عهد الفاطميين الذين كانوا يملكون مصر قبله، وكان المذهب يدرس في الجامع الأزهر وغيره، فأبطل صلاح الدين درسه فيها وأحيا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وبنى لهم كثيرا من المدارس، ورغب الناس فيها بالأوقاف التي حبسها عليها فرغبوا فيها وأخذوا في تقليدها وهجروا ما عداها من المذاهب)، ما أفضى إلى جمود الحياة العلمية على عصبية عمت مدارس الدين التابعة للأزهر، والى توسع الحروب الطائفية ضد من تبقى من الفاطميين والشيعة في مصر والشام حتى مجيء عهد المماليك الذين أعادوا فتح الأزهر وبعثوا الحياة في مدارسه، لكنهم أقصوا فقه اتجاه التشيع (الجعفري) عن مواد الدراسة، وفعّلوا موادا أخرى كالفلسفة والطب والكيمياء.

في القرن السادس الهجري شهدت مصر تعيين أول شيخ للأزهر (عبد اللطيف البغدادي)، لكن الأزهر لم يستقر على حال في منهجه الدراسي، وشهد تراجعا في عهد السلطنة العثمانية من بعد التصفيات الإدارية العشوائية الكبيرة التي نفذها السلطان العثماني وفرضه أوامر مركزية إدارية أصدرها من العاصمة العثمانية قضت بنقل كل نتاج الأزهر التعليمي وارثه الثقافي إلى تركيا، وأقام حركة نقل واسعة لمدرسيه وشيوخه، فكان نصيب مؤلفات الدراسة وتراثه الأزهري السكون في خزائن الأستانة. وهكذا أيضا فعل نابليون في العام (1798م) عندما أفرغ الأزهر وضم من تبقى من علمائه ورجاله إلى النظام الإداري في مصر حتى مرحلة تفجر انتفاضة الأزهر بقيادة علماء الدين أنفسهم وقصف نابليون للأزهر بمدافعه بعد مقتل الجنرال (ديبوي) مباشرة.

عادت الحياة التعليمية من جديد إلى الأزهر مع نهاية عام (1846م)، وشهدت نموا كبيرا في النظام والمناهج على عهد محمد علي باشا بالتزامن مع نمو دوره في إدارة الدولة ومؤسساتها، فرُصدت الكثير من الاختصاصات العلمية في الأزهر وفق الحاجة الإدارية للدولة، وكان من بين مواد منهجه الجديد: علوم الهندسة والرسم والفلك والصحة إضافة إلى المواد الأساسية كالفقه والأصول وعلوم القرآن وعلم الكلام واللغة العربية والأدب والتصوف والتاريخ والجغرافيا.

وأما من حيث النظام الإداري فقد حددت معايير للدراسة وامتهان التدريس، فأسست في عام (1287هـ) لجان لمراقبة هذه المعايير تحت إشراف مباشر من قبل شيخ الأزهر آنذاك (الشيخ محمد العباسي) وأجريت الامتحانات وصنفت الشهادات العلمية على أساس ثلاث درجات تعطى للطالب المتخرج. وتميزت معايير الدراسة وأساليبها في العام (1896م) بنتائجها التعليمية العالية، ما زاد في استقطابه لأعداد كبيرة من الدارسين من بلاد المسلمين فضلا عن بلاد مصر نفسها، فكان ذلك إيذانا بتأسيس مدارس جديدة للأزهر لتغطي الكثير من مدن مصر وأحيائها ولتأخذ بعدا علميا عصريا وفق الرتب المعروفة في عصرنا الحاضر كالابتدائية والإعدادية والثانوية.

كانت مرحلة حكم محمد علي باشا ومشروع إصلاحات الشيخ رفاعة الطهطاوي أهم مرحلة تاريخية تركت أثارها على الحياة العلمية للأزهر من بعد دولة الفاطميين، حيث رافق الشيخ رفاعة الطهطاوي حكومة محمد على باشا وتصدى لوظيفة الإشراف على الكثير من مهامها، لكنه لم يتجرد عن آثار بيئته التعليمية الأزهرية وحس الإصلاح الذي ورثه عن أساتذته الإصلاحيين في هذه الجامعة الدينية العريقة. فكان الشيخ رفاعة الطهطاوي التحق منذ صغره بالأزهر عام (1817م) وتتلمذ على الشيخ حسن العطار الذي تولى مشيخة الأزهر في (1246هـ) حتى عام (1250هـ)، وتميز من بين أقرانه بأفكاره الداعية إلى وجوب العودة إلى الأصالة الإسلامية غير المتعصبة وإنتاج منهج جديد آخذ بفوائد العلوم والحضارة ومهتم بمظاهر العصرنة الوافدة عن أوروبا باعتبارها وليدة الحضارات عامة والحضارة الإسلامية خاصة لا وليدة ذاتها.

تعرض الطهطاوي لمحنة الاستبداد الذي لم يقدر ثمنا للعلوم والعلم، فنفي على عهد الخديوي عباس إلى السودان في سنة (1849م) بعد وفاة محمد علي. لكنه استرد مكانته العلمية في مصر بعد تقلد الخديوي إسماعيل زمام الحكم في سنة (1865م). وتزعم حركتة الإصلاحية من جديد، وألف فيها كتبا تدعو إلى الاقتباس عن الغرب علومه ومدنيته ونبذ ما لا يصلح منها وما لا ينسجم مع الشريعة والتقاليد والإرث الثقافي المحلي.

محنة الطهطاوي بدأت من بعد إعلانه الاستجابة لإصلاحات محمد على باشا التي تعرضت لمواجهة شديدة من قبل الأغلبية الساحقة من رجال الدين والعلم في الأزهر. ولذلك كان الطهطاوي أيضا هدفا لحملات تشدد العلماء الأزهريين المحافظين الذين نقدوا نظام الدولة الجديدة الناشئ عن بعض زعامات انتفاضة الأزهر، وطعنوا في قيمه الإدارية وبعثاته التي أرسلها إلى خارج البلاد لكسب المعارف والعلوم. لذلك "قام محمد علي بهذه الإنجازات من دون أن يدخل أي تغيير على نظام التعليم بجامع الأزهر... فقد كانوا – شيوخ الأزهر - يسخرون من المثقفين المصريين الذين تعلموا في أوروبا أو تخرجوا من المعاهد المصرية مدعين أن أولئك المثقفين تعلموا تعليما سطحيا، مشبهيهم بالطائر الذي يحجل، وتهادى في مشيته من دون أن يحسن الطيران".

وتزامنا مع هذه الظروف المعقدة التي مر بها الأزهر؛ أخذت مصر تلعب دورا قياديا كبيرا في حركة الإصلاح الإداري والتعليمي الديني. ولم يكن محمد علي باشا هو المؤثر الوحيد في إعطاء الزخم لحركة الإصلاح التعليمي الديني، "انه بسبب وجود الأزهر... وإقامة بعض المفكرين السوريين واللبنانيين فيها، وتأثير جمال الدين الأفغاني وتلامذته مثل محمد عبده ومحمد رشيد رضا، أخذت مصر تحتل مكانا قياديا ثقافيا على الصعيدين العربي والإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر"، على عكس الحركة السلفية الوهابية التي نشأت آنذاك ونظامها المتشدد إزاء مناهج الدراسات الدينية في مدارس الجزيرة العربية، وتحالفاتها السياسية التي كانت الموجه الأكثر استغلالا للمقاصد الوهابية السلفية والدافع نحو تهيئة الأرضية لانتشار فكرها بين أقاليم الجزيرة العربية من دون أن يكون لهذا الفكر من دور مستقل في النهضة. وربما كان الدور العلمي الذي لعبه محمد على في مصر وطبيعة العلوم الدينية في الأزهر وتفاعلها بعد ذلك مع حركة التجديد والمعاصرة؛ قد حدت من التفاعل العام مع فكر محمد بن عبد الوهاب في الكثير من بلاد العالم الإسلامي.

في عهد متقدم واجهت الأزهر تحديات خطيرة خارجية كانت سببا في تفاقم مشكلاته الداخلية التي أفقدته هيبة مقاصده وسمو وظائفه التي أنشئ لأجلها في المجتمع المصري، وبرزت بين مدارسه الكثير من حالات التقهقر ومظاهر الهزال العلمي. ففي عهد الملك فاروق مثلا في العام (1937م) ذكر أن شيخا" يدرس في الأزهر عند أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يمقت الإمام الراحل المراغي، ويلتمس له العثرات ليحدث تلاميذه بها، وذات يوم رأى التلاميذ شيخهم هذا يقبل يد المراغي، وينحني له كأنه في ركوع، وفي أثناء الدرس سأل التلاميذ شيخهم عن تلك المودة والخضوع، فأجاب الشيخ: يا أبنائي"نقبلها ونلعنها". وقد تأكد التلاميذ فيما بعد أن "نقبلها ونلعنها" قاعدة مطردة يلتزمها معظم شيوخ الأزهر... ويوم ابتدع فاروق لنفسه نسبا كاذبا برسول الله (صلى الله عليه وآله) قام خطباء المساجد يسألون الله أن يوفق مليكهم المعظم ويرعاه، وقال بعض الشيوخ: "لقد علم الله أن مليكنا الصالح من سلالة نبيه الكريم، فألهم والده العظيم أن يختار له اسما قريبا من النبوة ألا وهو الفاروق". وبعد أن ذهب فاروق هذا وقف شيخ من العلماء بين يدي اللواء محمد نجيب فحوقل وبسمل وقال: إن فرعون (أي فاروق) علا في الأرض، وجعل أهلها شيعا... واجتمعت مرة لجنة الفتاوى بالأزهر، وقررت إخراج أبي ذر من الإسلام، وظهرت الصحف تحمل طعن العمائم فيه لأن المصلحين والجائعين يستشهدون بأقوال هذا الصحابي الجليل ".

ساء وضع الأزهر مع قرب عهد الدولة القومية الحديثة على رئاسة جمال عبد الناصر ومن بعد إصدار قرار رسمي بجعل الأزهر في عام (1961م) جامعة علمية إسلامية خاضعة لقانون رئاسي يقضي بإعادة تنظيم منهجه ونظامه الإداري وليصبح مؤسسة رسمية تابعة للدولة وسياساتها. فطبعت السياسة العليا للأزهر بالطابع الاشتراكي، وصدرت عنه مؤلفات تتحدث عن اشتراكية أبي بكر وعمر وعثمان. كما أصدر الشيخ محمد شلتوت فتاوى مساوقة لفكرة الدولة القومية الموحدة التي روج لها وتزعمها جمال عبد الناصر، منها فتوى بجواز التعبد بفقه اتجاه التشيع كان تهدف كسب ود اتباع اتجاه التشيع في العراق الذين يمثل الأغلبية، وضمان تأييدهم ودعمهم لمشروع ضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة.

وعلى عهد الرئيس أنور السادات استمرت حال تبعية الأزهر لسلطات الدولة وسياساتها، وجرى في حينه الحديث عن أهمية صلح الحديبية بهدف صناعة رأي عام منسجم مع مبدأ تسويق سياسة الدولة للمشروع السياسي القاضي بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وهكذا جمد الأزهر وشهد خضوعا تاما لسياسة الدولة وفيه من المنتسبين ما يزيد على الـ20 ألف طالب، وله من المخصصات المالية من الميزانية الحكومية ما يغطي نفقاته كافة. وخاطب أحد أساتذة الأزهر (خالد محمد خالد) شيخه الدكتور عبد الرحمن تاج (1896- 1975م) بخطاب يعكس واقع الحال على صعيد اختصاصات الأزهر وطبيعة مناهجه، فقال: "إن مهمتك تبدأ من الإجابة على هذا السؤال: هل الأزهر مقبرة أم جامعة ؟! فإذا كان مقبرة فليبق كما هو، وإذا كان جامعة فليمض على الدرب الذي خطته الحياة للجامعات.. وأما الآراء التي قدمها الأستاذ خالد فتتلخص بأن تتكون لجان تعكف على مراجعة جميع مناهج وكتب التعليم بالأزهر، وتراجع الكتب الدينية المعروضة للثقافة العامة من تفسير وتصوف وسيرة، وتعد قائمة بما لا يتفق مع العقل، وتضع اللجان مؤلفا جديدا يحتوي على خطب تذاع على ملايين المسلمين تكشف لهم النقاب عن الخرافات الدينية، وتنظر اللجان في دراسة الفقه الإسلامي على أن مصدره الكتاب والسنة فقط لا المذاهب الأربعة ولا غيرها".

هذه الحال التي وصل إليها الأزهر لحقت بقانون أقر على عهد عبد الناصر، ولعبد الناصر الحق بموجب هذا القانون تعيين شيخ الأزهر ليقود رئاسة مجلس أعلى على رأس الأزهر وبقية أقسامه ولجانه بما فيها مجمع البحوث العلمية الذي يضم كبار علماء الأزهر، ويهتم بمناهج الدراسات في مدارسه وأقسامه، ويختص بالتعليم العالي ويقدم شهادات عليا كالبكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وله أقسام تتفرع إلى كليات تمثل المنهج الحديث المتطور عن منهج الأزهر القديم وتهتم بتخصصات مختلفة منها: الشريعة ومتعلقاتها كعلوم القرآن واللغة العربية والفقه والأصول، والإدارة، والقانون، والزراعة، والطب، والهندسة، واللغات.

لقد تعاقب على رئاسة الأزهر منذ عام (1101هـ) ثلاثة وأربعون شيخا كان أولهم الشيخ محمد الخراشي. وفي رئاسته شهد الأزهر شيئا من استقلاله الديني لكنه ظل على حال من الشد والجذب في قيم نظامه الإداري وتبعيته للدولة. وعاصر فترة التعيين المباشر من قبل الرئيس المصري وفق قانون كل من الشيخ محمود شتلوت (1958- 1964م) ثم الشيخ حسن مأمون (1964- 1969م)، ثم محمد الفحام (1969-1973م) ثم عبد الحليم محمود (1973- 1978م) ثم محمد بيصار (1979- 1982م) ثم جاد الحق (1982- 1996م)، ثم الشيخ محمد طنطاوى الذي تولى المشيخة في عهد الرئيس حسني مبارك.

هذه المنعطفات الخطرة من حياة الأزهر شكلت ضاغطا لجموده على حال من التبعية في منهجه وجانبه المؤسسي. وفي مذكرة موجهة إلى مكتب وزير شؤون الأزهر استجابة لطلب رئيس الوزراء المصري (كمال الجنزوري) شملت دراسة عن أوضاع مناهج المعاهد الأزهرية، جاء فيها: "إن المعاهد الأزهرية كانت قبل تطبيق قانون التطوير سنة 61، تدرس المواد الدينية والعربية بتوسع وتشترط حفظ القران قبل دخول المعهد، كما كانت تدرس مناهج مختصرة في العلوم العامة والحساب والهندسة.. ولما طبق قانون التطوير أضاف إلى هذه المواد جميع المواد المقررة على مدارس التربية والتعليم، فاضطر إلى الاختصار في جميع المواد الأزهرية بنسبة الثلث"33%" ليتيح فرصة تطبيق الخطة الثقافية الجديدة خصوصا بعد اختصار سنوات المرحلة الثانوية إلى أربع سنوات بدلا من خمس، لكن الطلاب وكثيرا من أولى الأمر رأوا صعوبة في قدرة الطالب على تحصيل كل هذه المواد.. فتم اختصار المناهج الأزهرية مرة أخرى بنسبة بنسبة تزيد على 20% من كل مادة على حدة، مع بقاء المناهج المقررة من التربية والتعليم كما هي.. ومع ذلك ارتفعت الشكوى مرة ثالثة. وبناء على توجيهات فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر قام المختصون باختصار أغلب المواد المذكورة بما يتراوح بين 5% و10% من منهج كل مادة في المرحلة الثانوية "أي أن نسبة المحذوف من المواد الشرعية حتى سنة 96 تراوحت بين 58 و63 %.. بينما كان الاختصار في المرحلة الإعدادية يعادل 30% من المناهج الأزهرية " ومجموع المحذوف في هذه المرحلة وصل إلى 83% مع بقاء مناهج التربية والتعليم كما هي من دون اختصار، وحذفت مادة مصطلح الحديث من المرحلة الثانوية ودرس مكانها علوم الحديث المختصرة، وحذفت بعض الموضوعات من تاريخ الإسلام المقررة على المرحلة الإعدادية واكتفي بالسيرة النبوية.

وخلص التقرير إلى أن اختصار المناهج الأزهرية للمرة الرابعة من شأنه أن يؤدي إلى "نسخ المنهج الضعيف الحالي" فلاحظ الإشارة إلى ضعف المنهج، وسيترتب عليه تخريج أنصاف متعلمين، لا يستطيعون التصدي لما يموج به المجتمع من انحرافات في العقيدة والسلوك بل أنهم سيكونون وقودا لذلك الانحراف.

وثمة وثيقة أخرى تتعلق بتنظيم تدريس المواد الشرعية في الكليات العملية ضمت قرار شيخ الأزهر رقم 680 سنة 1997 الصادر في 12/8/97 الذي يقضي بما يلي: تدرس المواد الدينية في الكليات المستحدثة (العملية) بواقع ساعتين أسبوعيا لكل فصل دراسي، بما في ذلك الفقه. أي أنه اختصر ساعات دراسة الفقه التي كانت ثمان ساعات أسبوعيا في الكليات التي عدد سنواتها أربع، وعشرا في الكليات التي عدد سنواتها خمس، أي ساعتين فقط أسبوعيا ولصف واحد فقط.

كانت مادة الفقه مادة أساسية لكل صفوف الكليات العملية، تضاف إليها مادة شرعية أخرى، كمادة التفسير في الصف الأول، ومادة الحديث في الصف الثاني، ومادة العقيدة في الصف الثالث مثلا،ثم أصبح الفقه مادة كغيرها من المواد "لا يضاف إليها شيء، وتدرس في صف واحد من صفوف الكلية، هو الصف الأول، بينما ألغيت من الصفوف التالية من الثاني إلى الرابع أو الخامس، كما يتضح من القرار.

وفي سياق تقليص المناهج الشرعية في جامعة الأزهر لسبب غير مفهوم أصدر المجلس الأعلى للأزهر في جلسته رقم 119 المنعقدة في 30/8/97 قرارا يحمل رقم 8 في بيان ما استقر الرأي، يقضي بما يلي: تقرر بأن الفقه على كل فرقة دراسات بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية التربية، بواقع ساعتين أسبوعيا في كل سنة، في فصل دراسي واحد. وكانت المواد التي تدرس في تلك الشعبة المتخصصة ستا هي: الفقه المذهبي وفقه الكتاب والسنة وتاريخ الفقه وفقه مقارن وأحوال شخصية وأصول فقه، أما المدة التي خصص لها في السنوات الأربع فهي 44 ساعة أسبوعيا، وبموجب القرار السالف الذكر تم التعامل مع تلك المواد جميعها باعتبارها فقها قسم أربعة أقسام: عبادات ومعاملات ومواريث أصول فقه، وأصبحت جميعها تدرس في ثمان ساعات فقط وعن فصل دراسي واحد. أي أن خريج شعبة الدراسات الإسلامية الذي يفترض أن يقوم بتدريس مادة الفقه في المعاهد الأزهرية أصبح يخرج من الجامعة بحصيلة بائسة من تلك المواد تمثل أقل من خمس ما كان يحصله من قبل، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف وتدهور مستواه على نحو غير مسبوق".

هذه الأحوال والمحن التي مرت بها المؤسسة التعليمية في الأزهر ناشئة أساسا عن غياب قيمة الاستقلال في التعليم الديني ومؤسساته وخضوعه لنظام الدولة لأسباب مذهبية أو سياسية. وربما شهدت الأوضاع التعليمية عند نهاية القرن العشرين بعض التحسن في هذه الجامعة المهمة؛ إلا أنها لا تخرج في مناهجهما ووسائلهما عما رسم لها من تحول قسري باتجاه التطابق مع مناهج الجامعات الرسمية الأخرى، فضلا عن إخضاعها لنظام إداري وكادر تعليمي مُسيس ينفتح بها بشكل مطلق على الثقافات العالمية وفق مقاييس محددة ومقيدة وخاضعة للنظام السياسي والمذهبي، وبعيدة كل البعد عن المقاييس العلمية التي تصنعها آلات البحث والتحقيق العلمي الخالص والأصيل في إطار ضوابط تفرضها نصوص دينية واضحة الدلالة ومقاصد تعليمية تقرها هيئة علمية اجتهادية مستقلة مجردة الأهواء والمقاصد الخاصة. واما مبدأ إصلاح وتجديد المؤسسة التعليمية في هذه الجامعة العريقة عبر إضافة مواد أخرى في مجالات إنسانية وطبيعية ورياضية بلا دراسة واعية لحاجات ومقاصد منهج الدراسة الإسلامية وأهدافها على الصعيد الديني والاجتماعي والثقافي ؛فمما لا شك فيه أنها قربت الأزهر إلى مناهج الدراسات في الجامعات المصرية ولكنها أبعدته كثيرا عن نتاجه الديني الحضاري المراد.

 [1]


[1

1- الشيعة في الميزان. محمد جواد مغنية. ص 162
2- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة. ص168
3- قضية التربية والتعليم. ص225
4- حركة اليقظة العربية في الشرق الآسيوي. ص90
5- الشيعة في الميزان. ص 376
6- جريدة الوطن الدولي 31. 1998.ع 1024 حديث الثلاثاء لفهمي هويدي. ص5
7- نفس المصدر السابق. ص 378

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى