الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم جمال عبدالرحيم

الشبح الجميل

وقفت "نورين"أمام نافذة غرفتها تنظر إلى الأفق غير مكترثة بجمال الطبيعة أمامها. فهي وُلِدت في هذا المنزل وترعرعت فيه، واعتادت عيناها على المنظر الذي تطل عليه غرفتها. فقط صديقاتها كن لا يكففن عن الهتاف مبهورات بالمنظر الجميل:

ـ أيتها الباغية.. غرفتك تطل على الترعة!!

وكانت تكتفي بابتسمة عريضة، وتعلق مباهية:

ـ ما قبل الترعة ملك لنا اشتراه أبي من ماله الخاص.

وكانت غالباً ما تلمح ومضة حسد في أعين صديقاتها، فمتتلكات أبيها ستكفل لها زوجاً ثرياً يوفر لها متطلبات الحياة كما تشتهي كل فتاة في مثل سنها اليانعة.

لم تتجاوز الثالثة والعشرين وقد تقدم لخطبتها العديد من أبناء أصدقاء والدها، وكان يرفضهم الواحد تلو الآخر بدعوى أنهم لا ينتمون إلى بطن القبيلة التي تنتمي إليها. فهي إبنته الوحيدة وكان قد عزم منذ أمد بعيد أنه لن يزوجها إلا لمن توفرت فيه هذه الخصلة بالدرجة الأولى. ولم تبالِ هي قط لأنها كانت على يقين أن والديها لن يفرطا بها, وسيختاران لها الزوج الأمثل الذي ستسعد معه. ولكنها أخذت من والدها عهدا أنه لن يزوجها قبل أن تتخرج كطبيبة. وكان لها ما رغبت.

في مقابل ذلك حرصت هي على أمرين. الأول أن تحافظ على سمعة عائلتها الطيبة, فاستنكفت عن لهو الفتيات عندما كانت ما تدرس في الثانوية. فلم تصاحب أحداً ولم تخرج برفقة شاب قط. وفي الجامعة جاهدت نزوات البنات الجامعيات ,فنأت بنفسها عن نشاطات الطلاب وما يرافق ذلك من حفلات صاخبة وسوء تصرفات.
والأمر الثاني الذي أصبح هوساً لها هو الإجتهاد في دراستها والحصول على علامات الإمتياز في كل مادة من مواد دراستها إرضاءً لوالديها وإثارة لإعجاب أقربائها وقرنائها.

كان كل شيء في حياتها يسير بصورة بديعة رغم الوحدة التي كانت تعاني منها أحيانا والملل الذي ينهكها في أيام العطلً. ولكنها لم تتمنَ شيئاً قط حتى تعرفت عليه مصادفة.
كانت في السنة الرابعة من دراستها. وصادف في ذلك اليوم أن كان عليها نوبة في قسم الطوارئ في مستشفى الجامعة. كان الوقت ليلاً ولم يستقبل القسم سوى حالة واحدة بسيطة عالجتها الممرضات تحت إشرافها.

كان قد بقي على نوبتها ساعتين,وبدأ الضجر يتسلل إليها. طلبت رقم إحدى صديقاتها من هاتفها النقال,وثرثرت معها لربع ساعة. بعد ذلك لم تدرِ ما تفعل لتطرد الملل. تردد قليلاً, ثم دخلت إحدى غرف الدردشة التي توفرها شركة الهاتف. إنتظرت قليلاً تراقب سيل الرسائل,ثم دخلت في دردشة مع أحد المشتركين. أعجبها أدبه, فاستمرت بالدردشة معه. ولكنها بعد لحظات انتبهت أنه يكتب إليها بالإنجليزية رغم أنها تكتب إليه بلغتها. علقت على ذلك,فأخبرها أنه لا يجيد الكتابة باللغة المحلية رغم أنه يجيدها قراءةً ومخاطبة,فهو أجنبي جاء للدراسة في بلدها. فبدأت تساله عن بلده وأحوالها حتى انتهت نوبتها. وفي نهاية الدردشة إرسل إليها رقمه الخاص في حال رغبت أن تدردش معه مرة اخرى. حفظت رقمه في مفكرة هاتفها, وشكرته على دردشته الممتعة.

في اليوم التالي اتصلت برقمه من هاتف عمومي من باب الفضول لتتاكد من حقيقة هويته فرد عليها بلغتها ولكن بلكنة أجنبية ثقيلة، فأدركت أنه لم يكذب عليها بالأمس، وانه ليس واحدا من الشبان المحليين يتصنع أنه وأجنبي للإيقاع بها.

مرت أيام وانشغلت بامتحاناتها الدورية. ولكن بعد الإمتحانات عاد الملل يستولي عليها من جديد. فكرت به، وخلصت أنه لا ضير من التواصل معه لطرد الملل. فهو من بلد آخر، ويعيش في مدينة أخرى ولا يعرف هويتها ولذلك لا يمكن له أن يتسبب لها بأي ضرر. فأرسلت إليه رسالة هاتفية تذكره بنفسها، فرد عليها. وتواصلا لأيام كل ليلة. فأخبرها أنه أيضا يشعر بالضجر ولذلك يرتاد غرف الدردشة.

أخبرها الكثير عن نفسه، وأجاب بإفاضةعن جميع أسئلتها. ولكنها لم تبادله ذلك في البداية، فكانت تجيب باقتضاب عندما يسألها عن نفسها، أو تعرض عن الإجابة كلية.. فقال لها أنه يتفهم موقفها،ولكن عليها أن تفهم أنه لا يوجد عنده مارب إلا أن يكونا أصدقاء. فاستشاطت غضبا وأغلظت له بالقول أن لا يتخيل أبدا أن تصبح صديقته، فهي في غنى عن السمعة السيئة.. وقاطعته لأيام.
ثم حلت عليها الإجازة الفصلية، وذهبت برفقة والدتها إلى مسقط رأسها في الريف. ومن هناك عاودت الإتصال به، فهي رغم أنها كانت برفقة أقاربها غير أنها شعرت بالإكتئاب والوحدة.

بادرها بالسؤال عن سر مقاطعتها له، فصارحته أنها لا ترغب بصديق بالمفهوم الدارج،وإنما ترغب به كاخ لها.. فضحك منها، وأخبرها أنه إنما قصد ذلك فهو له صديقة يحبها ويزمع الإقتران بها بعد عودته إلى بلده.. ولا يمكن أن يفكر بإقامة علا قة عاطفية مع أخرى..

بعد ذلك اطمأنت نفسها إليه وصارت تثق به, وبدأت تنفتح اتجاهه, وتفيض بالحديث عن نفسها. شكت له الوحدة التي تعاني منها منذ صغرها، ونمط حياتها الذي تتبعه لإرضاء والديها. فكانت تجد لديه أذنا صاغية لسماع شكواها ومشاكلها. وكان بدوره يجود عليها بمقترحات يمكن أن تساعدها بالخروج من القوقعة التي حبست فيها نفسها دون أن تسيء إلى سمعتها..

عملت بالقليل من مقترحاته.. ولكن بعد شهور من دردشاتها معه بدأ التبدل يظهر عليها وعلى سلوكها في محيطها الإجتماعي. بدا انشراحها واضحا للجميع حولها بعد أن كانت متجهمة دائما. وازدادت ثقتها بنفسها بعد أن كانت تتردد حتى في انتقاء لون ثوبها. وصارت تهتم كثيرا بمظهرها الخارجي، وتتانق على غير عادتها.. فشاع في وسطها الجامعي أن " الاميرة الباغية " عاشقة. فطار صواب بضعة شبان كانوا يتهافتون لخطب ودها، وكانت تصدهم بجفاء بالغ.. وحاول كل واحد منهم أن يعرف من هو منافسه الذي حظي بقلبها. وفي نهاية المطاف تبجح بعضهم أنه هو الذي استطاع أن يملك فؤادها. ولجّت صديقاتها المقربات منها حتى يعرفن من هو صاحب الحظ السعيد. فضحكت منهن وأصرت أنه لا يوجد لأحد مكاناً في حياتها، فعواطفها محبوسة في قمقم للزوج الذي سيختاره لها والديها.

وأما أمها ففاتحتها ذات يوم بالأمر, وتوسلت اليها أن لا تجعل ثقة والديها بها تهتز.. فصارحت أمّها:

ـ إنه مجرد أخ يواسيني ولا يبخل علي بمشورته.

ودمعت عينيها وهي تقول لأمها:

ـ لو تعرفينه يا أمي كما أعرفه لوددت أنه لو كان إبنا لك بدل أخوتي بالجملة..

ـ يا ابنتي لا نريد لأحد أن يتسكع من أجلك أمام بوابة الجامعة أو أمام منزلنا.. تعرفين.. الناس لن ترحم سمعتك..

فحدثت أمها عنه،فاطمأنت قليلا. وطلبت منها أمّها أن تخابره أمامها، ففعلت. وتوسلت بأمها أن تتكلم إليه، ففعلت أمها..

وأما في الجامعة فاستدعاها ذات يوم عميد كلية الطب إلى مكتبه. ولما دخلت عليه وجدت عنده مدرس مادة علم النفس. وكانت تبغضه كثيرا لتعاليه.
استهل العميد حديثه معها بالثناء عليها مشيرا إلى التقدم المدهش الذي أحرزته في دراستها خلال الشهور الأخيرة لدرجة أن مدرسيها في حيرة إن كانوا لا يخلون بشرفهم المهني لأنهم لا يمنحونها علامات أكثر من المسموح به في لوائح الجامعة..

وتابع حديثه يقول لها بوقار:

ـ لذلك استدعيتك إلى مكتبي اليوم.. ففي العام المنصرم منحتك الجامعة وسام الطالبة المثالية بتزكية الطلاب.. وهذا العام أوصى مدرسيك جميعا أن ترفع كليتنا توصية إلى مجلس أمناء الجامعة لمنحك وسام الشرف لهذا العام تكريما لك لتفوقك في دراستك.. ولكن...

وصمت عميد الكلية..

كان الخبر مفاجأة سارة لها، وكانت على يقين أن والديها سيطيران من الفرح عندما تزفه لهما. فقالت
له بحماس كبير:

ـ هذا شرف عظيم لي سيدي العميد..

ـ و لكن..

وصمت من جديد. ثم قال لها وهو ينظر إلى كفيه:

ـ لكن.. أنت تدركين أن الكلية لا ترغب أن تلوث فضيحة من أي نوع حاملة لهذا الشرف.

وقع كلامه عليها وقع الصاعقة، فتلعثمت تقول:

ـ سيدي.. أي.. عن أي فضيحة تتحدث..؟؟

ـ الكلام الذي يدور بين الطلاب في الجامعة وصل إلى مسمعي.. على الأقل هناك عشرة فتيان يزعمون أنك على علاقة غرامية بهم.

تمالكت غضبها، وقالت له بهدوء بالغ:

ـ هذا هراء.. وخيال فتية طائشين..

هنا تدخل مدرس مادة علم النفس في الحديث، وكان يراقبها عن كثب أثناء حديث عميد الكلية. فقال لها بهدوء:

ـ أنظري إليّ "نورين".. أعرفك منذ سنتين.. وأنا مدرسك لهذا العام فقط. تفوقك الباهر أثار انتباهي من قبل وعزوت ذلك إلى رغبتك الجامحة وتفانيك في نيل رضاء والدك خاصة.ولكن أعذريني للقول أن اجتهادك الذي يفوق التصور مؤخرا، والتبدل الرائع الذي نلمسه فيك جميعاً, كل هذا يشير إلى أنك مغرمة بشخص ما..

فغرت " نورين" فاها غير مصدقة ما سمعته من بروفسور في علم النفس، فقالت له بصوت مبحوح، وهي تقاوم انهمار دموعها:

ـ سيدي.. أنا أحتج.. أنت تهين بي..

فسارع يهدئ من روعها، وهو يقول:

ـ نورين.. هذه حياتك الخاصة.. الذي يشغل بال السيد العميد أن لا تنال فضيحة حاملة للوسام...

لم تدعه يكمل كلامه، فهي لم تعد تطيق سماع كلام هذين الأحمقين. ولم تعد عندها القدرة على حبس دموعها، فليذهب وسامهما للجحيم.. فسارعت تنهض من مقعدها وهمت بمغادرة الغرفة، وهي تقول:

ـ أنتما تبالغان بالإساءة إلي.. سأبلغ والدي بهذا الهراء.

وثب السيد العميد من مقعده بوقاره وأعوامه الستين ليعيدها إلى مقعدها، وهو يقول:

ـ نورين ابنتي.. أجلسي يا عزيزتي.. لن تخبري والدك بشيء.

فوالدها كان عميد شرطة المدينة.

وسارع مدرس علم النفس يطيب خاطرها:

ـ أنت أبرع طالبة عرفت في حياتي. سامحيني يا عزيزتي إن أخطأت بكلامي معك...

تملكت نورين أعصابها، وهدأت قليلا. فردت عليه بأدب جم قائلة:

ـ لا يا سيدي.. أنا آسفة.. سامحني.. أنت مدرسي، وصاحب فضل علي.

تبادل العميد والمدرس نظرة،ثم أومأ العميد إلى المدرس، فقال لها الأخير مستأذنا:

ـ نورين.. سؤال واحد.. وحديثنا يبقى طي الكتمان.

ـ تفضل سيدي.

تردد المدرس لحظة، ثم سألها يقول وهو يراقبها عن كثب:

ـ لست على علاقة غرامية بأحد.. هل هذا صحيح.

ـ لا سيدي.. غرامي الأول هو دراستي.

ولم يلحظ مدرسها أي تغير في حركات جسمها، فأومأ إلى العميد الذي ابتسم وهو يخاطبها:

ـ نورين.. عزيزتي.. يسرني أن أخبرك من الآن أني سأرفع توصيتي إلى مجلس أمناء الجامعة لمنحك الوسام الذي تستحقينه.. يمكنك الإنصراف الآن.

شكرته، ونهضت خارجة. ولما وصلت إلى باب المكتب سمعت مدرس علم النفس يفرقع أصبعيه ويهمس بحماس لعميد الكلية: " إنه الحب الخفي "...

الحب الخفي.. هذا الأخرق!!

رجعت ذلك اليوم إلى منزلها باكراً، وحبست نفسها في غرفتها. وفي المساء آثرت أن لا تخبر والديها بالنبأ السار حتى يكون منح الوسام لها مفاجأة لهما. وأرسلت إليه ليلاً رسالة هاتفية أنها متعبة، فتمنى لها أحلاماً سعيدة. ولكنها بقيت مؤرقة تتقلب في فراشها وهي تفكر بما قاله مدرس مادة علم النفس عن الحب الخفي..

في اليوم التالي استيقظت متأخرة من نومها، فقد كان يوم عطلة. وبعد أن تناولت طعام فطورها أغلقت على نفسها باب غرفتها ، وأرسلت إليه رسالة هاتفية تطلب منه أن يتفرغ لمحاورة طويلة معها..

سألته عن معنى عبارة سمعتها مؤخراً من أحد مقدمي برامج التلفزيون عن "الحب الحقيقي" و "الحب المجازي". وتدرجت معه في الحديث عن الحب والغرام، فتشعب معها يفرق لها بين الحب والمحبة، وبين العشق والتيم والغرام..

ـ أسالك عن الحب العذري..

ومضى وقت ولم يجبها.. فكررت عليه السؤال.

فجاءها جوابه في صيغة سؤال مرفقاً بابتسامة:

ـ هل دخلت نادي العشاق؟؟

إحمرت وجنتاها خجلاً، وألحت عليه أن يجيبها:

ـ لا.. فقط أَجٍبني.

فأخبرها..

ـ وماذا عن الحب الخفي؟

فسارع يجيبها:

ـ هذا برأيي من هرطقات بعض علماء النفس.

ـ إذا لا حقيقة له؟؟

ـ لا يوجد دخان من دون نار.. فيه شيء من الحقيقة بالتأكيد.

ـ وكيف يكون ذلك؟؟

ـ أنت طبيبة تعرفين المرض من العوارض التي يشكو منها المريض.

ـ وهل الحب مرض؟؟

ـ فقط أردت أعطيك مثالاً.

ـ فقط أخبرني..!!

ـ المريض يشكو من العوارض رغم أنه يعاني المرض.. يقولون في الحب الخفي تظهر جميع علامات الحب على الشخص ولكنه لا يدري أنه مغرم بشخص آخر.

وقص عليها لطيفة طبيب نفساني كان يعالج امرأة هجرها حبيبها وهي ما زالت مغرمة به. وبعد عدة جلسات معها أُغرم بها الطبيب، فاضطر بعد فترة أن يذهب إلى طبيب نفساني آخر يشكو له من نفس العوارض التي كانت تشكو منها تلك المرأة..

هكذا كانت عادته معها لإنهاء الحديث، فتبقى الإبتسامة لا تفارق وجهها.

مرت سنة على تعارفهما ولم يلتقيا. ولم تر حتى صورته. ولم يطلب هو منها صورتها، فقد ألمحت أليه أنه ليس من عادة فتيات بلدها تبادل الصور مع الشبان. واعتذر هو إليها عندما طلبت منه صورة له متعللاً أن مذهبه الديني لا يجيز له التقاط الصور إلا لضرورة قصوى. ولكنه وعدها أن يلتقي بها مرة واحدة على الأقل قبل سفره.

وحان موعد امتحاناته النهائية، وانشغل عنها في فترة الإمتحانات. ولاحظت أمها تململها وأرقها. وبدأت تتصرف بعصبية طفولية، وتعرب عن امتعاضها من كل شيء. وصارت تزجر الخادمات في المنزل، وتصيح بهن لأتفه الأسباب. ولكنها سرعان ما رجعت إلى سابق عهدها بعد أن انقضت فترة إمتحاناته، ودأب من جديد على مراسلتها ومخابرتها بانتظام بينما ينتظر نتيجة امتحاناته، وقبل أن يبدأ استعدادات سفره عائداً إلى وطنه.

بعد أسابيع أُعلنت نتائج امتحاناته، ونجح بعلامات جيدة، فشاركته فرحته، ولكنها شعرت بغصة كبيرة لأن سفره قد بات حتمياً الآن.
أخبرها أنه سيسافر إلى مدينتها قبل يومين من سفره، وتواعدا على مكان لقائهما. وفي يوم اللقاء تأنقت بملابس أبرزت براءتها، واستقبلها هو بابتسامة عريضة وصفرة إعجاب، وهو يقول:

ـ أخيراً أرى الأميرة الأسيرة في حصن منيف.. تبدين رائعة!!

تبسمت. وقالت له وهي تجلس في مقعدها:

ـ الأجساد مجرد أكسية نرتديها أو هي ترتدينا.. حقائقنا في دواخلنا.. ألست من قال لي ذلك مراراً..
حتى في حضور شخصه كان عفويأً ومرحاً.

ـ إن لم أتغزل بك فمن سيفعل ذلك وأنت محبوسة في قلعة أبيك..!!

تناولا العصائر. وتجاذبا أطراف الحديث لساعتين. ولدى نهاية اللقاء لاحظ الدموع تغزو عينيها. فقال لها مواسياً:

ـ سأبقى على اتصال بك.. فنحن أكثر من أصدقاء.

ـ لكن بعد أن تتزوج لن تقبل زوجتك بوجودي في حياتك.

ـ بالتأكيد سترضى إن كانت واثقة من حبي لها.

أطرقت قليلاً، ثم قالت له بحزن شديد:

ـ بعد سفرك سأرجع بنصفي إلى تابوت الوحدة من جديد.

ولم تجاهد دموعها،فبللت وجنتيها. وبقيا ينظران إلى بعضهما لوقت طويل. كان الحزن يموج في عينيها، والدهشة تتلاطم في عينيه. وأخيراً همس يقول بأسى:

ـ يا إلهي ماذا فعلتُ!!ً

تصنعت ابتسامة, وقالت له مواسية:

ـ أنت لم توحِ لي بشيء.

كانت ما تزال واقفة أمام النافذة عندما دخلت عليها أمها. وعلى غير عادتها لم تستدر لتحيتها، فتقدمت أمها نحوها، ووقفت خلفها.

ـ جئت لأخبرك أن والدك رفض عرضاً جديداً لزواجك بدعوى أنك لم تكملي دراستك بعد.

أظهرت أمها استغرابها لما رأت استنكافها عن الإجابة. وعلقت تقول:

ـ في الماضي كنت تغتبطين لمثل هذا الخبر.

ـ أمي.. ربما ما كان تقدم لخطبتي أحدٌ لو أن ما قبل الترعة ليس ملكاً لنا.

صمتت أمها, ثم باغتتها تقول:

ـ كان ظريفا ومثقفاً.. وخلوقاً جداً.. فقط لو كان من بلدنا ومن بطن قبيلتنا..

فاستدارت تنظر في وجه أمها. كان على ثغرأمها ابتسامة ويشوب عينيها أسى, فقالت لها بعناد بالغ:

ـ أمي.. سأحبه ما دام بي رمق..!!

ـ هل أعلمتيه بذلك؟

ـ نعم..

وانهمرت دموعها. فاحتضنتها أمها تواسيها, وقالت تهمس لها:

ـ على الأقل يا ابنتي عرفتِ الحب.. أنا لم أعرفه طيلة حياتي.. لم أعرفه مع أبيك طيلة ثلاثين عاماً.

وقبلتها على جبينها, وأردفت تقول:

ـ كان يبدو لي كالأشباح الجميلة.. الناس يتحدثون عنه ولا أراه..

فابتسمت من كلام أمها. وكانت هذه أول مرة تبتسم فيها لأسابيع منذ أن سافر. وقالت لأمها:

ـ إذاً سيبقى قلبي معموراً بشبح جميل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى