الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

تـأنـيـب ضـمـيـر

جـلـس مـطـأطـأ الـرأس، ذراعـاه مـمـتـدتـان، وأصابـعـه مـتـشـابـكـة حـول ركـبـيـتـه، وجـبـهـتـه مـلـتـصـقـة مـن حـيـن إلـى حـيـن بــفـخـذيـه. جـسـمـه يـرتـعـش، كـان قـد ذبـت فـيـه حـرارة غـريـبـة، أذنـاه كـانـتـا تـلـتـقـطـان الـكـلـمـات بـانـتـبـاه وتـركـيـز.

كـان الـحـاج عـبـد الـرحـمـن مـتـوسـط الـثـقـافـة، كـثـيـرا مـا كـان يـشـكـو سـوء فـهـم بـعـض الـعـبـارات وهـو يـنـصـت إلـى خـطـبـة مـن خـطـب الـجـمـعـة، لـكـنـه الآن ولأول مـرة فـي حـيـاتـه بـدأ يـحـس أن للـكـلـمـات مـعـنـى وأن فـيـهـا حـرارة، لـم يـكـن فـقـط يـفـهـم الـكـلـمـات بـقـدر مـا كـان يـحـس بـهـا، يـعـيـشـهـا بـكـل كـيـانـه، بـكـل نـبـضـه، كـانـت تـشـع نـورا، تـسـاءل مـع نـفـسـه، أي أب يـمـكـن أن أكـون ؟ بـل أي بـشـر ؟ كـانـت كـلـمـات الإمـام وهـو يـخـطـب فـي الـجـمـعـة، تـصـل إلـى شــغــاف قـلـبـه، تـغـزوهـا بـلا أدنـى مـقـاومـة، فـتـحـدث نـزيـفـا مـؤلـمـا، ربـاه، مـا الـذي أصـنـع ؟ كــيـف حـدث كـل هـذا ؟ وأنـا الـمـعـروف بـحـلـمـه، الـمـشـهـود لـه بـالــرزانـة وســعـة الـصدر، كـيـف يـصـدر هـذا الـتـصـرف الأخـرق مـن هـذا الـرجـل الـعـاقـل الـذي كـان الـنـاس يـضـربـون بـه الـمـثـل فـي الـحـلـم ؟ هـذا الـرجـل الـذي هـو أنـا سـابـقـا والـذي لا أعـرفـه حـالـيـا. هـذه الـتـسـاؤلات كـانـت تـذهــب بـعــقـلـه بـعـيـدا يـتـأمـل فـعـلـتـه، لـكـنـه أحـيـانـا يـضـطـر إلـى الـعـودة إلـى الـواقـع. فـهـو لا يـريـد أن يـفـوتـه الاسـتـمـاع، كـان مـوضـوع الـخـطـبـة، حـقـوق الأطـفـال فـي الـشـريـعـة الإسـلامـيـة، كـثـيـرة هـي الأحـاديـث الـنـبـويـة الـتـي أوردهـا الإمـام وكـثـيـرة هـي الـعـبـارات. ومـع هـذا الـسـهـو الـذي يـأخـذه قـسـرا إلـى تـلك الـغـرفـة الـمـظـلـمـة الـتـي يـقـبـع فـيـهـا ابـنـه الـصـغـيـر. أيـسـتـحـق كـل هـذا الـعـذاب عـقـابـا لـه عـلـى غـلـطـة بـسـيـطـة تـافـهـة ؟ فـربـمـا قـد يـكـون مـخـطـئـا، وربـمـا قـد يـكـون مـظـلـومـا ؟ وربـمـا... وربـمـا...

" أفـشـل الآبـاء مـن يـسـتـعـمـلـون الـعـنـف فـي الـتـربـيـة "الـعـنـف مـحـرم... الـعـنـف إجـرام...

لـكـنـه كـان يـبـرر فـعـلـتـه فـي قـرارة نـفـسـه، يـقـول : "وأنـا صـغـيـر نـلـت مـن الـضـرب مـا لـو نـالـه جـمـل هـائـج لارتـدع، نـيـتـي لـم تـكـن سـيـئـة، عـسـى الله أن يـغـفـر لـي" فـجـأة أيـقـظـه صـوت الإمـام وهـو يـصـرخ : الـعـنـف شـيء والـضـرب شـيء آخـر، كـان الـصـوت يـنـفـذ فـي أذنـه كـأن الـمـتـكـلـم يـقـصـده بـالـتـوبـيـخ. أعـادتـه الـكـلـمـات مـن جـديـد إلـى عـالـمـه الـنـفـسـي، أكـان مـا فـعـلـتـه ضـربـا ؟ أم هـو عـنـف ؟ أم هـو إجـرام ؟ طـفـل أشـبـع ضـربـا بـكـل قـسـوة وسـب وشـتـم أمـام إخـوانـه وأخـواتـه، بـل فـي حـضـور بـعـض الـضيـوف الـذيـن لـم تـسـعـف تـوسـلاتـهـم فـي إنـقـاذه مـن بــراثــن قـسـوة جـهـنـمـيـة، ثـم ألـقـي بـه فـي الـحـمـام لـيـلا، لـيـقـضـي فـيـه الـلـيـل كـلـه إلـى الـصـبـاح، بـل أكـثـر مـن ذلك إنـه أقـسـم عـلـى زوجـتـه إن هـي فـتـحـت الـبـاب أن يـكـون مـصـيـرهـا الـطـرد مـن الـبـيـت، وهـو الآن فـي الـمـسـجـد يـسـتـمـع إلـى كـلام رب الـعـزة. لا شـك، لـيـس هـو نـفـس الـشـخـص الـذي فـعـل كـل تـلك الأفـعـال. تـخـيـل نـفـسـه شـخـصـا آخـر، بـحـث لـه عـن صـورة فـلـم يـجـد شـيـئـا. الـسـبـاع لا تـفـعـل هـذا بـصـغـارهـا، فـأشـد الـحـيـوانـات افـتـراسـا وبـطـشـا لا تـفـعـل بـأطـفـالـهـا هـذا الـفـعـل.

تـسـللـت دمـعـة مـن بـيـن مـحـاجـره لـتـسـتـقـر عـلـى ركـبـتـه، هـذه الـعـيـن الـتـي مـا دمـعـت مـنـذ أن فـقـد أبـاه، وذلك مـنـذ أزيـد مـن ثـلاثـيـن سـنـة، هـا هـي تـرق، وتـعـرف مـعـنـى الـرحـمـة، تـتـابـعـت الـكـلـمـات فـي غـزوهـا الـجـنـونـي لـجـوانـب نـفـسـه وقـلـبـه وعـقـلـه تـلـيـن مـا قـسـا بـفـعـل الـزمـن، فـجـأة اسـتـسـلـم للـبـكـاء، الـمـصـلـون إلـى جـانـبـه سـمـعـوا نـحـيـبـا، مـد أحـدهـم يـده بـحـركـة خـفـيـفـة إلـى جـيـبـه، أخـرج مـنـديـلا، أعـطـاه إيـاه، وانـتـظـر حـتـى رفـع رأسـه لـيـتـسـلـم مـنـه قـطـعـة الـثـوب ويـحـرك رأسـه حـركـة عـمـوديـة أن شـكـرا لـك. الـنـحـيـب أحـدث حـالـة مـن الـخـشـوع فـي الـمـصـلـيـن الـذيـن كـانـوا بـجـانـبـه، كـلـهـم أحـسـوا بـرهـبـة غـريـبـة، فـالـمـوقـف مـوقـف ذكـر ووعـظ ولا أحـد يـعـرف سـبـب بـكـائـه. مـسـح الـحـاج عـبـد الـرحـمـن عـلـى كـل وجـهه، كـان قـد تـصـبـب عـرقـا، ورغـم أن الـجـو كـان مـعـتـدلا فـإن حـرارة الـخـشـوع كـانـت تـمـد جـسـمـه بـدفء شـديـد. فـقـرر أن يـسـلك طـريـقـا أخـرى فـي الـتـعـامـل مـع الآخـريـن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى