الأحد ١٨ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

اصطياد الأغلى

عمره ثلاثة وعشرون عاما، طـويل القامة، عريض "المنكعين" على رأي (عادل إمام) لا يتقن إلا التعب، وكل جزء من جسمه الضخم يسكن فيه الكسل، صديقه الوحيد هو الوسن، ولا عمل له سوى التدخين بشراهة، والجلوس مع أحلامه المعتادة عند ضفة النهر المنهزم أمام سد (الجراح) الطماع الذي يصادر كل المياه القادمة من تركيا، ولا يتكرم على النهر إلا بالقليل القليل منها.
في غمرة أحلامه الكثيرة، انساب إلى سمعه صوت ناعم ووقع أقدام وهو ينفث دخان لفافته باستمتاع تام، رفع رأسه ببطء، فارتطمت نظراته بمخلوق عجيب على شكل امرأة شقراء مفعمة بالسحر، ترتدي الأخضر الفاتح، وتقبل نحوه بخطى واثقة، عندئذ اشتعلت فوانيسه، وخُيـّل إليه في لحظة أن قلــبه الخافـق يكاد يثب من بين ضلوعه ليتدحرج بين الماء المشتاق إلى الهيجان.
ما أكثر الابتسامات التي نثرتها حتى وصلت إليه، كانت تتلاعب بضفائرها، تتزين بالوهج، تتمايل وكأنها تسير على حجارة صغيرة متباعدة في النهر، ظنها في بادئ الأمر طيفا ً، أو جسداً من نسج الخيال، فإذا بها امرأة كلها نقاء في نقاء ، وتبعث في النفس جمال الوردات في كل الأوقات.
هل خرجت من الماء؟ أم انسابت من بين الأعشاب؟ أم جاءت من إحدى ليالي شهرزاد؟
 ألا تريد أن تستمتع بجمال الحوريات؟
ألقت كلامها وجلست إلى جانبه وهي تحرك في ثغرها الباسم قطعة لبان باهتمام، فزاغت عيناه وتحجر عند افتتاح الكلام.
 أنت يا هذا.. ألم تحرقك نار الوجد بعد؟
تأرجحت آهة مصلوبة، وذهب من الصحوة إلى الدهشة، فمطت شفتيها المليئتين بطعم العسل وظلت جالسة تنظر إليه دون كلام ، خطفت لفافة من علبته المرمية إلى جانبه، أشعلتها، نفثت الدخان في وجهه الصامت، فتحول إلى غيمة زرقاء فوق رأسـه، ألقت باللفافة، فكت ضفائرها الطويلة، وفردت شعرها لتغازله أشعة الشمس الدافئة، راقبها بامتياز وهو يرتمي في حضن الاضطراب، لكن قلبه كان أشجع منه تمرد، وأجبره على الخلاص من الحيرة والدهشة، وبشيء من الشجاعة، مد يده المرتجفة، لمـس خدها، فبدا له لدناً وملتهباً أكثر من اللازم، شعر برعشة تسري في أوصاله، فسحب يده وبقي باركاً كالجمل الكسول.
قصفته بنظرات لن ينساها إن كانت عنده أحاسيس، ثم نفرت قائلة:
 يبدو أنك لا تنفع في شيء غير الأحلام.
أخفض رأسه وغاب عبر تداعيات مؤلمة، فلم أستطع التحمل وأنا أرى حورية ترسم صور الحب على جدران القلوب ولا تجد من يلونها، خرجتُ من خلف أعواد القصب، حيث كنتُ في رحلة صيد، اجتزت النهر بسهولة، تقدمت بخطوات واثقة، ألقيت السلام، فردّت بهسيس الكلام الجميل، أما هو فلم يرد وكأنه لم يشعر بي، حدقت في بياض وجهـها وسـحر عينيها وهي جالسة بأناقة فـوق العشـب، فخرجت من حنجرتي آهة إعجاب.
رفع الشاب رأسه ونظر إلي ّ بانكسار، شعرت بأنه يريد أن أقدم له مساعدة، فقلت وأنا أنظر إلى ملامحه المتوترة:
 حالتك ميئوس منها.
جلستُ إلى جانبها فابتسمتْ ، داعبتها فاحطاتني ضحكها والغرام الحميم، تحسستُ كتفها العاري فغرقتُ في متعة تامة، ألقت بقطعة اللبان، لملمت شعرها وحاولت النهوض، فحملتها وانطلقت مهرولاً أباري ضفة النهر كحصان ولهان جاءه الصهيل ، حاول الشاب أن يركز أفكاره المبعثرة ويلحق بنا، لكن أطــرافه لم تساعده، بحث عن عبارة جارحة يرميني بها، لكنه لم يقو على قول شيء،فابتلع شفرات الألم وظل محاصراً بالحزن والخيبة، أما هي فكانت تلف يدها حول رقبتي وتطلق ضحكات تشــبه رنين الأجراس.
في هذه الأثناء، مر من أمام الشاب رجلاً يمتطي دراجة هوائية ، ويرتدي ألبسة تقليدية، فاستوقفه برجاء وهو جالس في مكانه:
 ساعدني يا عم.. ذاك الرجل القرمزي سلب مني حوريتي الخضراء.
حدّجه بنظرة غريبة، ثم نظر إلينا وردّ بغضب واضح:
 ألست رجلاً؟ دافع عنها بكل قوتك.
ثم تابع طريقه وكأنه لم ير أو يسمع شيئاً، وترك الحسرة ترافقه كحارس شخصي.
فتحت الحورية الدروب الخضراء أمامي فتابعت طريقي بإصرار وأنا أمنح نفسي قيثارة ومواويل ضحك، بينما الشـاب ينظر بعينين مليئتين بالقهر، وإحساس بالضيق ينتابه، ضـيق انقلب حقداً وغضباً على من سلبه حورية خضراء ادّعــى أنها له وحده، اجتزت النهر وأنا أحملها على يديّ، وخلف أعواد القصب مددتها فوق العشب، فمنحتني أشـياء لم أحصل عليها من قبل، وكانت بعض الطيور ترفرف فوقنا، تروح وتجيء وكأنها تريد أن أصطادها، لكنني لم أهتم بها بعدما اصطدت الأغلى والأجمل، وكان عريض"المنكعين" جالساً في مكانه ينظر إلينا ويدخن بشراهة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى