الأحد ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أكرم سلمان حسن

الحاوي

حين استفاق، وقعتْ عيناه على قصاصة ورقية .. تناولها، وجدَ عليها عباراتِ متناثرة ، بداية .. لم يجدْ أيةَ صلة قربى بينها، ثم أخذ يلملمُ ما انسلَ من بين أصابعِ النسيان، حينها تذكر أنه في الليلة السابقة أوللدقة .. في ساعات الصباح الأولى استيقظ على فكرة عابرة، ربما كانت حلماً، حينها .. تناول قلمه .. خربش بقايا هلوسات ثم عاد للنوم ..

نعم، الآن وبعد الرشفات الأولى من قهوته تذكر جيداً ما حدث، فهومنذ أيام تسكنه فكرة أن يكتب شيئاً مختلفاً، سيكتب ما قدًّر أنه سيكون ملفتاً واستثنائياً . فكر بكتابة قصيدة يهربُ فيها من القافية التي تزعجُ أصدقاءه أتباعَ الحداثةِ وما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة و.. لكنه عدلَ عن ذلكَ لأنه شَعَرَ بأنه سيخونُ أحاسيسَه، فهوعندما يكتبُ لا يحملُ مصباحَه باحثاً في مجاهلِ اللغةِ عن القافيةِ بل الأصحُ أنها تتسللُ من وراءِ ظهرهِ، إلى مكانٍ يغريها .. تحتَ ظلِ كلمة.

لبس ثيابه وغادر إلى مكتبه، مستعجلاً الوصول قبل أن تفتر حماسته وتضيع الأفكار المتزاحمة بل المتصارعة في رأسه فتغلب إحداها الأخرى وتحكم عليها بالنفي من ساحة وعيه، قرر أن يكتب فقط، ومن ثم يبحث في النوع والشكل، أخيراً دوًَن :
أتذكُر أخر موعد ؟ . يوم جئتني مستغفراً، عيناك ممتلئتان دمعاً وأشياءً أخرى . كنت أحسَبُكَ تأتيني طائراً، لكن وقعَ أقدامِكَ الثقيلة على أحجارِ الزقاقِ المؤدي إلي حديقة منزلنا أيقظَ العصافيَر الساكنةَ في شجرة الزنزلخت فطارتْ محلقةً فوق رأسي .. أذكرُ أني كنتُ أنتظركَ كعادتي قربَ البركةِ الممتلئة التي تتوسطٌ الحديقة
يومها قلتَ أني ما زلت لك الماء والهواء، وأني أسكن شرايينكَ كما قبل، وقلتَ أني وأني .. ويا للدهشةِ ..عندما شاهدتُ العصافير تحط عند قدميكَ وتلتقط حبوب الدمع المتساقطة من عينيكْ .

هنا .. توقفَ عن الكتابةِ متسائلاً عن قيمة ما كتبه . شعرَ بالجزع من فكرة أن أحدهم سوف يقطبُ حاجبيه ويقولُ : أخي أمجد .. ابتعد عن المباشرة . ومع أنه لم يفهمْ يوماً لما على الكاتبِ أن يرهقَ عقلَ القارئ، ويأتيه من الخلفِ .. أويباغتهُ من الأعلى، لكنه .. مرغماً .. قررَ أن يغيرَ ما كتبه .. وفعلاً بدأ من جديدِ وبعد أنْ انتهى قرأ :
ما زلتُ أذكرُ آخرَ موعدٍ، كنتَ كما عَهدُكَ .. جميلاً، رأيتكَ دونَ أن تراني، لم تكن ماشيًا كالآخرين ولم تكن طائرًا، كنت شيئًا بين هذا وذاك .. أذكرُ أني هرعتُ إلى بوابة الدار وفتحتها، ثم عدتُ إلى مكاننا المفضل، دخلتَ .. حطتْ نظراتُكَ على وجهي .. كنتُ واقفةً بجوار البركة الجافة التي تتوسطُ بيتنا العربي
يومها قلتَ .. ما لم يقله أحدٌ قبلَكَ، أنشدتني شعرًا ومسكًا .. كنتُ أغذُ السمعَ ملاحِقةً وقعَ خطىَ حروفكَ .

قلتَ الكثير مستغفراً طالباً السماح، الذي لم تكْ تحتاجه، لأن قلبي لا يرضى بشيءٍ غيرَه . راقبتُ دمعَكَ ينسكب فوق حافة البركةِ ويسِيلُ مستقراً فيها، تكلمتَ وسكبتَ .. ولم تتوقفْ حتى امتلأتْ البركة، ويا للدهشةِ !! حينما رأيتكَ تنسل من جيبِكَ أسماكَ ملونةً صغيرةً، زلقت من يدكَ وما أن وصلتْ الماءَ. حتى بدأتْ تتلوى بحركاتِ راقصةٍ كما في اولمبياد ..وتقف .. مُشَكٍّلَةً كلمةً واحدةً .. أحبكْ .

حينها .. وقفتُ مذهولةً، وتذكرتُ الحاوي عندما كانَ ينسِلُ من فمِه مناديلَهُ الملونَةَ ويفرشُها في الهواءِ أمامَ أعينُنا الصغيرةَ المفتوحةَ على اتساعِها التي كادتْ تقفزُ دهشةً عندما كان يتبعُ ذلكَ بإخراجِ طيرٍ وأشياءٍ أخرى، وينتهي بمزمارِ وتمايلِ مغرٍ .. لأفعى تخرجُ من سلَّتِهِ .

وقد احتجتُ سنيناً كي أُدْرِكَ .. أنَ الحاوي كانَ يخدعُني !!
يومَها .. خفتُ من حاويبيعني وهمًا.. لذا .. ابتعدت عنك .!!
عندما أنهى القراءةَ، قطَّبَ حاجبيه مستغرباً، ليس هذا ما كان يفكرُ به، شخصٌ آخرٌ كتبَ هذا، والأدهى .. أن الكاتبَ ..! أنثى .
مزَّقَ الأوراقَ وهمسَ ... أديبُ فاشلْ ....
أكرم حسن ( منصورة )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى