الأربعاء ٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

قطار الحرية

كان صعبا عليّ التنفس من شدة الصقيع ، لذلك فضلت المكوث داخل محطة القطار وليس على الرصيف. ثمة باب زجاجي كبير يفصلُ الثلجَ المتراكمَ في الخارج عن ثلجي المتراكم في داخلي. لم أكن لوحدي فالمكان مزدحم كالعادة رغم الطقس البارد والسماء الحالكة. كلّ متدثِّرٌ بمعطف من فرو أو من صوف، وكلّ ترى الرغبة في عينيه للوصول بسرعة إلى المكان الذي يريد.

وجوه حزينة، عيون قاحلة، نساء جميلات، كل يركض في جنبات تلك القاعة الفسيحة. تراهم يهرولون وخطواتهم ترقص على نغم رياح القطب البارد.

أنتظر القطار في ضجروالرياح تعيدني داخل أحلامي المتجمدة. أتأمل الوجوهَ الشاحبة من بين أعمدة الضباب وهي تتحرك. أختلس النظر إلى كل ما يلفت انتباهي حتى سمعت صوتَ وقعِ الجوال على الأرض، وعلا صوت امرأة مدويا كجرس الإنذار. تتكلم بلغة لا أنا ولا غيري يفهمها. موجهة كلامها إلى زوجها. كنت انظر إليهما مترجمة حوارهما حسب حركات أيديهما وطريقة النظرات الحادة التي كانا يتبادلانها. شعرت بالخجل أول الأمر. إنهم أجانب مثلي. صحيح أنا إفريقية وهما من آسيا إلا أننا تجمعنا أشياء كثيرة؛ نفس الغربة والمعاناة ووحشة الأهل والأحباب وأمل الرجوع الذي اندثر في سراب الاغتراب.

عمر الصقيع يلبسنا وروح الغياب تَسكننا رغما. سنين من العمرتمضي ثقيلة، مليئة بالمكابدة أو بالإتكالية على دخل زهيد من الضمان الاجتماعي ونحلم أن نصنع منه المعجزات. كل ما يمسهم يمسني. أتطلع إليهما فضولا، خجلت لنباحهما على بعضهما أمام الملأ ككلاب الشوارع. تمنيت لو كنت أتكلم لغتهما لأقول لهما كفّا عن الصراخ إن منظركما يثير الاشمئزاز. مشاكلكما عالجاها في بيتكما وليس أمام الملأ. إنكما فرجة للأعمى والمبصر. أرأيتم أحدا من سكان هذا البلد ينبح مثلكما؟ بالطبع لا. فلم لاتخجلا من نفسيكما. كونا مثلا، صورة جميلة تعكس فن البلد الذي قدمتما منه أو أرحلا منه عن بدون رجعة. مازال صراخهما يدوي في قاعة الإنتظار والناس الفضوليون وغير الفضوليين ينظرون إليهما وجسمي يتصبب عرقا من خجلي. تمنيت لوكانت لي طاقة جني فانوس علاء الدين لأخذتهما من مكانيهما وألقيت بهما في البلد الذي قدما منه. كانت المرأة أكثر صراخا وكان الرجل أكثر خجولا. لون وجهه بلون معطفه الأصفر الباهت المتسخ. بدأ يُخفض من صوته، خافضا رأسَه وزادت هي في الصراخ والشتم وعلا على الأثرِ نحيبُها متأهبة للانقضاض عليه ولم لا فهي في البلد الذي أعطى للمراة حريات وحقوق ليس لها حدود. أعطاها حرية التعبير فصارت تعبر كما شاءت عن رأيها وغضبها بالصراخ. وأعطاها حقوقا تصونها من تعسف الرجل فصارت هي تتعسف كما شاءت ومتى أرادت بسبب وبدون سبب. أعطاها حرية الاستقلالية فتراها مستقلة عن زوجها وأولادها ولو تحت ما نسميه بالرباط المقدس. الله أكبر! ما أروع فهم المرأة القادمة من هناك لوطن الحرية هنا. أصبحت أكره هذه الكلمة حتى الموت. إنها تؤذيني في روحي، في أذني وفي عيني. أصبحت كلمة ً ذات رائحة نتنة ومنظرها يرعبني ولمسها يثير حساسية في جلدي.

مازال ضجيج صوتها الحاد يحوم في فضاء المحطة. ترى عن ماذا كانا يتحدثان؟ ما كنت لأعلم إلا أنني حللت قصتهما كغيري من محبي الاستطلاع. بطبيعة الحال كل يفسر حسب طريقته. فكان استنتاجي أن الزوج عندما ألقى بالجوال على الأرض قد رأى حتما رسالة من حبيب أوعشيق أو ما أثار غضبه وبدأ يشتمها مكشرا عن أنيابه وبدلا من أن تدافع عن نفسها باحترام وتشرح الأمر لتخلص نفسها من التهمة الموجهة إليها، كانت تتحسر على جوالها الذي لفظ آخر أنفاسه وانطفأ الضوء من شاشته ولم يعد هناك أملُ ُ بإستعماله مرة ثانية عندما فحصته بيديها المرتجفتين. أطلقت عنان صراخها في ذلك الفضاء الفسيح، تشتم وتسب واللعاب يخرج متطايرا عبر شفتيها القُرمزيتين، تنفجران بما تجمع فيهما من أحمر الشفاه القاتم وعيناها المغموستان في الإثمد يتطاير منهما الشرر، ووجهها مسقوف بجدائل فوضاوية وكأنها أفاعي مستعدة للهجوم في أية لحظة. لم يعد الرجل يحتمل منظرها ولا موقفه معها الذي سبب له إحراجا. فأسرع باتجاه أول قطار. أما هي فكانت ترفع يديها إلى الأعلى صارخة فيه بلغتها: ليس ذلك هو القطار الذي سنسافر فيه... تنظر إلى ساعتها وتصرخ بصوت مبحوح وهي تلملم وقاحتها بالعويل والحسرات ترثي جوالها الذي اختفى تحت نسيج ثلجي. تسب، تنبح وتلعن محاولة بشجاعة الجبناء اللحاق بالقطار الذي كان يسير غير مبال، كنت أراقبها من بعيد، مازالت تصرخ وما زال القطار يسير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى