الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عبد الهادي الفحيلي

يكفي أنه كلام

وأنا أتبعها كظلها، كنت أضحك. قلت البارحة في نفسي: إذا أردت أن أعجبها فيجب أن تراني ضاحكا. أضحك، ليس ضحكا تماما لكنه أشبه بذلك؛ ابتسامة عريضة جدا.

في لحظة استدارت إلي. توقفت. توقفت أنا. عقدت ما بين حاجبيها في غضب. لملمت ضحكتي، أقصد ابتسامتي. لم تقل شيئا. بل قالت. لم أسمع. أم أنني لم أرد أن أسمع؟ قالت شيئا ربما يجعل الدمع ينفجر من عيني. لم أسمع شيئا.

استدارت وذهبت. تبعتها. لماذا أكذب؟ لم أتبعها. خفت منها وقفلت راجعا. لم أضحك هذه المرة أو لم أبتسم.

لم أعجبها إذن! أم لم تعجبها ابتسامتي؟ ابتسامتي الضاحكة؟ لماذا يضحك علي "رأسي" عندما يوهمني أنه إذا رأتني كذلك فستعجب بي وتكلمني وأكلمها - لكن فيم سنتكلم وماذا سأقول لها؟- وستضع يدها في يدي حتى يسح منهما العرق وتذهب معي إلى الحديقة وتطلب مني أن أشتري لها شيئا مالحا وساخنا. ونجلس على مقعد حجري تحت شجرة وافرة الظل ونضحك. نضحك بصخب حتى ينزعج الآخرون ويطلبوا منا أن نخفض من صوتينا. فنذعن نحن لذلك أو أذعن أنا وتطلق هي بعض الشتائم –لا أدري إن كانت ستفعل بصوت مرتفع حتى يسمعوها- ويدها لا تزال في يدي تتصببان عرقا، تأكل الأشياء المالحة والساخنة التي اشتريتها لها من بائع ما في الحديقة. هل ستعطيني منها ما "أملح به أسناني"؟ لذلك طلبت من أمي أن تعطيني بعض الدراهم. أعطتني. لم تعطني إلا بعد أن صبت على مسمعي أسفارا من التذمر والشكوى واللعنات على هذا الجيل الذي لا يجيد شيئا غير الأكل والنوم بلا فائدة ترجى منه.

لكنها غضبت عندما اكتشفت أنني أتبعها وأنا منتشر في ابتسامة عريضة أقرب إلى الضحك. ربما تفاجأت؟ ربما كان الشارع مأهولا إلى درجة أنها لم ترد أن تعلن عن إعجابها بي أمام الملأ الذين لا يجيدون شيئا غير التجسس على الآخرين فتصنعت الغضب؟!

لم تمسك يدي بيدها حتى تعرقان ولم تذهب معي إلى الحديقة ولم نجلس على مقعد حجري لنضحك بصوت مرتفع. ولم أشتر لها شيئا لا ساخنا ولا مالحا ولا حتى ما لا طعم له. تحسست الدراهم التي أعطتني أمي. لا تزال في مكانها في جيبي، جيد جدا.

هل علي أن أعيدها لأمي؟ لم نضحك لنزعج الآخرين. لكن من هم الآخرون؟ ربما لا يوجد أحد في الحديقة؟ من المفروض أن يكونوا هناك حتى نزعجهم فيعضبوا منا. هكذا قال لي "رأسي". هل كذب علي رأسي هذا؟ هل كان يعلم أنها لن تعجب بي ليسخر مني؟

أنا رأيت أختي مرة مع أحدهم في الحديقة جالسين على مقعد حجري تحت شجرة وارفة الظل تضحك بقوة حتى يكاد فمها أن يتمزق، وهو يمسك بيدها. هل عرقت يداهما؟ كان يضحك. لم يغضب الآخرون. هل كان هناك أحد آخر في الحديقة؟ الحقيقة أنني لم أنتبه، كنت أراقبهما. لا لم أكن أراقبهما؛ أنا رأيتهما وكفى. حتى فمها لست متأكدا من أنه كاد أن يتمزق. سمعت صوت ضحكتها. وحتى عندما وجدتها في البيت لم أقل لها شيئا. لم أقل لها إنك كنت تضحكين بصوت مسموع جدا وصل إلى أذني رغم أني كنت بعيدا جدا عنك. لم أفعل ذلك. كنت أريد أن أقول لها لكن أمي بعثتني إلى البقال لأجلب لها شيئا ما، وعندما عدت لم أجدها. أمي كانت تقول لي إنها أختي. لكنها لم تكن تقيم معنا في البيت. كانت تقيم في بيت آخر يلاصق بيتنا تماما.

عندما دخلت بيتهم مرة، وأنا لم أكمل سنتي العاشرة بعد، لأجلب بعض الملح لأمي –حتى أمها كانت تطلب بعض الملح من أمي، بعض الملح وبعض الأشياء الأخرى- كانت هي خارجة من الحمام، تلف شعرها المبتل بفوطة، وتغطي وسطها بفوطة أخرى. كتفاها وفخذاها بلون خروف مذبوح ومسلوخ جلده ولا قطرة دم فيه؛ تماما كما في العيد الكبير. قالت أمها: "استري نفسك". قالت هي: "لا يزال صغيرا، هو أخي وليس غريبا". أنا صغير إذن، لذلك قبلتني مرة في فمي. كنت عندهم. رجعت إلى البيت وقبلت أختي التي أكبرها بسنتين –ربما أقل- في فمها. نهرتني أمي وصرخت في وجهي: "لا تقبل أختك في فمها، عيب". لكن الأخرى قبلتني في فمي. أليست أختي أيضا كما تقولين؟ لم أقل لها ذلك لأنها أمرتني بالخروج فورا للعب مع أقراني. خرجت ولم أقل شيئا.

لم أعد الآن في العاشرة. قالت لي أمي يوما أنني ازددت طولا وأصبحت رجلا. لذلك قال لي رأسي أنه يجب أن أتبع تلك التي تمر من أمام بيتنا كل صباح ومساء. أمي كانت تقول دائما أن الرجل لا بد له من امرأة. أنا أصبحت رجلا. لم تقل لي ذلك طبعا. سمعتها تقول ذلك لأم أختي تلك. أصر رأسي أن أحصل على امرأة فلم أجد خيرا من تلك التي لم تعجبها ابتسامتي الضاحكة. أهو شكل الضحكة، أقصد الابتسامة ما أغضبها؟ أم شيء آخر؟ إن كان شكل الضحكة فعندما أعود إلى البيت سأتحقق منها في المرآة.

قد أكون أكذب على نفسي وأصدق ذلك. حتى جحا فعل ذلك؛ عندما أزعجه بعض الأطفال بمضايقاتهم ذات مرة أوهمهم بأن هناك عرسا في دار أحدهم، فانصرفوا عنه، فقال في نفسه أنه من الممكن أن يكون الأمر كذلك. فذهب إلى دار العرس المزعوم فلم يجد شيئا. ربما وجد شيئا. أنا لم أعد أذكر ما وقع بالفعل. هل كان هناك عرس؟ وإن لم يكن، ماذا كان من أمر الأطفال مع جحا حال اكتشافهم كذبه عليهم؟ سيعودون إلى مشاكسته؟ هو الذي ذهب إليهم بقدميه بعدما تخلص منهم. هو الذي ناوشهم من جديد. لا، هم الذين سيناوشونه. لكن لماذا أشغل نفسي بجحا؟ ومن هو جحا هذا؟ لا أذكر من أين أتاني اسمه وقصته هذه. هل أنا مثله كذبت كذبة صدقتها؟ إذن أنا مغفل! لا، لا يمكن أن أكون كذلك لأنني لم أوهم نفسي بأن هناك عرسا في مكان ما. أنا فقط تخيلت أنني لو ابتسمت ابتسامة عريضة أقرب إلى الضحك فلربما زاد وجهي وسامة وإشراقا ما قد يجعل تلك التي تمر من شارعنا ومن أمام بيتنا بالضبط صباح مساء تعجب بي وتذهب معي إلى الحديقة وأشتري لها تلك الأشياء المالحة والساخنة لنضحك هناك و……… لكن، ألم أصدق خيالاتي؟ بلى، صدقتها. لم أصدقها، هو "رأسي" الذي أوهمني بذلك. ولو، صدقت كذبة لا يهم مصدرها. إذن أنا مغفل كبير، لكن لست مثل جحا. هو كان لديه حمار. أنا لا حمار لدي. ربما أنا الحمار. لا، لا يمكن ذلك. أنا لست حمارا. أنا مغفل وكفى. مغفل في أوقات معينة وليس في كل الوقت. جحا كان كذلك طوال الوقت بالتأكيد. لا يمكن أن أكون مثله.

من حكى لي عن جحا يا ترى؟ من قال لي إن جحا كان غبيا؟ مغفلا أم غبيا؟ هل هناك فرق؟ هل كان حماره أذكى منه؟ قد يكون ذلك صحيحا. تعجبني هذه الفكرة: "الحمار أذكى من جحا". كيف عرفت ذلك؟ إذن أنا لست مغفلا كبيرا ولا صغيرا. وإلا لما علمت قصة جحا. هل يعلم جحا شيئا عن قصتي؟ لا أظن ذلك. من سيخبره يا ترى؟ ولو كنت مغفلا، أكنت سأعرف أن الحمار أذكى من صاحبه؟؟!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى