السبت ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم جودت جورج عيد

الحكيم وابنته

لقد صار أشهر من نار على علم ! بعد حصوله على جائزة من الأمم المتحدة، تقديرا لعمله في مجال حقوق الانسان وتقديرا للرسالة التي ينشرها، من خلال محاضرات وندوات قيِّمة تثير الجماهير الغفيرة التي تأتي خصيصا لسماع رسالته حول السلام وقيمة الانسان، والدور الخاص للانسان في مسيرة بناء الثقافة والحضارة الاجتماعية...

دعي الحكيم إلى حفل تكريم له وقد طلب منه إلقاء إحدى محاضراته الشهيرة في نادي حي شارع "ستراتفورد" في لندن، وقد فرح لتلبية الدعوة وذلك احتراما لأهل الحي الذي أحب والذي تعشعش في زواياه ذكريات طفولة جميلة... آملا لقاءَ بعض أصدقائه القدامى، الذين لم يرهم منذ التحاقه بالجامعة والعمل، وانتقاله للسكن في "جولدرز غرين" في الطرف الاخر من لندن قبل عشر سنوات.

قام "الحكيم" – هكذا يدعوه الناس في محاضراته، وقف في نهاية محاضرته ونظر إلى الجمهور الكبير الساكن، المتعطش لكل كلمة يقولها…هذا الجمهور الجائع لهذا الإنسان الذي يتكلم بسلام الله، اختتم الحكيم تلك الأمسية الميتافيزيقية، إذا صحّ القول، بقوله :" أحبتي… اذهبوا بسلام واحملوا السلام، لأن الإنسان يدرك الإنسان الذي بداخله، فقط إن أحبَّ وإن عاش سلام الله وسلام الكلمة، إننا في أمسّ الحاجة إلى كل رسول منكم ليسامح وليصافح أخاه الإنسان ويستبدل الاندفاع السلبي بطاقةٍ مسالمة ايجابية، ليرتقي سلم الخصوصية العلويّة ويكون فوق "الأرضيات"، ليستطيع أن يسامح… ويجعل الحوار اللغة الوحيدة لحل أي إشكال". وانهال عليه الجمهور بوابلٍ من التصفيق وكان دوي قوي من حناجر الشباب يصدح ويشيد بإسمهِ...

ترك المنصة في القاعة المكتظة، ركب سيارته وانطلق في غياهب الطرق الباردة في تلك الليلة الماطرة. وصل منـزله في "جولدرز جرين" في ذات لندن، بعد الساعة ونيّف وكانت عتمة الليل قد تسللت زوايا بيته الجميل، لكنه تفاجأ عندما فتح الباب، إذ كانت طفلته الصغيرة البالغة عشر سنوات بانتظاره، وكانت قد انتظرته طويلا "لتهجم" عليه وترتمي في حضنه وبين يديه.

قبّلها ورمى جسده المتعب وحنجرته المتصلبة على الأريكة قبالتها، وكم كان يطوق إلى كوب من الشاي الساخن ليدفئ برد الشوارع وصقيع القاعة الذي استوطن مساءه…

أما ابنته التي تشتاق إلى وجوده في البيت بدأت الحديث، فقرر أن يبقى أمامها ويسمعها ريثما تنهي كلامها ثم يقوم لإعداد كوب من الشاي الانجليزي الفاخر الذي يعشقه في مثل تلك الليلة.

في بداية حديثها قالت :" معلمة اللغة الانجليزية تبعث لك بالسلام "، فأجابها: "نعم نعم… ردي لها السلام فهي إنسانة طيبة ومجتهدة وجميلة"، وجالت في ذهنه صور نهدَيها اللذان اشتاق أن يلعقهما في اجتماع أولياء الأمور الأخير، خصوصا بأنها بادلته نظرات الإعجاب… ربما عليه العودة إلى عينيها الدافئتين أو حتى إلى حضنها… فانتازيا مثيرة تسللت إلى فكره المرهق… ولكن فاجأه صوت ابنته يقول (على مضض): "نعم، لكنها شريرة فهي دائما تصرخ في وجهي وتوبخني إذا ما أجبت دون استئذان، وأكثر من مرة أسمعتني كلمات جارحة…"

تبخَّرت تلك الصور التي رسمها مع تلك الجذابة الجميلة وسرعان ما تبدلّت الى صور لإنسانة غير مهذبة، جاحدة شريرة. وراح يصيح بأعلى صوته ويشتمها أمام ابنته واسمعها كل كلمات التوبيخ والوعيد، "عليك أن تصرخي بها… لا تسكتي… عليك أن تجادليها ولا تدعي تلك الشريرة أن تتكلم معك بهذه الطريقة بتاتا…" معلمين آخر زمن!!" ".

ثم قالت :" في الساحة اليوم أيضا كان ولدان يتشاجران بهمجية، حتى سالت الدماء من أيديهما، وكان يشتم أحدهما الآخر" وهو يهز رأسه :" سامحهما الله، ليسامحهما الله"، " وأسهبت: " ودفعاني الى الأرض وصاحا بوجهي لأني أقف بينهما، مع إنني مررت صدفة قربهما…"

انتفض في مكانه، "الكلاب أولاد الكلاب… ماذا قلت لهما؟ قومي اضربيهما، صاح في وجهها،
أوسعيهما ضربا حتى يسيل الدم من وجهيهما، وإذا احتجت مساعدة سآتي أنا في الصباح وسأضربهما وسأعلمك كيف تضربين كل من يحاول إزعاجك في شيء. أولاد الزانية… لم تعد تربية للأولاد لا في بيوتهم ولا في المدرسة… سأعلمك كيف تضربين الأولاد وعليك أن تفهمي تماما أن من " يرشك بميّ رشيه بالنار" "، واستمر بغضبه، ناسيا أن ابنته أمامَه وشتم الناس وتربيتهم الفاسقة وشتم السُّلطة وشتم برامج الفضائيات التي تشجع العنف وتحثُّ على الانفرادية والأنانية وشتم "الفديو كليبات" الخلاعية والمسخرة و"الاسهال الثقافي" والانفلات الجنسي الصارخ بالاغاني وبانتقاص ملابس العارضات وبروز النهود والمؤخرات وممارسة الجنس الايمائي... وتمتم و"تفتف" وتلعثم وانتفض مكانه… غير مكترث إن كانت تصغي له ابنته أو أنها نامت في دوائر الغضب والعنف اللامتناهي… حيث ترك فلسفته الليلية في الساحات التي تلعب فيها طفلته في حدائق غناء في مدارات صباحية معطرة أو في مسارات ليلكيةٍ تزيِّن أحلامها الليلية…

قام وهو يتوعد أولاء الأولاد وأهاليهم ومعلميهم، دخل المطبخ ليحضر كوبًا ساخنًا من الشاي ليغسل حنجرته بعد حشرجة الغضب هذه وبعد محاضرته الطويلة، التي أرهقته بالرغم من هتافات الجمهور ومن هالات "الانبهار" فوق رؤسهم بعد رسالته الإنسانية…

* * *

في الصباح قبّل طفلته، حمل حقيبته الصغيرة وحنجرته وخرج لنهار جديد، لنشر رسالة الانسان!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى