الخميس ٨ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم رضا سليمان

عمدة عزبة المغفلين

في الجامع الكبير بقرية الكرامة ـ كفر تعيلب سابقاً ـ وقف المصلون فى صلاة العشاء، ثلاثة صفوف خلف الإمام..

في التشهد الأخير ساد صمت عميق، طالت مدته، تنحنح أحد المصلين أعقبه آخر، وسعل ثالث ثم هدأ المكان مرة أخرى درجة الحرارة وصلت لأعلى معدلاتها، وضع أحدهم يده فوق رأسه يهش حشرة من حشرات ليل الصيف.. غرق معظمهم فى عرقه، رغم مراوح السقف المنتشرة فى المسجد ورغم أن الخادم قلل نسبة الإضاءة بقدر الإمكان حتى لا تزيد من ارتفاع درجة الحرارة وكيلا تجتذب البعض من حشرات الليل، لكن الصورة لم تأت كما أراد الخادم فلا الحرارة انخفضت ولا الحشرات قلت..

كان إمام صلاة العشاء الليلة شيخ مٌسن يحتفظ ببقايا صحة، لكن يبدو أنه فى هذه اللحظات قد أخذته نوبة شرود وتأمل.. لم يعد إلى رشده إلا بعد أن طالت المدة وسعل أحد المصلين بشدة وكررها آخر أكثر من مرة..

سلم الإمام يمينا ويسارا وفعل مثله بقية الحضور بنفاد صبر، ثم انتشروا فى المسجد بسرعة ملحوظة، فلم ينتظروا حتى ينتهي الصف الأخير من إتمام صلاته..

منهم من فضل الجلوس تحت مروحة سقف مباشرة، يتجنب الأذى بهوائها وإن كان هواء ساخن باهت.. ومنهم من اتخذ من أحد الأعمدة مسندا وركن ظهره عليه وفرد ساقه أمامه لمرضه، أو كبر سنه وظـل بعض الشباب فى أماكنهم، والبعض الأخر زاحم المرضى وكبار السن فى الارتكان إلى جدران المسجد وأعمدته..

وبعد دقيقتين تقريبا بدأ الجامع يشهد نوع آخر من الحركة والنشاط الذى انقسم إلى قسمين، الأول قام لصلاة ركعتى السنة وركعة الوتر، والثانى قام للخروج من المسجد..

بين هذا الجمع تاه الحاج " فتيحه فرج " وهو رجل فى الخمسين من عمره تقريبا، طويل، جسده متناسق، أسمر اللون من لفحة الشمس عيناه غائرتان، فى وجهه تجاعيد، أطراف أصابع يديه بها شقوق وأوساخ لا تُزال مهما كثُر غسلها، فتيحه من الشخصيات المحبوبة فى القرية رغم أنه قليل الكلام وتتسم ملامحه بنوع من الجدية، ولكن هناك فى شخصية فتيحه شىء صغير موجود فى العمق يجعل كل من يعرفه يود أن يتخذه صديقا أو حتى يتسامر معه فى أى شأن، فقد كان من هذه النوعية التى تجعل من أمامه يتحمله حتى وإن كان فظا غليظا، فدائما ما كان يلقى بتعبيرات ساخرة وفى غير محلها فيغير مجرى الحديث من الجد إلى الهزل، وقليلا ما كان يتضايق منه أحد أو يعاتبه أحد..

عقله على قده

فتيحه فرج الذى يتوسط الجامع مباشرة بعد الانتهاء من صلاة العشاء لم يستطع الارتكان بظهره إلى عمود أو جدار فقد سبقه آخرون.. تمنى فى هذه اللحظة التى أنهى فيها الإمام صلاته أن يخرج، إلا أن حظه العاثر جعل من فى الميمنة ومن فى الميسرة يقفان ليصليان السُنة..

حاول فتيحه التملص مرتداً إلى الخلف لكنه فوجئ بآخر يصلى وهنـا لم يجد بُد من الانتظار حتى ينتهى هؤلاء من صلاتهم حتى يستطيع المرور ومن ثم الخروج، رفض فكرة سريعة مرت على ذهنه وهى أن يُجازف ويخرج ولن يمنعه أحد، لكنه فضل أن يُمضى الوقت فى أن يقف هو الآخر ويصلى ركعتى السنة، سيما وأنه خشي سلطان النوم، فقد فتح فمه بأقصى قدر ممكن فى حال التثاؤب وظهر من خلال ذلك بعض من أسنانه البُنية اللون والتى كادت أن تختفي، فهو فلاح أصيل من محبى الشاى المغلي ( والسجاير اللف زمان، أما الآن هو من رواد " المضغ " فى القرية، يُرسل دائماً من يشتريه له من القرية المجاورة..)

قف مكانه وهو يتثاءب للمرة الثانية ورفع يديه عاليا ثم أنزلها بهدوء وركنها فوق صدره وبدأ فى الصلاة، تثاءب للمرة الثالثة وفيها أصدر صوتا مصاحبا أنهاه بآهة ممطوطة اضطر أخيرا لأن يرفع يده يوارى فمه تفاديا لحدوث أية مشكلة من الحشرات الليلية، ومحاولا إنهاء هذا الصوت الذى يلفت الأنظار..

أنهى صلاته واستغل الفرصة وخرج بأسرع ما يكون، متمنياً الوصول إلى سريره بفارغ صبر، أخذ حذاءه من أحد الأركان وتوجه إلى الباب المؤدى إلى الشارع..

أمام المسجد البعض يقف فى جماعات، الشباب، الموظفون، وكل فى شأنه يتحدث.. هناك جماعة أخرى من الفلاحين، من المحتم على فتيحه أن يمر عليهم، فخشى أن يستوقفوه، فمر سريعا وألقى التحية.. لكن محاولته باءت بالفشل، فقد استدعاه أحدهم..

  فتيحه.. تعالى..
  أصلى مروح..

فضحك أحدهم :

  ما كلنا مروحين.. هو حد فاضل..!!

اتجه فتيحه ـ مجبرا ـ إليهم ووقف معهم دون أن يصافحهم لئلا يستغرق هذا وقتا أكثر من اللازم.. وسألهم بهدوء..

  خير يا رجاله؟
  خير يا فتيحه.. عايزين نعرف بس هاتزرع أيه؟
  هازرع اللى هاتزرعوه..
  كلنا قلنا نفس الكلام.. الحوض الغربى كله فيه حوالى أربعين فدان بيزرع فيه حوالى ستين اسم كلهم قالوا نفس الكلام..

حاول فتيحه أن يتثاءب لإظهار رغبته فى النوم، واستعد بأن يجيب إن سأله أحدهم عن احتياجه للنوم، فيجيب بأن هذا صحيح لأنه مستيقظ من قبل الفجر ومن لحظتها لم تر عينه النوم، ولكن التثاؤب ظهر أنه مصطنع.. وأيضا لم يسأله أحد فقال فتيحه..

  ما هو حاجة من اتنين يا رز يا ذره..
  ما هيه الحكومة السنه دي عايزه نزرع قطن..
  يا عم دا كلام بنسمعه كل سنه وبنزرع اللى إحنا عايزينه وما فيش حاجة بتحصل..
  طيب يا فتيحه لو شددوا على حكاية القطن دية، هاتزرع؟
  كنا بنزرع القطن وعارفين ديته، الأيام دية ما فيش خُلق وروح للمجازفة..
  على رأيك يا فتيحه دا آنى زرعته آخر مرة الفدان يا دوب جاب حق البذرة والرى..
  أجدعها شجرة قطن كانت شايلة لوزة أو اتنين..
  ألا عرفتوا آخر الأخبار؟
  خير.. فيه أيه؟
  كنت بادفع الإيجار من كام يوم وصاحب الأرض قالى إن دى جايز تكون أخر مرة..
  ليه هايستغنى عن الإيجار؟
  لأه وانت الصادق دا هايستغنى عننا وهايخد الأرض..
  يا جدع قول كلام غير دا..

اضطرب فتيحه عند سماع ذلك ولكنه هدأ عندما سمع أحدهم يعقب..

  يا عم إنت وهو الكلام دا بنسمعه من سنين ومابيحصلش..
  لأ خلاص بيقولوا هايغيروا قانون الإيجار ويا ندفع الإيجار الجديد يا نسيب الأرض..
  مالك يا فتيحه مسهم ليه كدا؟
  باسمع اللى بتقولوه..
  يا أخى ما تاخدش فى بالك، دا كلام مش صحيح..

ينظر فتيحه إليهم جميعا وكأنه يستمد قوته منهم، ثم ابتسم وعاد إلى طبيعته وهو يعقب فى هدوء..

  كلنا فى الهوى سوا..
  يعنى مش همك؟
  إزاى بقى، هو إحنا من غير الأرض نعرف نعيش..
  أمال تقصد أيه؟
  قصدى نسيبها لله ووقتها تفرج..
  على رأيك.. المهم نتفق هانزرع أيه بس ما حدش يقول قطن أحسن الحكاية مش ناقصة؟
  طب ياريت بذرة زمان موجودة وأنا كنت أول واحد يزرع القطن..
  يا عم الحكاية مش بذرة وبس..
  وهو فيه أيه تانى؟

يشعر فتيحه بأن الحديث القادم سيكون بلا فائدة فهو مجرد رصد لحقائق عاشها الناس بالفعل ولن يعود عليهم من ذكرها سوى تقليب المواجع ومصمصة الشفاه على الأيام الماضية.. فنظر فى وجوههم جميعا، ثم زفر بشده وقال..

  نزرع رز وزى ما تيجى..
  خلاص نديها رز..

تحرك فتيحه تاركا المكان :

  طب سلاموا عليكم يا رجاله، أحسن جايز يجيلنا ضيوف دلوقتى..
لا ينتظر إجابة، ويتركهم وقد ظهر عليه الضيق الشديد، فقد شُغل تفكيره، وأخرجه هؤلاء من حالة الاستعداد للنوم، يريد أن يُسرع بالذهاب إلى المنزل قبل أن يطير النوم من عينيه لكن استكمالا لحالة السخط هبت نسمة صيف جعلت ما تبقى فى أجفانه من ثِقل يذهب بلا رجعة..

وصل فتيحه إلى منزله، دفع الباب بشىء من الشدة حتى فُتح، حيث كان الترباس قد فقد قدرته على العمل منذ زمن طويل، ولم يفكر فتيحه ذات يوم فى الحصول على بديل له، اكتفى أهل المنزل بأن يُحبك الباب فقط...

ذات يوم شعر فتيحه بشىء من القلق حيال ذلك ولكنه لم يجد لديه الحماس لتغييره، فأقنع نفسه..

ـ البلد أمان، وبعدين الحرامية إن دخلت البيت هاتسيب اللى فى جيوبها شفقة وتخرج..

كانت سعدية زوجة فتيحه سيدة فى الأربعين من عمرها تجلس أمام التلفزيون فى الصالة تشاهد المسلسل، وهى لا تحتفظ بجمال، حيث أنها تميل إلى القصر بعض الشيء، باستمرار تربط فوق رأسها قطعة من قماش أسمر خفيف " شوقه " ومن أسفلها تظهر أذنيها وقد برزتا إلى الخارج قليلا يتدلى منهما قرط مخرطة، استطاعت شراءه بعد أن دخلت جمعية بعشرة جنيهات فى الشهر، كان نصيبها منها مائة وعشرين جنيها دفعة واحدة، ذهبت بهم إلى الصائغ واشترت هذا القرط وتبقى للصائغ عشرة جنيهات، لم تسددها له إلا بعد أن انتهت من سداد جميع أقساط الجمعية، وظلت فترة من الزمن تحاول إظهار هذا القرط أمام جيرانها.

كانت سعدية مندمجة تماما فى متابعة الحلقة، وتنام إلى جوارها ابنتها مسعدة وهى فى العاشرة من عمرها، والتى تعد آخر حبات العنقود حيث أنجبت سعدية من فتيحه خمسة أبناء هم بالترتيب رشاد وجابر وفايزة ومحمود وأخيرا مسعدة..

وقد كان اسم رشاد تخليدا لذكرى صديق عزيز على فتيحه وفايزه صممت عليه سعديه لأنه اسم والدتها وبالتالى صمم فتيحه هو الآخر على أن يُلقب فتاته الأخيرة مسعدة تخليدا لذكرى والدته أما عن جابر ومحمود فهما قد لقبا هكذا.. دون التفكير فى تخليد ذكرى أحد..

رشاد فى الثلاثين من عمره تزوج واستطاع أن يقيم منزلا بسيطا فى طرف القرية..

جابر الأصغر من رشاد بعامين، يعمل نجار مُسلح، يُسافر للعمل باليومية فى القاهرة وفى المدن الجديدة، وبوجه عام يعتبر غير موجود بالمنزل..

فايزه تزوجت منذ عامين من حجازي الذي يعمل فى دق الطلمبات..
لم يبق فى المنزل سوى محمود الطالب فى المدرسة الإعدادية ومسعدة فى الابتدائي..

دخل فتيحه إلى الصالة، ولم تلتفت إليه سعدية، وجهاز التلفزيون داخل صندوق من خشب قديم استطاع فتيحه أن يُقنع نجار الموبيليا بأن يصنعه له وذلك يوم أن قرر شراء التلفزيون، على الرغم من أن التلفزيون قديم ومستعمل، وكان فتيحه قد تحدث إلى السمسار أكثر من مرة طالبا منه إياه، ولكنه كان ينسى الفكرة تماما عند سماع الأسعار لكنه اضطر أمام إلحاح سعدية أن يقترض من ابنه جابر مبلغ على سبيل السلف الذى لا يرد ودفعه للسمسار وحصل على الجهاز، وأما عن بقية المبلغ وكيفية تسديدة، فإن الله وحده هو الأعلم بكيفية تسديدة..

الصندوق الموضوع فيه التلفزيون كان به رفين، الأعلى مخصص للجهاز، والسفلى توضع فيه أشياء غير محددة من قبيل أكواب الشاى الفارغة.. أطباق بها بقايا طعام..

جلس فتيحه فى الطرف الأخر من الصالة حيث قطعة حصير بالية على الأرض الخرسانية، وركن ظهره إلى الحائط مقررا اشغال نفسه بالمسلسل حتى يطرق النوم بابه..

شعر ببرودة نابعة من الأرض فاستلقى على ظهره واضعا كفيه تحت رأسه كمخدة وقد استعذب البرودة فى ظهره بأكمله إلى أقصى درجة.
تذكر يوم قرر فيه أن يواكب العصر ودخول القرن الحادى والعشرين ومواكبته للعصر تمثلت فى أن يجعل أرضية المنزل بالخرسانة بدلاً من التراب الشِرب وذلك لأن الفئران كانت تستطيع بسهولة عمل أنفاق فى الأرض دائما للسطو على محتويات مشنة العيش، أو تصل إلى الحجرة التى تُبيّت فيها سعدية بطها وفراخها حتى أن " العِرسة " ذات يوم دخلت إلى هذه الحجرة وخنقت ما استطاعت خنقه، ورغم إدراك فتيحه بأنه من المستحيل على سعدية التصدى للعِرسة إن هي دخلت حجرة البط والفراخ إلا أنه فى هذا اليوم قلب حياة سعدية جحيما، وقرر أن تعتزل سعدية تربية البط والفراخ، ولكنها بعد مدة استطاعت إقناعه بأن الحل يكمن فى الأرضية الخرسانية وهى بالإضافة إلى ذلك نوع من النظافة، والنظافة من الإيمان يا حاج فتيحه.. واستغلت فرصة تقدم حجازى للزواج من فايزة وكثرة الزوار، واتفقت سرا مع جرار يحمل الرمل والزلط، على أن يأتى بالمطلوب، ولم يتبق سوى الأسمنت وأخيراً انصاع فتيحه للأمر الواقع وعلق عليه بأن " الخيرة فيما اختاره الله ".

واستعان ببعض الشخصيات التى لديها ميول للمشاركة والخدمات وتحولت أرضية المنزل إلى الأرضية الخرسانية.. وباتوا ليلتهم أمام المنزل ومعهم قطع الأساس البسيطة، حتى اليوم التالى ودخلت سعدية وهى تبسمل وتحوقل وفى يدها ورقة وإبرة خياطة وتستعيذ من أعين الجيران وفلان وعلان من الحسد ومن الحاسدين وشرورهم..

عاد فتيحه من أرضه بعد الظهر على غير عادته، فقد كان يفضل أن يقضى وقت القيلولة على راس الأرض تحت شجرة الصفصاف لكنه فى هذا اليوم كان لديه رغبة جارفة لمشاهدة منزله بعد التجديدات التى أُدخلت عليه، وعندما شاهده ابتسم وقال فى نفسه " بالفعل هى خطوة كان لابد منها "

شعر ببرودة الأرض الخرسانية تسرى فى ظهره وهو مُلقى فى الصالة فى منزله المتواضع البسيط.. وأخرجته سعدية من أفكاره عندما ضحكت بشدة على أحد المشاهد فى المسلسل فنظر إليها فتيحه لحظه ثـم جلس وقد تولدت لديه رغبة مفاجئة فى أن يتابع الحلقة وألا ينتظر النوم بهذا الشكل الممل.. فسأل زوجته..

  هو اتجوزها برضه..؟

فقالت سعدية دون أن تلتفت له..

ـ لأه..

صمتت سعدية رغبة منها فى المتابعة، فشعر فتيحه بالغيظ وسألها مرة أخرى..

  أُمال ايه اللى حصل..؟
  هاقولك.. بس بعد الحلقة ما تخلص..

صمت فتيحه لحظة، شعر فيها بالضيق الشديد من سعدية، على الرغم من أنه يعرفها جيدا، إلا أنه فى هذه اللحظة قرر أن يتمرد على طِباع زوجته سيما وأن حالة الملل التى أصابته جعلته أقرب إلى الإنفعال من الدِعه فتحدث بشىء من الشدة..

  طيب سيبك من الهيافه دية وقومي ناوليني مجمع المضغ.
لم تلتفت إليه سعدية ومدت يدها فى الرف الموجود أسفل رف التلفزيون وأخرجت مـنه علـبة صغيرة اتفق الجميع على تسميتها بـ " مجمع ".. وناولتها له، ولم ترفع عينيها عن التلفزيون، أخذ فتيحه نفساً عميقا محاولا التغلب على ضيقه الشديد وأخذ المجمع وأخرج منه قطعة صغيرة من المضغ ووضعها فى فمه أسفل اللسان، ألهبته حرارتها أغلق المجمع ثم نادى على سعدية مرة أخرى..

ـ خدى المجمع دا يا بت.

فى هذه اللحظة انتهت الحلقة، فضحك فتيحه قائلا..

  أحسن أهى خلصت..
تعمدت سعدية إظهار تعجبها..
  طب وأيه يعنى ما هيه لازم تخلص.. هو أصلا ما كانش عايز يتجوزها دى هى اللى..

كانت سعدية قد اعتدلت فى جلستها استعدادا لعملية الشرح لكن زوجها لم يعطها هذه الفرصة مقررا فى أعماقه أنه يجب عليه أن يرد لها الإهانة

  مش عايز أعرف.. قومي اعملي نص كباية شاي..

كانت سعدية قد أخذت منه مجمع المضغ وهى مازالت جالسة فى مكانها الأول وعندما طلب منها نصف كوب من الشاي تصارعت أمور كثيرة بداخلها ولكنها لم تستطع التعبير إلا باعتراض بسيط فيه شىء من الطاعة..

  مش هاتاكل لقمه الأول؟
  لأه مش واكل.. أنا عايز شاى..

وقفت سعدية وتوجهت إلى المطبخ، وظل فتيحه فى مكانه مفكراً كيف تحمل كل هذه السنوات فى العيش مع سعدية هذه كتلة اللحم الناشف حتى مجرد فكرة التخلص منها لم تأت له على بال، والأن عندما راوده هذا التفكير هز رأسه واعتدل منادياً على سعدية بأن : تناوله شوية ميه ساقعة.

أتت سعدية وبيدها كوب الماء :

  مش لوعندنا تلاجة زى بقية الخلق كنت عرفت تشرب ميه ساقعة بجد؟

نظر فتيحه إلى سعدية طويلا قبل أن يرفع كوب الماء إلى فمه
واقع الأمر أن فتيحه طلب منها الماء فى هذه اللحظة بالذات ليراها عن قرب أطراف شعرها القصير الخشن المنتشر حول رباط رأسها ورقبتها التى تشعر من يراها بأنها لزجة وعليها طبقة من العرق والتراب وعيناها الضيقتان، وأنفها المتنافر مع وجهها الصغير المدور، لم يكن فى وجهها حسنة وحيدة سوى شفتها السفلى، فقد برزت فى هدوء يرى فيه المتأمل جمال سيما إن تم تخيله بين أجزاء أخرى أجمل.. كانت ترتدى جلبابا من القماش الخفيف أعلاه مفتوح يكشف عن صدر ممسوح فنهديها قد سقطا فوق بطنها، من النادر جداً أن ترتدى سعدية حمالة صدر، غابت بشرتها تحت شعيرات باهته يراها الناظر بيسر.

تركته سعدية ودخلت المطبخ، وعاد فتيحه إلى وضعه الأول التماساً لبرودة الأرض.. إنه يتذكر يوم أن تزوجها عندما دخل الجيش قبل النكسة مباشرة، وفى أول أجازه طلب من والده أن يزوجه، ووافقت هذه الرغبة هوى والده لأسباب منها أنه يريد بديلا عن فتيحه يعمل معه إلى جانب الأعمال المنزلية ورغبة خفية فى أن ينجب أولادا ومن ثم تبدأ عائلة فرج التى طالما حلم بها فى اليقظة والمنام..

ذهب فرج وولده فتيحه إلى منزل والد سعدية الذى رحب بهما ودخلت الأفراح عائلة سعدية، باعتبار أن فتيحه رجل "لقطه"

كانت متطلبات الزواج سهلة، المقعد مقام على سطح المنزل وفى يوم واحد نزلوا جميعا إلى البندر المجاور، إلى ميت غمر وعلى الرغم من قصر المسافة حيث أنها لا تتعدى ثمانية كيلومترات، إلا أن النزول إليها يتحول إلى مثار لأحاديث القرية لمده طويلة.. نزلوا إلى ميت غمر لشراء كافة شئ لزوم الفرح..

لم يطرأ على بال فتيحه وقتها كون سعدية جميلة من عدمه ولا شك فى أنها سوف تكون زوجة وأم لأبنائه، رغم أن سعدية كانت تمتلك جسد مميز وشئ من النضارة التى ذهبت مع الإنجاب والعمل الدائم، بعد يومين فقط من الزواج سافر فتيحه وكانت النكسة، وشعر فتيحه بأن حياته قد تغيرت.. إلى الأسوأ طبعاً حتى بعد أن رُزِق بابنه الأول رشاد أو حتى بعد نصر أكتوبر ولم يكن يُرهق نفسه فى عمليات فكريه لا يعى منها الكثير، يكفيه هذا الإحساس الذى تُشعره به سعدية من كونه رجلا وسيد الرجالة، وتوالت عمليات الحمل وتم له من الأولاد خمسة وكان معهم رزقهم، فقد استطاع من خلال العمل باليومية التعايش مع الحياة وتوفير شيء قليل من المال حيث حصل على قطعة أرض صغيرة أقام عليها منزلاً صغيراً وهو الذى يعيش فيه حتى الآن ثم جازف أكثر من مرة وقام باستئجار قطعة أرض وزراعتها بالضبط مثلما كان يفعل والده
بعد عدة سنوات فضل ـ مثل بقية أهل القرية ـ كتابة عقود الإيجار الدائمة مع أصحاب الأراضى وبقايا الإقطاعيين، وكان نصيب فتيحة من هذه الأرض تسعة عشر قيراطا كانت بجوار الجانب الغربى من القرية وكان يعيش هو وأسرته كاملة على ما ينتج من هذه القراريط، ولم يكن يطمح فى أن يشترى هذه الأرض لأنه ببساطة لا يمتلك ثمنها، ولم تكن لديه أية مواهب أخرى لاستغلالها فى العمل فى أى مجالات أخرى، لذا وجدها السبب الوحيد للرزق، فاقتنع بذلك راضيا.

تذكر المعركة التى قامت بينه وبين سعدية زوجته بعد أن إنتهى من الخدمة العسكرية بعد نصر أكتوبر

وكانت الحكومة ـ وقتها ـ قد وفرت للجنود وظائف، وقد نزلت أسماء فتيحة وزملائه بالقرية ضمن المعينين فى العمالة فى المدرسة الابتدائية الموجودة فى القرية، ورفضت سعدية بشدة أن تكون زوجة لفراش فى مدرسة، وانتهت المعركة باستسلام فتيحة ورفض الوظيفة ولأن ذلك أيضا قابل رغبة بداخله فعشقه للعمل فى أرضه والجلوس إلى جوارها فى أوقات فراغه قد ملأ كيانه

أتت سعدية بكوب حتى منتصفة شاى أسود وأعطت الكوب لفتيحه الذى اعتدل وأخذ منها الكوب ورفعه أمام عينيه متأملا ولا يدرى لماذا؟ ثم رشفه فى رشفتين أو ثلاثة ثم وضع الكوب جانبا، ونظر إلى سعدية التى جلست إلى جوار التلفزيون مرة أخرى تبحث بين قنواته عن مسلسل آخر..

تقلبت الطفلة مسعدة ذات اليمين وذات اليسار، فنظر فتيحه إلى زوجته وحدثها فى لا مبالاة..

ـ ما تدخليها تنام جوه..
ـ طيب.. هادخلها لما آجى أدخل..
قالت ذلك ولم تنظر نحوه، ولم يولى هو ذلك أية عناية وبدأ يتثاءب وشعر بدبيب فى جسده فوقف بهدوء متجها إلى الغرفة التى ينام فيها، ووقف أمام بابها يسأل زوجته :

ـ هو الواد محمود نام؟
ـ لأه محمود لسه بره.. هاستنى لما يجيى علشان أجيب له يتعشى.
ـ طيب وطى البتاع دا شوية علشان أعرف أنام..
ـ إقفل باب الأوضه وراك وأنت مش ها تسمع حاجة..

لم يسمع فتيحة الجملة الأخيرة لأنه بالفعل كان قد دخل وأغلق الباب خلفة..

استيقظ مبكرا كعادته، وذهب إلى الجامع، وكاد يطير فرحا عندما وجد دورة المياه التى تحتوى على " الدش " خاوية ولم يصل إليها أحد بعد..

دخل مباشرة وخلع ثيابه كاملة وألقاها أعلى الباب، وفتح الماء على آخره، وإنسال الماء على جسده باردا منعشا، وكان يأخذ نفسه تحت الماء بصعوبة ويشهق ويزفر وانتشر الرذاذ أمامه، عاكسا الضوء الساقط من المصباح الكهربائى فظهرت عدة ألوان، أغرت فتيحة على أن يعيد الوضع أكثر من مرة سعيدا منتشيا، ولم يعكر صفوه إلا صوت دقات على الباب، فقد كان من الطبيعي أن ينتظر أمام هذا الباب بالذات العديد من الأفراد خاصة فى الصباح الباكر

فأغلق الماء وتناول قطع ثيابه، يرتديها دون أن يجـفف جسده ثم لبس طاقية رأسه البنية اللون وخرج وهو يعدل ثيابه، وجد أمام الباب أكثر من شخص، فلم يهتم واتجه إلى داخل المسجد حيث صلاة الفجر..

عندما خرج فتيحه من المسجد كان الليل بأكمله قد ولى وانتشر نور الصباح، وظهر جزء من قرص الشمس يولد، وزقزقت العصافير وهى تغادر أعشاشها بحثا عن الطعام وعلت صيحات الديوك بالتكبير وصرخات الإوز والبط مختلطة بصرخات بعض الأطفال..

شعر بالضيق حالما فشل فى أن يعبر عن إحساسه حينما شاهد كل هذه الجزئيات فى الصباح الباكر..

وصل إلى منزله واستقبله حماره بالنهيق، فمد فتيحه يده بجزء من برسيم ووضعه أمامه، وتوجه ناحية الجاموسة ووضع إليها العلف فى المزود..

دخل إلى حجرة النوم فألفى سعدية تغط فى نوم عميق، ويبدو أنها سهرت طويلا أمام التلفزيون.. فأيقظها..

ـ سعديه.. بت يا سعديه..قومى هاتى حاجة أغير بيها ريقى وأشرب عليها شوية شاى..

تتقلب سعدية فى فراشها وتفتح عينيها بصعوبة، ثم تجلس فوق حافة السرير، بعدها تتوجه مباشرة إلى ممارسة أعمالها اليومية..

يجلس فتيحه أمام المنزل منتظرا زوجته، وقد شعر بالراحة والطمأنينة، فمد ساقيه على طولهما أمامه، ولم يكن يهتم بالمارين فيرد بالتحية دون أن يلم ساقيه، ولكن الأصول لم تكن لتفوته، فعندما مر الأستاذ عبده جاره بسيارته لمّ فتيحه ساقيه بسرعة واعتدل فى جلسته وهو يجيبه..

ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. يا صباح الخير يا أستاذ عبده.. يا صباح الهنا يا راجل يا محترم..

كان الأستاذ عبده قد مر بالسيارة ولم يسمع كلمة واحدة وإنما إكتفى بأن شاهد يد فتيحه وهى تشير له..

هبط زوج من الحمام بالقرب منه ينقر الأرض بحثا عن طعام الإفطار وظل فترة جمع خلالها الكثير من الحبوب.

انشغل بزوج الحمام حتى أتت زوجته من الداخل وقد حملت شقة عيش من خبيز المكنة وطبق به قطعة جبن أبيض وفى يدها الأخرى كوب الماء.. وضعت هذا أمامه ودخلت، فمد يده يكسر شقة العيش فوجدها ناشفة فقال بصوت مرتفع..

ـ يا بت يا سعديه ما فيش شقه طرية؟
ويأتيه صوت سعديه من الداخل..
ـ لأه..
ـ لأه ليه.. ما عندك البرسيم، ما بيتيش فيه شقتين ليه عشان أعرف آكل؟

تخرج سعدية وفى يدها كوب الشاى وتضعه أمامه ثم تعدل مرة أخرى استعدادا للدخول قائلة..

ـ البرسيم ما عادشى ينفع دلوقتى يا فتيحه، خلاص نشف وبعدين أنا جايبه الميه معايا عشان ترش شوية منها على شقة العيش.
ـ خلاص.. أهى لقمة والسلام أشرب عليها الشاى واتصرفى إنتى

واعملى حاجة طرية على سنانى عشان أتغدى بيها.

ـ وقت الغدا يفرجها ربنا..

وتتركه وتدخل وهى تنادى بصوت مرتفع..

ـ مسعده.. بت يا مسعده إنتى لسه نايمه، إش حال إن ما كنت نايمه قبل العشا؟

ويضحك فتيحه ثم يحدث نفسه بصعوبة والطعام فى فمه..

ـ إنت اللى ناصحة قوى يا سعديه.. دا الواحد لو سابك يومين هاتفضلى نايمه.

ينتهى من طعام إفطاره ويشرب الشاى بهدوء، وينادى على زوجته طالبا منها إحضار مجمع المضغ، وبعد دقيقة تخرج الطفلة مسعدة وهى تترنح من سيطرة النوم عليها وفى يدها مجمع المضغ..

ـ المضغ يابا..
ـ صحيتى يا مسعد.. هاتى يا بنتى.. أمال أمك بتعمل أيه؟
ـ أمى دخلت تحلب الجاموسة.

نظر فتيحه إلى ابنته بحنان وطلب منها أن تأكل ما تبقى من الطعام ونظر متأملا متذكرا أمه، لقد كان يحبها حبا شديدا، فقد كانت تميل إلى الهدوء والسكينة وهذا ما ورثه عنها وكان يفتخر بذلك وتذكر يوم موتها منذ زمن ليس بالبعيد، وكيف أنه شعر بعد وفاة والديه بفقد الزمن الجميل وأن البحث عنه أصبح كالبحث عن السراب

ازدرد لعابه وهو ينظر إلى ابنته ثم قال بصوت مسموع..

ـ هيه.. دنيا.. ماحدش واخد منها حاجه.

فنظرت إليه بدهشة متسائلة وهى تنظر إلى الخبز والجبن فى يدها..

ـ هيه أيه اللى ما حدش واخد منها حاجة يابا؟؟

فصمت لحظة وهو فى حيرة من أمره ثم ضحك وهو يقول..

ـ الدنيا يا مسعده.

فنظرت إليه الطفلة بدهشة أكثر، ثم أكلت طعامها ولم تعقب.

ووقف فتيحه تاركا المكان قائلا..

ـ أنا سارح الغيط يا مسعده، وإن ما جيتشى على الضهر خلى أمك تبعت الغدا مع محمود أخوكى.

فأجابته مسعده وهى تتناول كوب الشاى الفارغ فى محاولة للبحث فيه عن بقايا..

ـ وأنت مش جاى على الضهر ليه؟

ـ جايز الجرار يعدى عشان يحرت المشتل أصل إحنا هانزرع الأرض رز.

نظرت مسعده إليه وقد غمرتها سعادة لا توصف، فهى تحب زراعة الأرز جدا، لأن ذلك سوف يتيح لها النزول فى الماء فترات لذيذة وقت شتل الأرز..

سار فتيحه فى الشارع المؤدى إلى خارج القرية حيث الاتجاه إلى الحوض الغربى الذى تقع فيه قطعة أرضه.. تسعة عشر قيراط لا غير وهى مزروعة الآن برسيم، ولكنه فى النزع الأخير.

يصل إلى رأس الأرض ويجلس تحت شجرة الصفصاف على حافة الترعة والشمس قد صعدت إلى السماء وبدأت أشعتها الحامية فى الوصول المباشر إلى الأرض.

جاره فى الأرض سالم منصور، موجود الآن فى أرضه وعندما شاهد فتيحه جالس تحت الصفصاف، ترك أرضه وذهب إليه وجلس إلى جواره..

  سلامو عليكم يا فيتحه..
  وعليكم السلام يا سالم، إنت بتعمل إيه فى الأرض دلوقتى؟
  بحش البرسيم اللى فاضل.
  ومستعجل ليه؟
  ولا مستعجل والا حاجه..أنا قلت شوية البرسيم دول وجودهم زى قلته، أخلص منهم بقى عشان لما الجرار يجيى يحرت يبقى يحرتها على بعضها ونخلص وأهو الشمس تحمصها شوية.
  والله إنت واد نمس يا سالم.. وراسك دى رايقه.. خلاص آنى هاعمل زيك
  طب إنزل حش البرسيم..
  مش إنت قلت شوية برسيم زى قلتهم؟
  يعنى أيه؟
  يعنى الجرار يحرتهم مع الأرض.. وزى ما تيجى.
  لأه قوم حش شوية البرسيم وروحهم.. هاينفعوا الجاموسة والحمار.

يقف سالم وينزل أرضه، وبعد فتره بسيطة يتبعه فتيحه وينزل أرضه هو الآخر، ويأخذ المنجل من طرف الرعية ويقوم بالعمل فى همة ونشاط على أكمل وجه.

وهذه الحقيقة كان يعيها فتيحه جيدا، حيث أنه عندما يبدأ العمل فإنه يكون أفضل شخص يقوم بهذا العمل على الإطلاق المشكلة الأساسية والتى يعترف بها أمام نفسه باستمرار هى مشكلة متعلقة بجزئية البدء فقط.

أعمل فتيحه يديه وجسده بأكمله حتى أستطاع أن يتفوق على سالم جاره ولم يبالى بالشمس الحارقة وغرق تماما فى العمل وبحكم العادة غرق فى بحر أفكاره وخرج تماما من حيز المكان وتذكر المغامرة الوحيدة فى حياته.. عندما تمرد على هذه الحياة التقليدية وكان ذلك بعد أن اشترى التلفزيون وشاهد فيه أصناف من النساء وأدرك أن هناك أجناس أخرى غير سعدية.. فلم تكن هناك فى القرية بأكملها فتاة أو سيدة يمكن أن يقال عنها أنها من هذا الجنس الذى يراه فى التلفزيون، فكل نساء القرية من نفس جنس سعدية زوجته، وخرج أكثر من مرة وفى القرية المجاورة حتى عثر على مقصده.. " عليات القهوجية "..

صاحبة المقهى المقام بجوار الكوبرى عندما جلس ليستريح من عناء الطريق وطلب كوب من الشاى وفوجىء بها ـ عليات ـ تقدم إليه طلبه ونظر إلى جسدها الضخم وطولها الفارع وبشرتها الناعمة اللامعة رغم أنها تميل إلى السمرة وعيناها الواسعتان الغارقتان فى الكحل وشفتيها تتساقط منهما الابتسامات الجميلة ومالت عليات ناحيته وهى تضع كوب الشاى متعمدة أن تغمره بأنفاسها الدافئة، استطاعت أن تلهبه بهذه الأنفاس، ولم يفارق فتيحه هذا المقهى بعد ذلك لعدة شهور تالية.

بذل كل ما يملك من أساليب وأفعال لاستمالة عليات خاصة بعد أن علم أنها خالية، فهى أرملة منذ زمن طويل، ولكنها رغم ذلك لم تفتن به، ولم ينل منها فتيحه أكثر من أنفاسها الملتهبة وجملة وحيدة أطلقتها عندما شاهدت فى عينيه شعور بالملل فقالت له عندما قدم إليها فى يوم ما
ـ وحشتنا يا سى فتيحه..

طار فتيحه من الفرح، وكانت هذه الجملة سببا فى أن تجرأ وطلب الزواج من عليات وأظهر جدية لم يظهرها آخرون وبعد العديد من المباحثات وافقت عليات من قبيل "ظل راجل" ووصل الخبر إلى سعدية زوجة فتيحه عن طريق بعض رواد المقهى الرافضين لهذه العلاقة التى تمنعهم من تفريغ همومهم عند أقدام عليات.

قامت الدنيا على رأس سعدية وحملت أولادها الثلاثة رشاد وجابر وفايزة، فلم يكن محمود أو مسعدة قد أتوا بعد، وذهبت بهم إلى مأذون الناحية وبكت وأبكت الأطفال أمامه وحلفت بأغلظ الإيمان إن هو فعلها وعقد قران فتيحه على القهوجية، لتشعل النار فى نفسها وتدور بين الخلق وهى مشتعلة وتخبرهم بأن المأذون وفتيحه أشعلا فيها النار للتخلص منها وإفساح الطريق أمام عليات القهوجية، وتغلب المأذون على انفعالاته وجمع رجال القرية واقنعوا فتيحه بأن يعدل عن رغبته.

وإن كان فتيحه قد اقتنع حقا، فإنه اقتنع بعدم الزواج ولكنه لم يقتنع بعدم الذهاب عند عليات ليشبع رغباته، وذات يوم سمع جملة فى التلفزيون تعبر عن نفسه تماما، ولكنه خشى أن يكررها حتى لنفسه وكانت تقول : أنا أحبها ولن أستطيع العيش دونها.

كانت الطامة الكبرى عند فتيحه.. فكيف يحدث ذلك وعلى آخر الزمن يحب فتيحه؟؟!!

آه لو علم أهل القرية بحكاية حبه هذه لأصبح نكتة الناحية فلا ضير من أن يطلب سيدة للزواج ولكن أن يعلن أنه يحبها، فهذه هى الطامة الكبرى.. شعر فتيحه بوخز فى ضميره، فكيف انحدر إلى هذا المستوى وأحب؟ وأقسم أمام نفسه ألا يذهب إلى قهوة عليات مرةة أخرى وألا يعود لمثل هذه المعاصى أبدا، وحتى يكفر عن خطيئته صام يومين متتاليين وواظب على الصلوات الخمس جماعة فى المسجد خلف الإمام مباشرة حتى استطاع بالفعل أن ينسى عليات القهوجية، وعندما وصل إلى هذا المستوى فرح ووثق من قدراته وحاول أن يعوض سعدية عن هذه الشهور التى مضت فى حب عليات فكانت الثمرة ابنهما محمود ثم مسعدة..

انتهى فتيحه من المهمة التى بدأها فى أرض البرسيم ونظر سالم ناحيته بطرف عينيه فوجده قد إنتهى قبله فقال فى نفسه..

ـ فتيحه دا حمار شغل..

ألقى فتيحه نظرة على البرسيم الذى تكوم خلفه حبات.. حبات، ولم تمضى سوى دقائق حتى جعلها كوما واحدا على طرف الحقل، وأخذ منجله فى يده ونظر إلى السماء والشمس قد توسطتها وأحس بأشعتها للمرة الأولى فترك الأرض وجلس تحت شجرة الصفصاف وخلع حذاءه ووضعه تحت رأسه وتمدد فى ظل الشجرة وأخذ أنفاسا طويلة من نسمات بسيطة أتت بفعل الظل.

تأمل الشجرة وكيف أنها كبرت وانتشرت فى المكان، فقد كانت هذه الأرض عندما استأجرها من سنوات طويلة مثل البنت القرعة، فلم يكن هناك مكان يجلس فيه على الإطلاق وكان يضطر للجلوس تحت شجرة تقع على رأس أرض بعيدة عنه بعض الشىء، كان يشعر بأنه غريب عن المكان، فلم يستطع يوما أن يدعوا أحد للجلوس معه، فهو نفسه ضيف، وكان يتمنى أن تكون لديه شجرة مثل هذه كبيرة تقع على رأس أرضه يجلس تحتها وينعم بظلها شعوره بأنها ملكه يجعله يستمتع أكثر بظلها، فكان يشعر بشىء من العجز حيال ذلك سيما أنه لابد من مرور وقت طويل حتى تصل هذه الشجرة إلى المستوى المطلوب، فكان هذا هو السبب المباشر فى التأجيل، وأنه ذات يوما سمع من أحد الفلاحين ما كان يقلقه دائما ويفكر فيه بقلق من حين لآخر..

ـ هى أرضنا عشان نوضبها، دا إحنا يا دوب مأجرينها..

لكن الفكرة ظلت تلح على تفكيره حتى كان يوم عرض فيه القضية على ابنه البكر رشاد ووصف له مشاعره وأفكاره..

أراد رشاد أن يجعلها مفاجأة لوالده فاستغل فرصة عدم وجوده فى الأرض وذهب إلى شجر الصفصاف الكثير المقام حول منطقة السواقى وأخذ معه فأس صغيرة سهلة الحمل والمنجل وصعد فوق الشجرة وعثر على مراده قائلا " إنه فرع طويل وسِرح " وأعمل فيه قدراته وأخيرا سقط الفرع وحمله رشاد فوق كتفه الأيمن والفأس الصغيرة والمنجل فى يده اليسرى وتوجه إلى رأس الأرض وقام بعمل حفرة مناسبة وغرس الفرع وسقاه بالماء، وكان فى طرف الفرع الأعلى بعض الفروع الصغيرة الخضراء التى نمت بعد ذلك.. وكانت هذه من المفاجآت السارة فى حياة فتيحة عندما ذهب إلى أرضه..

مر العام الأول عليها وأصبحت شجرة ولكنها شحيحة الظل، كان يجلس تحتها فتيحه، ورغم أن رأسه وجزء بسيط من جسده ينعم بظل الشجرة، إلا أنه كان يستمتع بذلك أكثر من الظل الكامل لشجرة جاره التى كان يجلس أسفلها.

مرت السنوات وكبرت الشجرة وكانت شجرة فتيحه يؤمها الهاربون من لهيب الشمس، وتمنى فى نفسه يوما ما لو كان رشاد جعلها شجرة توت بدلا من الصفصاف، فكان بذلك ينعم بالحٌسنيين، الظل والتوت فى موسمه، ولكنه لم يتحدث بذلك لأحد، وحمل الجميل لإبنه وقرر أن يرده له يوم زواجه فأكرمه غاية الكرم وجهز له المقعد، ولكن رشاد قرر أن يعيش مع زوجته فى منزل صغير بعيدا عن والده، وبقدر ما كان فتيحه سعيدا بأن ابنه كبر وترعرع واستطاع أن يقيم أسرة وحده بلا معاونة من أحد، بقدر ما كان حزينا لفراق ابنه كما تحزن أم العروسه يوم فراق ابنتها وإن تزوجت إبن الجيران وبعد مباحثات قرر فتيحه أن يتزوج رشاد فى المقعد المجهز له ثم ينتقل إلى داره الصغيرة بعد أسبوع، ووافق رشاد وكانت المفاجأة التى أعدها فتيحه لولده رشاد يوم زواجه هى إقامة ليلة كبيرة يغنى فيها الشيخ حسين مجاهد، وكانت ليلة تحدثت عنها القرية بأكملها، والشيخ مجاهد كان له صيت كبير فى المنطقة بأكملها من المنصورة إلى بنها ومن الزقازيق إلى طنطا، إنه ليذكر هذا اليوم جيدا، فقد انتشر الخبر واستعد أهالى القرية وأهالى القرى المجاورة، فكان الشباب الذى يعمل فى القاهرة والمدن الجديدة رتب يوم الأجازة الأسبوعية على يوم زواج رشاد، وأصحاب المحلات جهزوا أماكن لعرض بضاعتهم خاصة من المشروبات المثلجة.

لم يفوت أصحاب المقاهى هذا الحدث فأقاموا نصبات قريبة وأقيم المسرح والنصبات وانتشر أصدقاء رشاد فى البلد بأكملها يطرقون الأبواب ويطلبون الكنب والمقاعد وفى أقل من نصف ساعة كان هناك أمام المسرح ما يكفى لاستقبال مائتي فرد وجلس فتيحه وأصدقاؤه فى أحد الجوانب وهنأه صديق بزجاجة بيرة أعطاها له خفية.

ترك فتيحه أصدقاؤه للاطمئنان على سير الأمور، فقد وصل الشيخ مجاهد وفرقته ودخلوا إلى المنزل حيث يتناولون طعام العشاء أولا ووقف هو على خدمتهم مباشرة ولِمَ يحرم نفسه من هذا الشرف؟

بعدها أخـرج المطرب الشعبى مجاهد قطعة "حشيش " وطلب " الجوزة " وجلس يشد أنفاسا طويلة، وهذا ما جعل فتيحه يتجرأ ويخرج زجاجة البيرة ويعرضها على الشيخ مجاهد الذى ضحك وأخبره أن البيرة للمبتدئين وفقط..

لم يبالى فتيحه ورفع الزجاجة على فمه كما شاهد من قبل فى أحد الأفلام ولكنه للأسف الشديد وجدها مقززة إلى أقصى درجة بالنسبة له ولكنه جازف ورفعها مرة أخرى مقررا أنه لم يتعود عليها بعد، وطلب من الشيخ مجاهد أن يحدثه بشأن استعداده لليلة، ولكن الشيخ ارتدى العمة والكاكولا وخرج مع فرقته مبتسما للجميع وهو يقول لفتيحه..

 تعالى واسمع بنفسك يا أبو العريس.

كانت الساحة أمام المسرح مكتظة بالجمهور من الرجال والنساء والأطفال ولم تكفى المقاعد الأفراد فافترش البعض الحصير الذى حملوه من منازلهم وغنى الشيخ وأثار النفوس ولعب بالعواطف وأبكى ضعاف القلوب وأثار الشجن حيث غنى قصة يتيم وآكل ماله.. والصدفة.. وتدخل القدر فى اللحظة الأخيرة.. وفى النهاية البطل أسعد ما يكون..

صمم الأستاذ عبده جار فتيحه أن يحضر الحفل الساهر وحمل مقعد معه رغم اعتراض زوجته حيث أن ثقافته تمنعه من التدنى إلى هذا المستوى ثم وافقت زوجته بعدما عرض عليها الذهاب معه فحملت كرسى هى الأخرى وذهبت.

ضحك الأستاذ عبده من قلبه وهو يشاهد فرقة الشيخ الموسيقية وهى تعزف مقطوعة لعبد الوهاب تليها بأخرى لفريد وثالثة لبليغ وهكذا..

فكان اللحن الخاص بالأغنية كلها مقطوعات مشهورة ولم يعزفوا عزفا خاص بهم إلا الوقفات التى تناسب وقفات الأغنية، ولم يخفى على الأستاذ عبده أن يلاحظ ردود الأفعال والانطباعات على أهالي القرية وأكثر ما أدهشه هو هذا الشاب الذى علم أنه أشترى طبق استقبال القنوات الفضائية وأصبح يمتلك وسيلة إطلاع على الثقافات العالمية ألـفاه رغم ذلك ينصت باهتمام ويقف ويرقص ويوارى دمعة إن تطلب الأمر.

فى لحظة استغل فتيحه انشغال الجمهور واستغراقه التام مع الشيخ " الصييت" وأشار لسعدية بطرف خفى بأن تتبعه إلى داخل المنزل، فلم يشأ أن يذهب مفعول زجاجة البيرة هباء فكان على يقين بأنها ـ ما دامت ممنوعة ـ ذات صلة وثيقة بعلاقته مع زوجته.

وبعد دقائق عاد إلى الحفل الساهر الذى استمر حتى الفجر وكان الجمهور فى تناقص، حتى أذن الشيخ لصلاة الفجر من فوق المسرح كإشارة لنهاية قصته الغنائية وانتصار البطل.

انصرف الشيخ وفرقته بعد أن نفحه فتيحه بقية حسابه وشعر فتيحه بزهو وهو ينظر إلى الساحة الخالية من الأفراد والمسرح وتذكر أن البلد كلها كانت " ملمومه هنا، والبلاد التانيه كمان "

لم يتوجه إلى منزله إنما توجه إلى الجامع ودخل الحمام الذى يحتوى على الدش مباشرة، وكان فى قرارة نفسه يدرك أنه سوف يكون أول من يدخل مباشرة وإن كان هناك أكثر من شخص، فهم سوف يتيحون له الفرصة دون أن يطلب

ظل فتيحه شارد اللب ناظرا إلى شجرة الصفصاف ولم يشعر بالجرار الذى وقف إلى جواره، مما اضطر السائق إلى استعمال آلة التنبيه، فاعتدل فتيحه فى مكانه وتصنع اللامبالاة قائلا..

ـ جرى أيه يا صابر دا أنا مستنيك من الصبح يا أخى؟
ـ مش بالدور يا فتيحه، وفيه كام إسم قايلين قبلك، وبعدين أنا أصلا مش فاضى، أنا هاخد جره واحده مع المشتل وأمشى.

يقف فتيحه محتد ويتحدث وهو يحرك يده بعصبية فى الهواء..

ـ لأه.. الأرض كلها لازم تتحرت دلوقتى يا صابر.
ـ طيب تعالى اركب، أهو كله شغل

يركب فتيحه إلى جوار صابر ويدخل الجرار الحقل ويعمل المحراث فى الأرض حيث يقلبها رأسا على عقب ويثار التراب ويملأ المكان ويحاول فتيحه أن يُسلى صابر حتى لا يشعر بالملل و" يكلفت " الأرض فيحدثه قائلا..

ـ بقى بعد ما أبعت لك يجى خمس مرات، تيجى تقولى هاحرت المشتل وجرة واحده فى الأرض؟
ـ ما هو لازم تلف وتدور حوالين الماكينة لغاية ما تجيلك.
ـ ليه بقى، هو أنا مش هادفع زى غيرى؟
ـ مصالح يا فتيحه.. مصالح إنت ما تعرفهاش.

تضايق فتيحه بشده عندما سمع الجملة الأخيرة، فقد كان يشعر فى قرارة نفسه أنه يعلم الكثير، ولكنه فضل عدم المجادلة.. وصمت
انتهى صابر من حرث الأرض وترك فتيحه الذى جلس تحت شجرته فترة، حتى وصل محمود إبنه حاملا طعام الغذاء

محمود فى الثالثة عشرة من عمره، له تقاطيع بسيطة يعتنى بها بالرغم من حداثته، دائما يصفف شعره، وثيابه نظيفة كانت أمه تدهش عندما يخلع ثيابه ويضعها فى الغسيل، فهى من وجهة نظرها مازالت نظيفة فلم يلبسها غير ثلاثة أيام فقط، وتثور تحت حجة أن الثياب ما زالت نظيفة وإن لبسها أسبوعا كاملا، ولا تنتهى المشكلة إلا بعدما يقف فتيحه فى وجه سعدية صائحا : محمود يعمل اللى هو عايزه وبعدين إنتى عندك غسالة بالكهرباء

كان اهتمام محمود الأول الدراسة ثم لعبة كرة القدم، يصل محمود بالطعام لوالده ثم هم بترك المكان، يحدثه والده وهو يفتح بقجة الطعام..

ـ ياريت أمك تكون عملت حاجه طريه..؟
ـ أيوه هيه كانت مولعه الفرن.. أنا ماشى بقى عايز حاجة؟
ـ إقعد إتغدى معايا.
ـ لأه.. مش جعان..

يضحك فتيحه وهو ينظر إلى ابنه النحيف..

ـ أهو انتوا كدا يا ولاد النهارده، تتلفوا على الصابع ومع كده تقولوا مش جعانين، يا بنى كُل.. كُل أى حاجة تيجى فى سكتك.
ـ احنا يابا لسه موصلناش لمرحلة اللى يلحق.. الخير أهو كتير..
ـ " مرحلة " ماشى يا أبو مرحلة.. الخير دا بكره يا عالم بيه 0

ينصرف محمود معلقا..
ـ خليها على الله يابا

يجد فتيحه فى بقجة الطعام عيش طرى بالسمن وطبق قشدة وجبن أبيض وطبق بيض بلدى، فتظهر عليه علامات الرضا والسعادة وهو يعلق على جملة ابنه الأخيرة..

ـ ( لنفسه ) أيه الخير دا كله.. ( لابنه ) ونعمة بالله يابنى

* * *

يجهز فتيحه جانب من أرضه لعمل مشتل الأرز، اشترى الكمية اللازمة من التقاوي، التى وضعها فى جوال من الخيش وربط طرفه بحبل وألقى به فى الترعة وربط الطرف الآخر للحبل فى جذع الشجرة، وشعر فتيحه بسعادة عندما قصده البعض ليربط فى شجرته أجولة التقاوي، فكان يقول بسعادة..

ـ اربط.. بس علم شوالك بحاجة وأنا مش ملزم بيه.

وفى اليوم التالى حمل الجوال من الترعة، وقام بعمل حفرة ضخمة وسط تل من روث الماشية على راس الحقل ووضع الجوال للكمر، وانبعثت من قلب تل الروث حرارة ملحوظة وبعدما ردم فتيحه على الجوال سألته ابنته مسعدة وهى تقف إلى جواره عن سبب سخونة قلب تل الروث، فنظر فتيحه ناحية التل الذى تفوح منه الرائحة والحرارة ودُهش بالفعل فهو يعلم طوال عمره أن باطن تلال الروث تحوى حرارة تكاد تشتعل سيما إن كانت طرية ولكنه لا يعرف لماذا؟.. فأجاب ابنته قائلا..

ـ ما هيه سخنه كدا يا مسعده.. وعشان كدا إحنا بنحط فيها التقاوى يوم كامل بليله عشان نكمرها.

لم تخرج إبنته من إجابته بشىء مفيد، فصمتت

فى اليوم التالى فتح الميه على المشتل الذى امتلأ بالماء، ثم حمل قطعة خشب ملساء مربوط فى طرفيها حبل قوى جمع طرفيه فى يديه وصار يسحب قطعة الخشب "اللواطه" وانطلق بها يمينا ويسارا حتى يسوى الأرض، ولكن الخشبة كانت خفيفة، فنادى على ابنته مسعدة الجالسة تحت الشجرة..

ـ تعالى يا مسعدة اقعدي على اللواطة.

ابتسمت مسعدة، فقد كانت تحلم بهذا العمل حيث تجلس وتمسك فى الخشبة جيدا والماء يغمر نصفها السفلى، فقالت..

ـ أجيب الحمار يجرها؟

فقال فتيحه بلامبالاة..

ـ لأه.. دا إنتى خفيفة هاجرها أنا.

تخلع مسعده حذاءها وتشمر ثيابها وتجرى ناحية الخشبة بسرعة والماء البارد يغمرها فتشعر بانتعاش

سحب فتيحه الخشبة، ورغم ضألة مسعده إلا أنه كان يسحب الخشبة بصعوبة نظرا لأنه يسحبها فوق طين، كان يتوجه إلى الأماكن المرتفعة وما هى إلا دقائق حتى اختفت أرض المشتل تماما ولم يعد يظهر سوى الماء وكأنه صفحة نهر..

وحوله باقى فلاحو الحوض يجهزون أرضهم مثل فتيحه.

أتت سعدية بمساعدة محمود ابنها بجوال التقاوى من قلب تل الروث أفرغت ما احتواه فى طست كبير، جلست تحت الشجرة حتى ينتهى فتيحه من تسوية المشتل.

وبعدما انتهى ارتمى تحت الشجرة بجانب زوجته، وبعد فترة سألها..
ـ ياترى جبتى معاكى لقمه؟

ـ واجيب ليه، ما أنت خلاص هاتبدر التقاوى ونروح على الدار تغير هدومك وتتغدى..

يعتدل فى جلسته بانفعال..

ـ دار أيه اللى هانروحها، مستعجله على التلفزيون، قومي يابت هاتى لقمه وتعالى.

ارتجفت زوجته وتحركت بسرعة.. ووقف محمود قائلا..

ـ أروح معاها؟

فأجابه فتيحه بهدوء..

ـ لأه خليك، ها تناولنى التقاوى شويه.. بشويه

* * *

يوم الخميس بعد العشاء جلس فتيحه وأسرته حول الطبلية الموضوع فوقها بطة بلدى كاملة وصحن مسطوح واسع به أرز وطبق شربه، وفى الرف بجوار الحائط التلفزيون مفتوح على أحد القنوات المحلية التى تعرض أحد الأفلام.

وكان فتيحه له عاده عندما تشمل الوجبة لحمة أو " زفر " فكان لا يعطى أولاده أنصبتهم إلا بعد فترة حيث يأكلون أكبر قدر من الموجود ويصلون إلى حد الشبع، وكان يعطيهم ما تيسر على مرتين، وفى هذا اليوم أعطى الأولاد الجزء الأول وصار الأولاد فى انتظار الجزء الثانى من أنصبتهم..

ولحظات وانفتح الباب ودخل جابر، فصاحت مسعده فى سعاده..

ـ هيه جابر جه..جابر جه..

وقامت مسرعة تحمل عنه شنطة سفره على أمل أن تكون لها هدي فيها، وتقدم جابر يسلم على والديه ويقبل أيديهم ويحتضن اخوته ويخرج لهم من الشنطة قطع من الهريسة كانت تباع على كوبرى المؤسسة الخمسة بجنيه، يجلس جابر وأكل وطبعا نال الجزء المتبقى من البطه
وبعد انتهاء الطعام جلس أفراد الأسرة أمام التلفزيون يحتسون الشاي نظر فتيحه إلى جابر..

ـ خير يا جابر عملت أيه المده دى؟
ـ خير يابا.. أنا الحمد لله بقى معايا قرشين كويسين وعايز أشترى شوية خشب واعمل جهازى.

ضحكت سعدية بشدة..

ـ مش ياواد لما تلاقى العروسه الأول؟!

فقال فتيحه : العرايس كتير المهم الأول.. هاتتجوز هنا والا هاتعمل زى أخوك رشاد؟

صمت جابر لحظة ثم قال..

ـ بصراحة أنا لا هاتجوز هنا والا هاعمل زى رشاد.

شهقت سعديه وقالت..

ـ أمال ناوى تعمل إيه يا جابر؟

ـ هادفع مقدم شقة فى المدن الجديدة فى مصر وأبقى أسدد الإقساط بس لما أخطب واكتب الكتاب لان الحجز بالقسيمة.

شعر فتيحه بالانكسار لحظة وخرج ليجلس أمام الدار وحيدا هو صحيح جابر دائما مسافر منذ أن ترك التعليم من تالته ابتدائي، إلا أن فراقه بشكل رسمى ضايق فتيحه، لقد تساهل فى أمر رشاد لأنه سيكون بجواره، سندا له وقت الحاجة إليه الأن فقط شعر بأن رشاد هو الآخر بعيد عنه كل البعد، فأين هو الآن؟

لن يتبقى له سوى محمود ( ومن الجائز أيضا أن يفعلها محمود فى المستقبل ).. دائما جابر يرفض القرية تذكر فتيحه يوم أن هرب ولده من المدرسة عندما سألته مُدرسة الفصل عن عملية حسابية بسيطة لم يستطع حلها، اقتربت منه لعقابه، نظر إليها بشراسة، ثم قذفها بأسوأ ما سمعته من سب فى حياتها ثم قفز من نافذة الفصل إلى الشارع ومنه إلى المعلم سعد والذى أخذه للعمل فى البداية مقابل أكله ومواصلاته ثم وعد فتيحه بأجر يصل إلى خمسة جنيه فى الأسبوع.. ومر جابر بمراحل تطور فى المهنة، حتى وصل أجره اليومى إلى خمسة وعشرين جنيها وفتيحه لا يصل إلى يده شيئا منه وقد ترك الحرية لابنه، واشمئز ذات يوم عندما علم أن جابر قد أصبح مدخن شره..

ما كان ينتظره فتيحه وقتها هو أن فترة الخدمة العسكرية هى التى ستصلح من شأن ولده جابر، وقد كان.. وبدأ جابر فى ادخار مبلغ شهرى، وهو الأن يتحدث عن خروجه من القرية..

خرج جابر وجلس إلى جوار والده أمام الدار :

  إنت زعلان ليه دلوقتى يابا؟
  لما تسيبونى واحد ورا التانى أفرح؟!
  ما هى دى سُنة الحياه.. وانت سيد العارفين..
ـ ما فيش منه فايدة الكلام دلوقتى.. إنت حر إعمل اللى إنت عايزه..
  برضه بموافقتك..
ـ يا جابر يا بنى اليومين دول مافيش واحد بيصرف على نفسه ـ زيك كده ـ وها يستنى موافقة من حد.
يصمت جابر لحظة ثم يقف وينفعل..
ـ والله العظيم إن ما وافقت، لأرجع وأقعد هنا إن شالله من غير شغل
يحاول فتيحه أن يوارى انفعاله وتأثره فيقول :
ـ لأه يا بنى عيش حياتك واتهنا.. واهو يبقى لينا مكان فى مصر ننزل فيه.
ـ يا سلام.. دا انتوا على العين والراس..

ويُخرج جابر مبلغ بسيط يعطيه لوالده :
ـ خد يابا حاجه كدا علشان المدرسة قربت، ومحمود ومسعده عايزين لبس ومصاريف..
ـ فيك الخير.. ( مبتسما يوارى لحظة حرج ) شفت بقى لما تروح مصر الكلام دا مش هايحصل..

يصمت جابر لحظة، وتطول فترة الصمت ينظر خلالها فتيحه إلى جابر بجسده الطويل المفتول وشعره الأصفر من حرارة الشمس، ثم يتحدث كأنه يتذكر شيء ما فجأة..
ـ ما دمت نويت، يبقى تحافظ على فلوسك وآنى من ناحيتى جوازتك عليا زى أخوك وربنا يقدرنى..

ـ ربنا يخليك يابا.. أنا هاوفر كل قرش لغاية ما أقف على رجليه..
ـ المهم تسيبك من اللبس اللى إنت مضيع فلوسك عليه، اللبس اللى لا طعم ولا منظر.. مداس تلاته كيلو وقميص ينفع فرش كنب وبناطيل زى بتوع العرقسوس

يضحك جابر بشده، فهذا الحديث يعنى أن والده قد رضى تماما وأن قلبه الأبيض الناصع قد ضحك هو الآخر، فأجابه :

ـ ما هيه دى الموضة

كان كل الحديث السابق وفتيحه لا ينظر ناحية جابر حيث يركن ظهره ويمد ساقيه أمامه، وفى هذه اللحظة اعتدل وتوجه كلية إلى جابر..

ـ هو أنت مفكرنى داقق عصافير يا جابر.. الموضة يابنى حاجة كلنا نشوفها حلوه ونعملها، لكن دلوقتى فيه بدل الحاجة ميه، التلفزيون مليان وفى الشوارع برضه الطويل موضة والقصير موضة والواسع موضة والمحذق موضة.. هه الخلاصة انتوا أحرار

ـ هانعمل ايه يابا.. الأيام دى عايزه كدا..

ينظر فتيحه ناحية ابنه فيجده قد شخص بناظريه فى الفضاء الواسع وعلى وجهه علامات خوف واسى ويبدو أنه يكرر ما قاله.. يضطرب داخل فتيحه ويحاول الخروج من هذا الوضع

ـ هه.. ادخل هات المضغ من جوه يا جابر..

* * *

منذ أن ركبت مسعدة على قطعة الخشب فى مشتل الأرز، وقد انتابتها حالة غريبة من الهرش، ففى البداية كان الوضع بسيط وغير ملحوظ أما الأن وقد مر أسبوع تقريبا، فإن الجزء السفلي من مسعدة تعرض من خلال الحك المستمر إلى أورام وبقع وفقاقيع حتى أن مسعدة عجزت عن الحركة من شدة الألم فى قدميها وساقيها

لم يكن فتيحه مقتنع بالوحدة الصحية الموجودة فى القرية المجاورة رغم الدعاية التى تملأ التليفزيون عن مدى التطور التى وصلت إليه الوحدات الريفية حتى وإن كانت حاصلة على علامة النجمة الذهبية، أو حتى خمس نجوم، فالمشكلة فى الطبيب الذى لا يتطور، وليست فى الإمكانيات وإن كانت مفيدة أحيانا..

وعلى ذلك ارتدى الجلباب الكشمير والشال الأبيض والحذاء ذو الرقبة والأستيك، والطاقية البنى الصوف الجديدة وحمل مسعدة على كتفه بعد صلاة العصر وخلفه سعدية زوجته، واستقل سيارة أجرة نصف نقل بصندوق حتى وصلوا إلى الطبيب فى " ميت غمر " وبالرغم من أن قرية " الكرامة " تتبع مركز أجا إداريا إلا أنها تابعة لمركز ميت غمر فعليا حيث شملت كافة الاحتياجات والتعليم والتجارة.. إلـخ عموما كان أهل القرية ينزلون ميت غمر لقضاء كافة شئونهم، ومن بينها العرض على الأطباء أيضا..

كشف الطبيب على مسعدة وقال بأن ديدان البلهارسيا اخترقت جسدها عن طريق الجلد، وعندما حكته وصلت إلى هذه الحالة وكتب الدواء الخاص بالجلد وأوصى بأن تذهب إلى طبيب تحاليل....

عاد فتيحه إلى المنزل والحصيلة كم من الدواء، والقضاء على المبلغ الذى تركه جابر.. هه.. صلى فتيحه ركعتين شكر لله وقبل يديه وش وضهر( الحمد لله كل اللى ربنا يجيبه كويس ) وبعد يومين تماثلت مسعدة للشفاء

نما نبات الأرز فى المشتل وكثرت به الحشائش وتوجه فتيحه وسعديه، ولم يطلب من محمود مساعدته خشية منه وحرصا عليه

حيـث ان محمود رغم حداثته له هيبة فى نفوس من يعرفونه، وهو لم يكن ينتظر أن تٌطلب منه المساعدة، فقد كان يقدم ما يستطيع تقديمه حيث ينقل أغراض على الحمار أو يحمل الطعام والماء، أقله كان يبقى فى المنزل لحراسته.

بكت مسعدة بشدة يوم فرز المشتل وتنقيته من الحشائش لرفض والدها فكرة أن تذهب معهم وبعد إصرار الطفلة وافق فتيحه بشرط ألا تنزل الحقل وأن تجلس تحت الشجرة

لم يطلب فتيحه من ابنه محمود أن يشاركه العمل فى الأرض ولكن محمود ما أن رأى والديه يعملان بمفرديهما فى تنقية الحشائش والنباتات الضارة والتى كانت منتشرة بشكل يزيد عن الوصف، حتى خلع ملابسه وشاركهما العمل لعدة أيام.

وبعدها بيومين كان محمود يشكو من نفس الأعراض التى شكت منها مسعدة فى السابق، وحدث مرة أخرى أن ذهب به فتيحة إلى الطبيب الذى يصرف جرعة للقضاء على البلهارسيا وبعض الأدوية الأخرى، ويعود فتيحه إلى المنزل وعبارة واحدة لا تفارق داخله ولا يعلنها لأحد
ـ لو كنت أجرت حد يشتغل كان أوفر من كدا، أو كنت اشتغلت أنا زيادة شوية عموما أهو مكتوب.. والمكتوب مكتوب..

ثم يهز كتفيه ويمط شفتيه ويعود إلى ما كان عليه.

علمت فايزه بمرض أختها مسعدة وكذلك محمود فطلبت من زوجها حجازى أن يرافقها لبيت والديها..

وهناك وبمجرد وصولها أخرجت من بين ثنايا ثيابها بعض البيض البلدى ووضعته فى حجر أمها

فايزة لا تتميز بجمال لأن صدأ الإهمال قد علاها، ولم تثيرها الغيرة من نساء التلفزيون يوما ما، لأن حجازى ببساطة كان أسوأ منها حالا ولكنها كانت صاحبة شخصية قوية بالمنزل نظرا لحسن رأيها وقد صاغت حماتها رأيها فى فايزه ذات يوم " بنت شاطره وطيبه كمان " ولم تترك بيت زوجها غاضبة فى يوم ما، لأنها قادرة على حل مشاكلها، وإن تطور الأمر وأصبح فوق طاقتها ذهبت إلى والديها وكأنها زيارة عادية ولا ينكشف الأمر إلا بوصول حجازى ليأخذها إلى المنزل هى وطفليها، فيبتسم الوالدان ولا يعلقان

فى يوم زيارتها هذه نظر إليها فتيحة طويلا، وقال فى نفسه :

ـ الأيام بتجرى، وآهى فايزه كبرت واتجوزت وخلفت كمان من كام سنه فاتت كانت فايزه فى عمر أختها مسعدة..

تذكر يوم أن أرسلتها أمها سعديه بالطعام إليه فى الأرض.. كان يوم شديد الحرارة وفايزه تعانى من التهاب فى عينيها زاده إعمال يديها المتسخه، وبينما كانت تسير على الطريق إلى جوار الترعة والشمس تضرب مباشرة فى عينيها دون أن تستطيع مقاومة " دعك عينيها ".. لم تشعر بنفسها إلا وهى فى الترعة، غاصت إلى أسفل ولم تجدى محاولة خروجها أى نفع..

ولإن فايزة لم ينته عمرها بعد.. فقد مر صابر بالجرار ونظرا لارتفاع صوت الجرار لم يسمع أى صوت من محاولات فايزه فى الماء ولكنه شاهد فقعات الهواء فى الترعة وحركة مريبة، فأوقف الجرار وقفز إلى الماء..

حمل صابر الغريقة وذهب بها إلى فتيحه وضغطوا على بطنها وخرج الماء الغزير وعادت إلى الحياة مرة أخرى، كل هذا مر فى أقل من دقيقتين تقريبا..

ظلت فايزة تبكى وهى تحكى ما حدث لوالدها الذى تحرك بداخله مزيج من العواطف لا يدرى كنهها بالضبط إلا أنه حمل فايزه على كتفه وانطلق بها إلى المنزل ووضعها على الحصيرة فى الصالة وهرولت ناحيتهم سعدية، ولكن فتيحه لم يعطيها الفرصة لتعرف ماذا حدث..

لم يتركها إلا بعد أن أوسعها ضربا، وفهمت سعدية الموضوع من بين الكلمات التى كان يلحقها باللكمات، ولم تعلق بشىء وأخذت ابنتها فى أحضانها باكية.

هبط المساء وعادت الحياة إلى طبيعتها..

  ربنا سترها ورحمنا، ارحمنا أنت بقى يا سى فتيحه..
 
نظر إليها فتيحه بشجن وهو يوارى دمعة حاولت الفرار منذ أن شاهد فايزه على كتف صابر، ولكن هذه الدمعة تحجرت حتى هذه اللحظة وهو يجيب زوجته..

  البت كانت هاتروح مننا يا سعدية.. تسيبيها تطلع من الدار وعنيها بالشكل ده؟

  ما جاش فى بالى حكاية الترعة دى خالص.. ويعنى أنا هاكون عارفه وابعتها..؟.. خلاص بقى.. هه.. أنا هاقوم أدبح للبت فرخه..

ويتظاهر فتيحه بأنه يجفف أثر هذه الدمعة الفارة بينما يوارى شبح ابتسامة رقصت على خلايا وجهه..

  طب خليها بطه بقى..

كل هذه الذكريات مرت برأس فتيحه وهو ينظر إلى فايزه اليوم وقد أصبحت زوجة وأم، وزوجها حجازى الذى يعمل فى دق الطلمبات طيب أكثر من اللازم، فهو هادىء دائما وإن كان هذا الهدوء نابع من عدم فهمه لبعض الأمور فيوافق هوى من أمامه باستمرار بابتسامه عريضة.. بلهاء..

* * *

فى اليوم التالى لم يستطع محمود التحرك من مكانه، جرعة الحبوب المضادة للبلهارسيا كانت شديدة عليه، وغرق فى عرقه، وسعديه تجلس إلى جواره وهى تحاول حبس دموعها وتظهر شىء من التماسك متمثلة فى ذلك بزوجها الذى قالت عنه لنفسها فقط ذات مساء دافىء لذيذ..
  فتيحه جوزى أسد.. فى كل حاجه.
 
كانت سعدية تشعر بأن موقعها لدى فتيحه أقل بكثير من موقعها هو عندها فرضاءه بها كان رضاء المغلوب على أمره، لكنها كانت تكن له " مَعزة " وقلبها كان يخفق بشدة عندما تتخيل أنها من الممكن أن تفقد فتيحه للأبد، كان هذا الإحساس ينتابها حالما يتوفى أحد رجال القرية تاركا زوجة وأولاد.. فكانت تدعو الله أن يحمى لها زوجها..
ـ يارب اجعل يومى قبل يومه..

كانت تخشى الحياه بعد فتيحه فتهمس لنفسها..

ـ كفايه عليا حِسه فى الدنيا..

الإرهاق الظاهر على إبنها محمود ذكرها بالهموم، لم تتماسك فبكت بلا توقف، لم يكن قلب سعدية جاف أبدا، لكنها كانت تشعر بالحرج الشديد من التعبير عما يدور بداخلها ولكنها تعلم جيدا أنها " تحب " فتيحه حب لا يوصف وبالرغم من أن التليفزيون جعل مثل هذه التعبيرات مألوفة إلا أنها كانت تخشى من سخرية فتيحه نفسه، وغضبها الدائم من فتيحه نابع من خشيتها هذه، فهو لا يتيح لها الفرصة أبدا للتعبير عن مكنونها حتى فى أدق جزئيات حياتهم شفافية، تلك اللحظة التى تذوب فيها كتلة الشحم بين يدى فتيحه، لم تستطع أبدا التفوق عليه حتى بالكلمات، كانت " تناوشه " وتتمنع للثأر من جبروته الجميل.

فتيحه كان يعلم أن سعدية تريد أن تمارس حرية أكثر فى التعامل معه لكنه كان يخشى أن يفلت الزمـام من يده فكان يقف لها بالمرصـاد فتحرج هى وتصمت حتى لا يتطور الأمر..

لم تنس يوم أن داعبتها رغبة فى أن " ترقص " لفتيحه فى حجرة النوم وظلت هى قرابة السنة تدرس الأمر، وتمنع نفسها إلى أن فاض بها الكيل وفى ليل شتاء والحجرة دافئة بشكل يثير المشاعر ذابت سعدية ولم تستطع التحكم فى مشاعرها فوقفت فى وسط الغرفة إلى جوار السرير وما أن بدأت فى الرقص حتى تغير وجه فتيحه وهو يعقب " عيب على سنك ".. فأسلمته جسدها وهى شاردة الذهن..

على أن فتيحه لم يكن صاحب القلب الجاف أبدا هو الأخر لكنه على حد تعبيره هو " أنا زى سجرة الكافور أخضر طول السنة بس بشرط.." وكان يصمت شاعرا بالحيرة لا يستطيع التعبير بالكلمات عما يعتمل فى داخله من انفعالات ثم يضيف " بشرط تكون الدنيا لونها بمبى " ثم يبتسم فى سكينه..

* * *

لم يكن أمام جابر فتاه بعينها، لذا ترك الأمر لأمه التى خرجت بعد يومين من شفاء مسعدة ومحمود وجلست أمام الدار تعصر ذهنها وتفرز بنات البلد بنت بنت، فكانت تتخيل نفسها أمام منزل فلان ثم تقول " لأه الدار دى مافيهاش بنات على وش جواز، أو البنت اللى هنا ما تنفعشى "
وبعد نصف ساعة من الفرز حصلت على مجموعة تصلح للزواج فدخلت إلى فتيحه تخبره بالأسماء التى وقع عليها الاختيار فيضحك فتيحه معلقا :

  يا وليه هما دول ينفعوا برضه؟
  وأيه اللى يقل نفعهم؟
  دول علامهم عالى.. وابنك ما أخدش الابتدائية..!!
  كله محصل بعضه وبعدين أنا لا أعرف عالى ولا واطى وفيه كتير زيه نجارين وحدادين متجوزين أبلوات، اللى بيسأل على العريس فى الأيام دى بيسأل على حاجه واحده بس..
  وأيه هى بقى يا أم العريس؟
  هايقدر يسترها ويعيشها ولا لأه؟
  إنتوا أحرار.. واللى تختاروها وتوافق، أروح أخطبها لجابر0

بدأت سعدية الممارسة الفعلية وذهبت إلى الأفضل من وجهة نظرها فقد كان المقياس لديها هو الأدب والجمال مجتمعين وقوبل طلبها بالرفض المقنع أكثر من مرة..

  البت لسه عليها بدرى.
  لسه من كام يوم جاى ليها واحد دكتور وأبوها ما رضيش وقال تكمل علامها..
  إنتى عارفه يا أختى إن أختها اللى فوق منها مخطوبه ولسه بنجهزلها
  لأ يا أختى إحنا سمعنا إن إبنك عايز يتجوز ويعيش فى مصر إحنا إيه بقى اللى يجبرنا على المرمطة دية؟

كانت سعدية تستمع إلى كل هذه الردود وتعود إلى فتيحه وجابر تغير هذه الأقوال لتحسن الصورة، حيث كانت تقول :

  لقيتها بت صغير.
  دى شعرها فوق ودانها.
  دى هاديه والقطة تاكل عشاها.
  بتقول ما باعرفشى أعجن.
  دى بقى بتقول ما باعرفشى أطبخ.. هىء..هىء.. بنات آخر زمن

وهكذا حتى وصلت إلى الفتاة التى تحتل ذيل القائمة وهى أميرة إبنة أخيها.. سعدية لا تفضل زواج الأقارب ولكنها بعدما فشلت فى الحصول على سواها اضطرت لإختيارها على مضض، فلابد أن تجد عروسة لجابر فى أسرع وقت وإلا تسوء سمعتهم فى البلد كلها وتقل هيبة فتيحه وولده، فقد كان لدى أسرة فتيحه شعور داخليا لم يتم التعبير عنه فى يوم من الأيام وهو أنهم من كبار العائلات فى القرية، حتى أن فتيحه نفسه لم يستبعد أن يتقلد منصب " العمدية " فى يوم من الأيام..

أميرة بنت حلال وطيبة وآهى بنت أخويا ويبقى زيتنا فى دقيقنا وخيرنا ما يروحش للغريب.. لم يظهر فتيحه أى رفض رغم ضيقه الشديد الأهم عنده رأى جابر الذى وافق فعلا.. وقد كان ضيق فتيحه من هذه الزيجة نابع من عدم ارتياحه لشقيق زوجته " فاضل " والد أميرة

  فاضل عامل نفسه أبو العريف وهو ما بيعرفشى الألف من كوز الدره وطوالى ماشى فى سكة الخسارة لولا إن ربنا بيسترها معاه على أخر لحظة عشان خاطر رزق البنات، ولولا كده ماكانشى لقى حق الدخان..
  يا خويا إحنا هناخد البت وخلاص، وآهى ماشيه مش قاعده..
  أنا مش باقول على البت قاعده ولا ماشيه، أنا باقول على أخوكى اللى عامل عامل نفسه فتك، كدا هايجى هنا ويقعد ويتكلم، ومش هاخلص بقى..

شردت سعدية بفكرها، فتيحه لا يزور أهلها أبدا ولا يأتون هم لزيارته عدم الإرتياح واضح بين الطرفين، زواج جابر من أميرة سوف يجبر الطرفين على تجديد العلاقات..

ذهبت سعدية لمنزل أخيها فاضل تطلب يد أميره لجابر.. تذكرت هذه اللحظة منذ ثلاثين عاما تقريبا وكانت هى العروسة شعرت بنشوة غريبة وهى تتذكر هذه اللحظات..

فى استعراض من زوجة أخيها أخذتها إلى حجرة ابنها البكر، لم تشاهد سعدية فى الحجرة سوى المرآة، وقفت أمامها تشاهد نفسها.. تتأمل سعدية اليوم وتقارنها بصورة باهته لسعدية منذ ثلاثين عام..

  كلفتنا خمس ألاف جنيه.. أصلها عموله.
  المرايا؟
  لأه.. أوضة النوم كلها..
  هانعمل لجابر وحده زيها ويمكن أحسن منها شوية.
  يا آختى بس اعملوا إنتوا زيها..

لم تسمع سعدية الجملة الأخيرة من زوجة أخيها، زمان كان عندها مرآة، لم تكن بهذه الروعة ولكنها كانت تفى بالغرض بعد زواجها بعام كسرت المرآة نادرا ما كانت ترى نفسها، واليوم نظرت.. فاشمأزت.. رفعت الطرحة بسرعة من فوق كتفها توارى بها شعرها القصير الخشن النافر من تحت رباط الرأس وفزعت سعدية حينما رأت بعض شعيرات بيضاء متناثرة..

فجأة وكأنه لم يتبق من الزمن غير سويعات، دبت فيها الروح.. خرجت مسرعة دخلت إلى منزلها، فتيحه زوجها فى الحقل ومحمود خارج الدار ومسعدة تشاهد التليفزيون..

دخلت سعديه إلى مطبخها مباشرة، ولعت على شوية ميه ووضعت فيها نصف كيلو سكر من بتاع التموين وعصرت كام ليمونه مع الحرارة تحولـت إلـى سائل لزج.. يتماسك مع الغليان وهى تراقبه تشعر بالدهشة.. سنوات طويلة لم تقدم على مثل هذه الخطوة، لم تفكر فى نتيجة إهمالها ذاتها لحظة ما، كل ما كانت تفكر فيه هو أن ذلك قد يضايق فتيحه..

  واشمعنى النهارده؟ ( سألت نفسها )

لأنها تحتاج إلى ذلك فعلا.. ثم إن ما تفعله هذا.. تفعله الأخريات.. فلانه أكبر منى وبتعمل ووشها بيلمع ولا عروسه يوم دخلتها..

خشيت سعديه من فشلها فى إعداد المادة المطلوبة.. ولكنها قالت لنفسها " أى حاجه المهم أعمل اللى ما عملتوش من سنين ".. بعد دقائق طفت النار وحملته إلى داخل حجرة نومها انتظرت حتى هدأ تماما خلعت ثيابها كاملة أعادت إحكام إغلاق الباب أخذت قطعة صغيرة من " الحلاوة " السائلة ونقلتها بين أصابعها مرتين أو ثلاثة حتى يبست قليلا ثم بدأت تعمل بمهارة وتزيل هذه الطبقة التى تراكمت بفعل السنين على جسدها، لم تترك سوى شعر رأسها وخط دقيق فوق عينيها..

كان العرق يسيل منها بغزارة، وكأن مسام الجلد كانت مسدودة سحبت طرف الملاية من فوق السرير وجففت عرقها، شعرت بقواها تخور، فقد بذلت مجهود وحبست الصرخة أكثر من مرة تخيلها لنفسها بعد الانتهاء جعلها تتحمل وتغالى، تمنت مروحة صغيرة إلى جوارها طلبت من فتيحه أكثر من مرة أن يشترى مروحة ولكنه أجاب :

ـ دى بتجيب العيا هو فيه أحسن من الهوا الربانى..

لو كانت تذكرت قبل البدء، كانت استلفت مروحه من عند الجيران شوية، ما فيش مشكلة كان عليها أن تتماسك فى الحجرة المغلقة تماما استلقت على أرض الحجرة يسيل منها الماء من شدة الإرهاق أغمضت عينيها.. ذهبت فى سِنة من نوم..

بعد دقائق.. جمعت أشيائها وارتدت ثوبها المتسخ القذر " على العرى " شعرت ببرودة الهواء الذى يداعبها من تحت ثوبها ابتسمت وحملت الماء من الطلمبة فى وسط الدار ودخلت إلى دورة المياه ومعها ثياب نظيفة فيها شىء من الزهزهة، جلست فوق مقعد صغير من الخشب بدون قطعة ملابس، ونظرت إلى الماء بخشية وسعادة رفعت الدورق وصبت الماء وكادت تصرخ من شدة الألم ولكن لطف الماء ـ معها وهو يداعب ثناياها ويتخلل مسامها ـ جعلها تعدل عن ذلك.. واستخدمت الصابون مرتين أو ثلاثة حتى انتهى الماء..

كانت سعدية فى هذه اللحظة من أسعد المخلوقات على وجه الأرض وصممت ألا ترتدى ثيابها إلا فى حجرة النوم وأن تلف جسدها وشعرها بالفوط كما تشاهد فى التليفزيون.. حاولت لف الفوطة على جسدها أكثر من مرة ولكنها فشلت، فلم تستطع تثبيت الفوطة إلى جانب أنها صغيرة الحجم، فوضعتها على رأسها ولفت جسدها بثيابها وحملت طرفى الثوب بين أسنانها فانكشفت عجيزتيها فقالت فى نفسها " مش مهم دول كام خطوه لغاية الأوضه " المشكلة لديها كانت فى مسعدة الجالسة فى الصالة تشاهد التليفزيون.. نادت عليها بصوت مرتفع خشن، ثم توقفت وأردفت بصوت ناعم هادىء فيه أنوثة..

  روحى لأبوكى الغيط..
  ليه يا أمه؟
  قولى له أمى عايزاك دلوقتى.. عشان حاجه مهمه..

تفرح مسعدة وتخرج.. تستغل سعدية الفرصة وتدخل إلى حجرة النوم وترتدى قميص نوم تفصيل من قماش أصفر.. بعدها تذبح بطة وتتركها على النار، ثم تدخل وتمشط شعرها المبتل ثم تحمل الماء من الطلمبة إلى دورة المياه وتجهز الليفة والصابون والثياب النظيفة لزوجها

يأتى فتيحه والدهشه تعلو وجهه، فقد سأل ابنته أكثر من مرة فى الطريـق..

  أمك عايزه أيه يا مسعدة؟
  وأنا أيه اللى عرفنى..

تخيل فتيحه ألف سبب، لم يرد فيهما السبب الحقيقى، وعلته الدهشة وهو ينظر إلى وجه سعدية.. نعومة.. لمعان.. إحمرار دائم، والماء من شعرها يبلل رباطه، وتفوح منها رائحة الصابون والماء البارد..

  سى فتيحه.. ادخل استحمى..
  ليه؟
  جهزت لك الميه والغيار..
  هى القضية فى الميه والغيار؟؟
  بس ادخل على ما أخلص تجهيز الغدا.. أصلى دبحت بطه..

ضحك فتيحه وقد فهم الأمر، ولم يستطع تخيل ما يحدث، إلا إنه نـفـذ وأطـاع فى هدوء وخلع ثيابه وهو يتذكر وجه سعدية ويبتسم " بعد ما شاب ودوه الكتاب " " ما حدش يكره النضافه برضه "..

تقاطر الماء على جسده وعلقت فوق كتفيه بالذات قطرات ماء تلمع تحت ضوء المصباح.. ارتدى ثيابه وخرج مناديا زوجته، فألفاها تتحدث مع مسعده..

  تروحى عند أختك فايزه وتديها الفلوس دية وتقولى لها أمى بتقولك اشترى الحاجات اللازمه واعملى صنية بسبوسه.. وتفضلى هناك يا مسعده لغاية أختك ما تخلص وتجيبيها وتيجى..

ضحك فتيحه ودخل حجرة النوم، وجد الصينية وبها الطعام على أرضية الحجرة الرطبة.. من النادر أن يشعر فتيحه بما يشعر به الأن.. الشمس بالخارج ملتهبه، البرودة تفوح من جسده ومن جسد سعدية الحجرة باردة أيضا، الطعام له رائحة تملأ خياشيمه جلس أمام الطعام وأكل من البطة وشرب من الحساء ما استطاع وجلست أمامه سعدية تأكل بدلال وتطعمه قطعة بعد قطعة وفتيحه ضاحكا :

  جرى أيه يا سعدية.. إحنا هانعيده تانى؟
  وأيه المانع يا سى فتيحه..

ضحك فتيحه من أعماق قلبه على سعدية وهى تخرج الكلمات من فمها بنعومة وأنوثة ودلال وتناثرت حبيبات الأرز من فمه وشرق وقالت سعدية متصنعة اللهفة على فتيحه زوجها :

  اسم الله عليك يا حبيبى.

صمت فتيحه لحظة وتغيرت الدنيا أمام عينيه وترك بقايا الطعام فى يده لقد سمع كلمة إن أقسم أهل الأرض له على أنه من الممكن أن يستمع إليها من سعدية لكذبهم جميعا.. ولكن سعدية الأن شعرت بأن أنوثتها تفور وتحتاج إلى من يسقيها، لم تنتظر سعدية ولم تترك فتيحه فى حيرته ودهشته وسحبت طرف الملاية مرة ثانية ومسحت يدها وفمها وأمسكت يد فتيحه وفمه وبطرف الملاية ومسحتهما أيضا وبيدها اليسرى أبعدت صينية الطعام قليلا واقتربت من فتيحه فى أنوثة طاغية لا توصف وجبروت المرأة عندما تريد ودلال أذهل فتيحه نفسه :

  يا وليه إحنا كبرنا على الكلام دا..
  فشر.. دلوقتى هاتشوف إحنا كبرنا ولا لأه..

* * *

استيقظ فتيحه من النوم على صوت المؤذن لصلاة العصر وإلى جواره سعدية تنظر إليه فى حنان، كانا الاثنين عرايا، وصينية الطعام مازالت فى جانب على الأرض وقطع الثياب متناثرة ورائحة العرق ممزوجة برائحة الصابون تفوح فى المكان.

نظر فتيحه إلى جسد سعدية الخالى من الشوائب التى كان قد عهدها فإنه يراه اليوم كأنه يراه للمرة الأولى، خشى أن يكون فى حلم..

كل هذه المتعة كانت إلى جوارة، كل ما فى الأمر هو إزالة الغبار عن الذهب، كثيرا ما لا نرى الذهب فى حياتنا، رغم ضعف ما عليه من غبار..

جلست سعدية استعدادا للعودة إلى الواقع مرة أخرى ولكن فتيحه رفض الخروج من هذا الحلم.. فضحكا معا بسعادة وبراءة..

* * *
تسلل قرص الشمس بنصفه السفلى خلف منزل مرتفع فى طرف القرية وبقى النصف الأخر يرسم قبة دموية مرتفعة فوق سطح المنزل
خرج فتيحه منتشيا وجسده مبلل بالماء وجلس أمام المنزل تاركا الهواء النظيف البارد المار على مشاتل الأرز ومائها يفكر فى شبابه المنبعث وحيويته..

لقد أثبت ـ وبكل ثقة ـ أنه يحتوى على حرارة الشباب، الحقيقة أن فتيحه لم يستنفد فى حياته الأولى كل طاقاته فكثيرا ما كان يبتعد عن زوجته، فلم تكن هذه الحرارة شغله الشاغل أو مثار حديث بينه وبين صديق، إنما كانت مجرد عادة.. ولكنها اليوم أصبحت شيئا آخر، فقد عاد الوعى، وقال والابتسامة ترقص فوق شفتيه..

  سعدية طلعت بنت أبالسه بصحيح.. أيه يا خويا اللى عرفها الحاجات دى بعد العمر دا كله؟

  التلفزيون يا فتيحه.. فيه فيلم حلو تعالى..

قالت سعدية هذه الجملة وهى خارجة تحمل صينية عليها كوب من الشاى وعليها أيضا قطعتين من البسبوسة وكوب ماء مثلج، فقد أرسلت مسعدة فى طلب قطعة من الثلج من عند الجيران فهى تعلم أن لديهم ثلاجة ثمانية قدم وبعدما نظر إلى ما تحمله عقب :

  لا.. الهوا هنا جميل.. اقعدى هنا جنبى..
  فى الشارع كده ( ضحكت وتدللت )
  وأيه يعنى.. ما إحنا كل يوم بنقعد جنب بعض وفى الشارع برضه.
  النهارده غير إمبارح.. ( بدلال أكثر ).. هادخل أتفرج على الفيلم.

يأخذ فتيحه قطعة بسبوسة ويتذوقها، فيجدها لذيذة الطعم فيأكل القطع كلها " ناصحه يا بت فايزة ".. ثم يرفع كوب الماء المثلج ويقضى عليه دفعة واحدة تهب نسمة باردة وتزيل طرف الشال الأبيض من فوق كتفه الأيمن.. يشاهد أسراب أبو قردان العائدة إلى مساكنها.. هبط جزء من الظلام.. ارتفع صوت المؤذن ينادى لصلاة المغرب..

منذ فترة طويلة كان أبوقردان لا يفارق الحقل وقبل أن تلد سعدية ابنتيهما مسعدة بسنة تقريبا، اختفى أبوقردان، واختفى أيضا الغراب والحدأة وطيور أخرى كثيرة كانت تنتشر فى السماء وذلك منذ أن كثر استعمال السموم والمبيدات للمحاصيل الزراعية، هذه المواد التى تعد كارثة لحقت بالفلاح منذ أن استغنى عن زراعة القطن بزراعة الخضروات، لم تنقرض الديدان ولكن " ولاد اليومين دول بقوا منظر ع الفاضى وكلهم أمراض " لم يشعر فتيحه بسالم جاره فى الأرض إلا وهو واقف أمامه :

  أهلا يا سالم.. اقعد.. تشرب شاى؟
نظر فتيحه إلى كوب الشاى بجواره فألفى نفسه قد شربه بينما كان شاردا..
  لأه.. إنت ما جيتشى تصلى المغرب فى الجامع ليه؟
لم يجد فتيحه ما يقوله، لقد شرد خلف أفكاره ونسى الصلاة تماما
" منها لله سعدية " قالها فى نفسه وهو يوارى ابتسامة ثم يقول :
  يعنى.. أنا.. خير يا سالم؟
  مالك يا فتيحه؟‍.. انت كويس؟
  كويس قوى يا سالم؟ خير؟
  أنا هاقلع المشتل بكره.. وانت؟
  إنت بادر قبلى بيومين..
  مش هاتفرق، عشان نطفى سوا نأجر مكنه سوا إحنا أرضنا مقاس واحد
  ماشى.. نقلع بكرة..

* * *

تابعت سعدية الفيلم دقائق ثم شردت فيما حدث اليوم وفتيحه " اللى زى الأسد " الجالس فى الخارج شاعرا بـأنه سيد زمانه.

تعجبت سعدية من خمولها، تذكرت الشعيرات البيضاء فى رأسها الأيام أسرع مما تتخيل، لماذا تترك الحياة الحلوة تنسال هكذا من بين يديها؟ أهو زهد أم كسل؟؟

تأوهت سعدية على نيران الخجل، الدم يكاد يخترق وجنتيها والعرق يرطب جسدها بأكمله، تحسست وجهها وصدرها وتمنت أن تستدعى فتيحه من الخارج مرة ثالثة.. ولكن خدر بسيط وتنميل سرى فى جسدها فتثاءبت بقوة وخلاصة ما كانت تفكر فيه ألا تدع الأيام تمر دون حدوث هذا الأمر ولكن بشىء من التنظيم..

فى هذا اليوم نامت سعدية قبل فتيحه، بالرغم من أن فتيحه صلى المغرب والعشاء بالمنزل ونام.. ولم يستيقظ فتيحه قبل الفجر كعادته

* * *

استيقظ فتيحه مع أشعة الشمس الأولى وتناول إفطاره وتوجه إلى الحقل مباشرة، وكان من المفترض أن يذهب ليلة أمس إلى الست " أمونه " رئيسة البنات العاملات فى الناحيه للإتفاق معها على المجموعة اللازمة لتقليع الشتلات وعملية الشتل نفسها، وهى سيدة مسنة لا تعمل بيدها ولكنها مسئولة عن عملية التنظيم ومقابل ذلك تحصل على عمولة جيدة تكفيها شر السؤال بقية العام..

الفتيات والسيدات العاملات فى القرية يتوجهن إلى أمونه لتوزعهن من الليل على الحقول وفقا لاحتياجات كل حقل وبسبب الإقبال الشديد على أمونه فإنها وفتياتها مشغولات دائما ليومين أو ثلاثة مقدما، ولما كان سالم وأسرته سوف يقومون بالعمل بأنفسهم، فلم يطرح موضوع أمونه مع فتيحه ليلة أمس وفتيحه نفسه كان شارد الذهن ولم تخطر أمونه له على بال ولا الأرض كلها..

فى طريقه للحقل وجد أمونه تجلس تحت ظل شجرة وفتياتها يعملن أمامها ويغنون بصوت جماعى، فانحرف إليها فتيحه :

  كويس إنى لقيتك يا أمونه..
  خير يا فتيحه؟
  عايز خمس أو ست بنات..
  إمتى؟
  دلوقتى..
  وانت عارف إن دا ينفع يا فتيحه؟
  طب إمتى أمال؟
  بعد بكرة بعد صلاة العصر..

يتركها فتيحه ولا ينهى الاتفاق معها، يصل إلى حقله ويخلع جلبابه ويكومه فى يده ويحشره بين فرعى الشجرة ويترك حذاءه تحت جذعها وينزل إلى حقله ويجلس فى المشتل متربعا ويغمر الماء أسفله، ويبدأ العمل بمهارة وإتقان، فيمسك بيده شجيرات الأرز فى شكل حزمة على قدر يده ثم يجذبها بشدة وبخبرة بحيث تخرج من الأرض دون أى خسائر فى الشجيرات، ويجمع كم منها فى حزمة واحدة ويتركها خلفه فى الماء وهكذا.. كان هذا العمل الذى استغرق فيه فتيحه يتطلب خمسة عاملات علـى الأقـل، ولكـنه صمم على أن ينجزه وحده، ومن بعيد شاهدته " أمونه " وهو يعمل فقالت فى نفسها..

ـ الراجل دا غريب وشديد وباين عليه دماغه متركبه شمال..

وصلت الشمس إلى منتصف السماء، وأناس كثيرون هربوا من حرارتها إلى رطوبة منازلهم، أما فتيحه لم يشعر بذلك قط فقد تذكر ليلة أمس وسعدية ولم يستطع أن يترجم مشاعره فقد اضطربت دقات قلبه واحمر وجهه خجلا.." ولاد العشرين ما يعملوش كدا يافتيحه.. الـله.. مش حقى وحلالى "..

شعر فتيحه بأن الابتعاد قد بلد مشاعره، لكن الاقتراب له لذات أخرى داعـب الماء نصفه السفلى، ابتسـم فى سعادة المراهق " يخرب بيتك يا سعديه صحيح النسوان قادرة، حتى لو شعرها ابيض "

لم يشعر فتيحه بأن النهار قد انتصف إلا مع سماع صوت المؤذن لصلاة الظهر، خرج من أرضه وجلس تحت شجرة الصفصاف وعلى بعد أمتار يجلس جاره سالم وأسرته يتناولوا طعام الغذاء :

  ما تيجى يا فتيحه تاكل لقمه..
  عشت يا سالم.. زمان سعدية جايبه الأكل..
  مش كنا زرعنا حاجه تانيه بدل الغرسة فى الطين كدا؟
  مش دا اللى الحكومه عايزاه..
  ويعنى الرز هايجيب أيه؟ أنا كان نفسى أزرع قطن زى زمان
  زى زمان؟.. عايزنا نرجع زى زمان قول للزمان ارجع يا زمان على رأى الست..
  يا ريتها بالقواله يا فتيحه..
  آخر مرة زرعنا فيها القطن، حصلت حاجة ما نعرفش أيه سببها خلت شجرة القطن لا فيها ورقة ولا لوزة وأجدعها فدان ما جابش قنطار..
  إنت هاتقولى، ما هو من يومها ماحدش عنده جرأه يزرع القطن ولا يجيب سيرته..
  ألا تفتكر أيه السبب يا سالم؟
  البذرة ما فيش غيرها..
  طب والحكومة ما توفرش بذره كويسه ليه؟
  والبذرة اللى ودتنا فى داهية كانت جايه منين؟
  والعمل؟
  الرزق على الله.. وأدينا هانزرع الرز.. جاب فلوس أهلا وسهلا ماجابش يبقى العيال ياكلوه..

تصل سعدية حاملة صينية بها طعام فاخر وقد تركت طرف الطرحة ينزل فوق عينيها ومنتصف وجهها، حتى يقال أنها تتقى حرارة الشمس ولكنها فعلت هذا خجلا، فما فعلته بالأمس قد غير وجهها بشكل ملحوظ فقد انتشرت البقع الحمراء كأنها ملسوعة بالنار، وسيدات القرية ـ ورجالها أيضا ـ لا يخفى عليهن سبب هذه البقع، واتقت شر كل ذلك وتركت طرف الطرحة ولم ترفعه إلا عندما وصلت إلى زوجها وجلست جاعلة ظهرها تجاه سالم وأسرته..

نظر فتيحه إلى سعديه وتأملها فى سعادة وقد اشتعل داخله من شدة اصراره على عدم افصاحه عن مشاعره، وكسرت سعدية حاجز الصمت :

  لقيت الأكل هايبقى تقيل على مسعدة، قلت أجيبه أنا..
  أيه اللى عملتيه إمبارح ده؟
تورد وجه سعدية ونظرت إلى الأرض فى دلال :
  هو كان غلط؟
  لأه.. دا حقنا وحلالنا.. بس أنا قصدى كان فين من زمان؟ وليه دلوقتى بالذات؟
لم يلحظ فتيحه زوجته وهى تتحسس شعرها من أسفل الطرحة ثم تقول :
  كل شىء بأوان..

* * *

بعد يومين كان فتيحه قد انتهى من تقليع الشتلة من أماكنها وحجز ماكينة مياه للرى لمدة ست ساعات كى يطفىء الأرض والماكينة كثيرا ما كانت تتعطل أو تتوقف لنقص الماء فى الترعة التى كانت تعانى من ضغط شديد عليها فكان ذلك سببا لأن ينتظروا حتى ما بعد منتصف الليل حتى يتاح الماء، كان جميع الفلاحين يعانون من نفس المشكلة فقال أحدهم ذات مساء :

  كنا دقينا ماكينة مٌعين؟
  أى والله ولا الحوجه للترعة..

وانتهت القضية عند هذا الحد لأن الموسم سينتهى بعد أيام وينسى الفلاحين المية حتى الموسم التالى..

أجر فتيحه، فرحات الأقرع الذى يمتلك حصان وباب قديم، يسحبه الحصان على طين الأرض ويحمل على هذا الباب شتلات الأرز وينشرها فى بقية أجزاء الأرض وكان ينتظره فتيحة وسعدية زوجته التى ربطت جلبابها حول وسطها وتركت أخر قديم مدلى حتى صفحة الماء، وحتى يأتى فرحات بالحصان يجر الباب كانت تستريح جالسة بنصفها السفلى فى الماء غير مبالية بلدغات ديدان الماء، وعندما يأتى الحصان تقف لتحميل الشتلات فوق الباب، وهنا يلتصق الثوب مهما كان لونه وسمكه بجسدها معبرا بدقة عن شتى تفاصيل جسدها واستمر العمل حتى توزعت الشتلات فى الأرض بأكملها.

بعد العصر أتت أمونه بفتياتها وتمت عملية الشتل كاملة بنظام ودقة يفوق ماكينة الشتل التى استأجرها البعض فى القرية المجاورة.

بـعـد أسـبوع تقريبا كان فتيحه يذهب إلى حقله كى يروى ( يٌملى ) حقله وأتاه الرجال تحت شجرة الصفصاف..

  خلاص يا فتيحه اتفقنا ندق ماكينه معين، واللى هايشترك فيها يدفع نص أجر واللى مش هايشترك يدفع أجر كامل.
  ( يفكر فتيحه لحظة ) الصح بقى إن اللى يشترك ما يدفعشى خالص لإن بالشكل اللى بتقولوا عليه هايبقى أنا أول واحد يقول أدفع حق ساعة بساعة أحسن من دفع مبلغ كبير على بعضه..

ينظرون إلى بعضهم البعض :

  عنده حق يا رجاله.. ياما قلت له يمسك العمديه..
  ( يضحك فتيحه ) عمده عليكم انتوا يا مغفلين؟
  ( يضحكون ) وماله.. وتبقى انت كبير المغفلين..
  ( يتحدث آخر عائدا إلى الموضوع ) خلاص.. هيه هاتتكلف عشر ألاف جنيه والحوض بتاعنا حوالى أربعين فدان، يبقى على الفدان حوالى 250 جنيه..
  طب وحق الجاز والزيت وواحد لازم يقف عليها ويشغلها؟
  ( يجيب فتيحه ) نعمل صندوق وكل اللى يدور ساعة من المشتركين يدفع خمسين قرش واللى مش هايشترك يدفع تمن الساعه كامل وبكدا هانقدر نكون مبلغ للجاز والزيت واللى هايقف عليها كمان..

هبت نسمة صيف على الجمع الذى قال فى نفس واحد : توكلنا على الله.

* * *

بعد الانتهاء من دق الماكينة المعين.. تزوج جابر من أميرة، الفرقة أتت من القاهرة، أخبر جابر أبيه أنها نقطة من صديق له والحقيقة أن جابر دفع ألف جنيه للفرقة وتصوير الفيديو..

فتيحه أرسل فى طلب الإضاءة واستعار مقطورة جرار صابر وجعلها بعرض الشارع أمام المنزل وفرشها بحصيرة وأركانها بملايات وفى الخلفية بطانية ماركة النمر وجريد النخل والبالونات حول المسرح وبدأت الفرقة..

خبط ورزع وتنطيط لغاية الفجر الأطفال يتابعون مصور الفيديو ويذهبون أمامه يمينا ويسارا يتابعون صورهم على شاشة التليفزيون الموجود فى جانب المسرح..

أهل القرية والوافدين من القرى المجاورة انصرفوا بعد فترة بسيطة فقد كانت ثمة شائعة قد انتشرت " فرح وفيه فرقة من مصر ومعاهم رقاصة " ومع الوقت ظهر الإرهاق الشديد على جابر وأميرة..

قبل الفرح بأسبوع أثيرت قضية الطباخ وفتيحه رفض وسعدية أقسمت على أنها لا تريد الراحة ولكنها تريد الطباخ مثل فلانة وعلانة اشمئز فتيحه وتذكر والدته وهو يتحدث إلى سعدية :

  الطباخ بيوفر فى الأكل عشان نفسه دا غير إنه بيقعد والستات حواليه هما برضه اللى بيطبخوا..

انتهت مهمة فتيحة حيث ضيافة الأقارب والأصدقاء والطعام والحلويات أكثر من اللازم حتى أنه جمع كل الأطفال ووضع أمامهم الكثير من بقايا طعام الكبار..

وبعدما انفض الجمع جلست سعدية إلى جوار فتيحه :

  الحمد لله الأكل كفى وفاض، بس بيتهيألى إن فيه ناس ما أكلتش
  أنا مش فى الأكل، أنا فى الخبط والرزع اللى جاب لى صداع
  أهى ليلة يا خويا.. بس عارف مش زى ليلة رشاد..
  هى ليلة رشاد هاتتعوض أبدا، خلاص الشيخ حسين مجاهد تعيشى إنت ولو كان لسه عايش كنت جبته تانى أحسن من العيال دى..

عمال الإضاءة يحملون أدواتهم، وجابر وأميرة صعدوا إلى الغرفة فوق السطوح ومقطورة صابر عادت إلى سيرتها الأولى.. كان هذا اليوم هو يوم سعدية حقا، ولكنها كانت تتمنى من أعماقها أن تتاح لها الفرصة وترقص حتى تقع من طولها ولكنها لم تجرؤ على التصريح بأمر كهذا وتمنت أن يدعوها فتيحة للداخل مثلما حدث يوم فرح رشاد ووقتها تفعل ما تشاء مستغله هدوء فتيحه الذى يقرر " أهى ليلة وتعدى " ولكن فتيحة لم يفعل فقد كان متوترا، ولم يخف على نساء القرية التغير الذى طرأ على سعدية فجأة حيث اهتمامها الزائد بنفسها ولكنها تجاهلت التعليقات أو كانت ترد بكلمات قبيحة تجعلهن يصمتن فى دهشة..

ذهب فتيحة لصلاة الفجر، قابلة الرجال فى الجامع بنظرات غامضة غاضبة، لم يبال فهو يعرفهم جيدا، فالذم طبعهم وإن أتتهم الفرصة سيفعلون أكثر وأكثر..

جلست سعدية على حافة السرير منتظرة عودة فتيحة من صلاة الفجر لتبشرة..

  إبنك راجل من ضهر راجل..
لا يجيبها فتيحة ويبتسم فى إرهاق ويلقى بجسده فوق السرير..
  ( بدلال ) هو انت هتنام يا راجل..؟
سمعت صوت أنفاسه المنتظمة.. عضت على شفتيها ونظرت إلى سقف الحجرة..

* * *

فى اليوم التالى انتشر الخبر بسرعة فائقة :

( صدر قرار من الحكومة بإعادة الأراضى ـ إيجار قديم ـ إلى أصحابها )

  هما كل يومين يتكلموا فى الموضوع دا؟
  تخاريف يا عم.. مين اللى هايسب أرضة؟
  دا إحنا لينا عمر فيها وعايشين من خيرها..
  هما مش بياخدوا الإيجار؟ عايزين إيه تانى؟
  الثورة قامت للقضاء على الاستعمار والإقطاع.
  أيوه الكلام دا فى كتب المدرسة حتى بالأمارة : تلاته قضاء وتلاته إقامة..
  كدا يبقى تنويم..
  طب والعمل؟
  ادفع الإيجار الجديد والأرض تفضل معاك..
  كام؟
  بسعر اليوم.. ألفين للفدان فى السنه..
  يا سنه سوخه.. ألفين..
  وهايزيد مع الأيام..
  ليه؟.. هو الفدان هايجيب كام ألف؟
  دا خراب بيوت..
  لا وانت الصادق دا عمار بيوت.. بيوت الإقطاعين..
  طب وهيه ناقصة عمار؟
  يا سيدى البحر يحب الزيادة، وبعدين دى بلدهم وهما أحرار فيها..
  طب وإحنا نروح فين؟ وناكل منين ونعيش ازاى؟
  تلاقيها إشاعات..
  ولو إشاعات.. ممكن يطبقوها..
  يا عم دى البلد تولع..
  أكتر من كده..
  ولا هاتولع ولا حاجة.. وبكرة تشوفوا..

مرت عدة شهور وقرية الكرامة التابعة لمركز أجا هذا حالها والحوار الدائم حول هذه القضية، حتى الذين لن يتأثروا بسبب شرائهم الأرض من زمن طويل " أيام ما كان سعر القيراط مائه جنيه دلوقتى القيراط بقى بثلاثة ألاف وأكثر ".. هذا يعنى أن من آراد الشراء عليه أن يوفر قرابة الثمانين ألف جنيه " يا خبر اسود " قالها فتيحه فى سره ذات يوم.. رأس مال فتيحه إن هو باع الجاموسة وبنتها والعجلة والحمار والتليفزيون حوالى ستة ألاف جنيه فقط لا غير.. يضحك فتيحه بيأس..

قالوا فى البلد إن المستأجر إذا آراد شراء الأرض الموجودة تحت يده سوف يحصل على تخفيض، حسبها فتيحه بعد الخصم، وجد أن عليه أن يدفع سبعه وخمسين ألف جنيه، ضحك حتى بكى..

انتشرت فى القرية حالة من الركود والخمول، حالة من الاشمئزاز العام القلق سيطر عليهم.. امتلأ المسجد..

  طبقوا القرار الجديد فى الحته الفلانية..
  وأيه اللى حصل؟ الناس عملت أيه؟
  ولا حاجة..
  وهيعيشوا منين؟
  هايشتغلوا باليومية زى زمان..
  وترجع الترحيلة من تانى..
  طب وشباب النهاردة هايقدروا على كدا؟
  خلاص يتعلموا صنعه..
  وهما الصنايعيه عادوا لاقين شغل؟
  يبقى هايمدوا ايديهم..
  سيبها لله..
  ونعم بالله..

تمر الشهور ويأتى موسم حصاد محصول الأرز، ذابت الفرحة فى الأعماق علت الوجوه علامات اليأس.. آخر زرعة فى الأرض..

يحملون المحصول ويخرجون من الأرض كمن يحمل قطع أثاثه ويخرج من منزله إلى الشارع، الجميع بلا استثناء قرروا الاحتفاظ بمحصول الأرز هذا العام..

 الولاد ياكلوا فيه لغاية ما نشوف أيه اللى هايحصل..
  وهايستلموا الأرض إمتى؟
  لا ها تأجر ولا هاتشترى يبقى سيبها وخلاص..
  هو أنا لو عندى السبعين ألف جنيه كنت قعدت فى البلد؟
  طب وها تعيش فين وتسيب دارك وأرضك..

يضحك من أعماق قلبه " دارى وأرضى؟؟ "..

  آه بس لو أعرف هايخدوا الأرض يعملوا بيها أيه؟
  هايبيعوها..
  لمين؟
  فيه ناس هاتشترى.. ومن البلد..
  يا عم هى الناس لاقيه تاكل، لما تقولى بلدنا فيها ناس معاها الألوفات دى كلها وهايشتروا بيها أرض كمان؟
  أيوه فيها..
  زى مين؟
  زى حموده رزق..
  ودا جاب الفلوس منين؟ دا طالع من البلد مش لاقى أجرة السكة لغاية مصر..
  اشتغل حلاق حريمى وسمى نفسه حمو، وعارف مين كمان؟
  مين؟
  الشيخ خميس..
  نعم؟ ودا جاب الفلوس منين؟
  صنايعى وبيشيل شغل..
  ما البلد كلها صنايعيه وبيشيلوا شغل؟
  يا سيدى دى أرزاق..
  وحمو وخميس ليهم فى الأرض عشان يشتروا.. وبالملايين؟
  مالهومش.. بس عايزين يبقى عندهم طين وخلاص..
  كان أصحاب الأراضى عايشين فى مصر فى مناصب، وما يعرفوش عنها حاجة، والنهاردة يقوم اللى يشتريها حمو وخميس اللى مايعرفوش يمسكوا الفاس منين؟ وإحنا نبقى فى الشارع؟؟؟
  مغفلين.. زى ما قال فتيحه..
  تقصد مين؟
  إحنا طبعا.. لو سيبنا حاجه زى دى تحصل..
  وإحنا فى أيدينا أيه يعنى؟
  كتير.. بس نبقى إيد واحده..
  وهو فيه مغفلين يبقوا إيد واحده؟!
  يا سيدى نتلم ونختار كبير يشور علينا..
  وتفتكروا مين يكون كبيرنا ده؟
  أيه رأيكم فى فتيحه فرج.. دا أكتر واحد بيحب أرضه..
  اتلم المتعوس على خايب الرجا.. دا فتيحه ده أكبر مغفل فينا.. دا ممكن يضيع نفسه ويضيعنا معاه..
  نهايته .. أنا سمعت طراطيش كلام..
  بخصوص أيه؟
  بيقولوا إن اللى أرضه هاترجع لمالكها الحكومة هاتعوضه..
  إزاى؟
  هاتديله أرض بنفس المقاس فى الصحرا..
  بقى اللى عنده كام قيراط يسيب الدنيا ويروح الصحرا.. ياعم خلى
  الكلام معقول.. وبعدين إحنا لاقين ناكل عشان نروح نصلح فى الصحرا وكام قيراط..؟؟

هبط الليل وغرقت القرية فى ظلام دامس.. انقطع التيار الكهربائى وفتيحه يجلس أمام المنزل غير مبال بريح الخريف المحملة ببقايا من أوراق الشجر.. رحل جابر وزوجته..

حرق أصحاب الأراضى الجدد قش الأرز فى الأرض، حتى تستفيد الأرض أو للتخلص من رائحة الزمن الماضى.. غرقت القرية أكثر فى الظلام وسحب كثيفة من الدخان..

أتى رشاد وزوجته وأولاده لزيارة والده وعند خروجه دس مبلغ من المال فى جيب أبيه، وحملت فايزه بيض وسمن عندما أتت لزيارة أمها.
دخل فتيحه غرفته وأغلقها، وبكى للمرة الأولى فى حياته كثيرا ما مر بأزمات، لكنه اليوم يواجه مشكلة انهيار أساس البناء بأكمله اليوم فقط ألفى الهوان قد تجسد.. رشاد يعطيه مبلغ من المال!!

الحالة لم تصل إلى التسول بعد محصول الأرز يكفى عدة أشهر..

للمرة الأولى يشعر بأن ما يعطيه له أولاده هو حسنة أو صدقة صحيح كان يأخذ من قبل، لكنه كان يأخذ لأنه يستطيع أن يعطى، أما اليوم فمن أين له هذا العطاء.. بكى فتيحه كطفل مصروفات محمود ومسعدة حتى يكملان تعليمهما وزواجهما لم تكن عادة فتيحه أن يفكر فى المستقبل اليوم كان الإختبار الحقيقى لإيمانه.. هل سيتغير نظام حياته..؟

أم يستيقظ قبل الفجر ويذهب إلى الجامع وينتعش ببرودة الماء.. يصلى يعود إلى الدار وينادى زوجته التى تقدم له شىء يشق به ريقه ويشرب كوب من الشاى وينادى على مسعدة لتأتى له " بمجمع المضغ ".. ووينطلق إلى الأرض.. أى أرض؟؟ كان يذهب حتى فى الأيام التى لا تحتاجه فيها الأرض ويجلس تحت شجرة الصفصاف، شعر بقيمة كل شىء فى حياته الماضية التى افتقدها تماما، مفردات بسيطة كانت فى مجملها فتيحه نفسه، حتى مجرد الجلوس تحت شجرة الصفصاف أصبح اليوم من المحال.. تأبى نفسه الذهاب إليها أو حتى المرور بالقرب منها.. وإن فعلها سينظر إليه الجميع بعين الشفقة.. تخيل نفسه يمر بالقرب من أرضه ليمتع نظره بها إلا أنه لن يتحمل فيسقط على الأرض مغشى عليه..

علم أنهم سوف يقطعون شجرة الصفصاف لإدخال الجزء المقامة عليه ضمن المساحة المزروعة، بكى فتيحه من أعماق قلبه، رشاد أقام معركة مع المالك الجديد للحصول على الشجرة المقطوعة، فهو زارعها
كانت سعدية تحاول بشتى الطرق أن تسرى على فتيحه، تذبح ذكر البط تستحم بالماء والشامبو الذى أرسلت لشرائه من الأجزخانة، البيت باستمرار نظيف.. و.. و.. قلب فتيحه انكسر.. ياخدوا حته منه ويتركوا له معشوقته، الكلام لا يفيد يا فتيحه " أخدوا الأرض وقطعوا الشجرة، وبعتوا نصيبك اللى دفعته فى الماكينه المعين "..

تغير فتيحه جدا فى الشهور القليلة التالية وظهرت عليه علامات الكبر فجأة وتساقط عدد لا بأس به من أسنانه، كانت من الأساس بالية لكنها كانت تقاوم حبا فى الحياة، التصق خداه وذبلا، لم يجرؤ أحد على دعوة فتيحه للعمل بالأجر اليومى " عنده ربنا يخلى بدل الراجل تلاته يصرفوا عليه.."

فتيحه شعر أنه فعلا كان يحبها من أعماق قلبه، إنها نبع حياته الأول والأخير لم يكن يعترف بأنه يحب، الأن يبصم بالعشرة بدل المرة عشرة بأنها معشوقتة وأنه على استعداد أن يفنى حياته من أجلها.. لم يتمرد أحد من القرية على إعادة الأرض، حتى من كان يٌنتظر منهم ذلك لم يفعل، وتمنى فتيحه أن يستدعيه أحد ليتمرد وإن حدث سوف يفعل وبقوة المسألة عنده البداية وبمجرد أن يبدأ يفعل مالا يفعله أحد..

محاولات محمود المهذبة ذهبت سدى، فلم يكن يدرك حقيقة العلاقة بين والده والأرض، كان فتيحه يشعر فى قرارة نفسه بأنه فانى وعندما يصل إلى هذه الجزئية يتمنى من أعماق قلبه أن يدفن فى أرضه، لم يعبر عن مشاعره هذه لأحد من قبل، أفنى جسده فى هذه الأرض ولابد وأن يفنى تحت طينها بعد مماته..

لم يتخيل يوما أن شيئا مثل هذا قد يحدث.. قالوا طلعوا القمر صدق قالوا فيه أقمار صناعية وكمبيوتر ودش وانترنت مصمص شفتيه وبرضه صدق قالوا الأرض هاترجع للاقطاعين تانى لم يصدق..

فى أحد الأيام تقرر أن يذهب فتيحه لأحد المنازل فى القرية ليوقع على التنازل وكافة الحقوق وأن العقد بينه وبين المالك لاغى..

كان المالك جالسا فى صدر الغرفة وأمامه الأوراق.. كان أبشع مخلوق شاهده فتيحه على وجه الأرض..

بالطبع كان المالك يتصرف بسعادة الحاصل على كنز عرف مكانة ولكنه استحال الوصول إليه، ثم فى لحظة واحدة يهبه أخر هذا الكنز وقف فتيحه فى مدخل الحجرة لا يستطيع التقدم خطوة واحدة..

ابتسامة المالك تحولت إلى سلاح خفى موجه إلى صدر فتيحه نظرات شعر فيها بالشماتة وكأن المالك يقول : تقدم وابصم يا جربوع تقدم يا فتيحه يا حثالة أنا المالك مهما حدث..

تأذى فتيحه جدا من نظرات المالك، تمنى من قلبه أن يأتيه من ينقذه من هذا الموقف حتى وإن كان ملك الموت نفسه، أشار الجالس إلى جوار المالك قائلا..

  فتيحه..
ابتسم المالك أكثر..
  تقدم يا فتيحه..

تقدم فتيحه خطوة واحدة، خطرت له فكرة مفاجئة " إن كان يتمنى أن ينقذه ملك الموت، فلماذا لا يترك المكان ويرحل؟ "

شعور خفى جعله يتقدم مركزا عينية مباشرة على المالك، عينيه، جبهته العريضة.. رقبته البيضاء.. تقدم خطوة أخرى..

ملك الموت يقبض روحه ويرمل مسعدة وييتم أولاده.. تقدم خطوة أخرى شعر بدوار وقدماه تخور..

  تبصم؟
  أمضى..

يعطييه المالك القلم والأوراق.. قلم فاخر من الذهب الخالص اشتراه المالك مخصوص لهذه المناسبة، لم يتخيل فتيحه أن يمسكه فى يوم من الأيام..

  إمضى يا فتيحه.. مش فاضين..

تأمل فتيحة القلم لحظة.. خارت قواه أكثر.. أطبق على القلم بشدة يستعين به، وعينه على رقبة المالك البيضاء ذات الثنايا.. كاد أن يسقط على الأرض أراد أن يتعلق بشىء.. تمنى أن يأتيه ملك الموت..
دفع يده الممسكة بالقلم الذهب بكل ما أوتى من قوة ورغبة فى التخلص من الحياة..

* * *

خرج مرافق المالك مهرولا صارخا :
  الحقونا.. الحقونا..


مشاركة منتدى

  • اولا..أهنأك على ملكه السرد فتخرج من موضوع لاخر دون ان يشعر القارئ بملل او سأم أو ضجر او تبرم هذا لواقعيه الوصف ولصدق ونبل المحتوى.
    ثانيا..مشكله الارض وماتمثله عند المهمشيين والدهماء والمطحونيين والمعذبيين فى الارض..فلقد أكدت ان الارض كاالعرض ولها لفتيحه هذا ولست ادرى لما سميت بطلك بهذا الاسم..الارض له الماء والهواء بل هى الحياه.
    اخيرا لقد استخدمت اسلوب رائع صادق واقعى فى التصوير وتبدو كل جمله كلوحه فنيه لفنان مبدع خلاق مزيد من التقدم لمعاليك..بصدق انت خيرمن عبرت عن القريه..شكرا لابداعك.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى