الأحد ٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم توفيق الحاج

في حضرة التاريخ

في انتظار الحافلة..تركت قدماي تقوداني في غزة المنهكة الباهتة، حيث لم يعد أحد خاصة قبل التهدئة أو بعدها يأبه لأحد.. فالحال لم يتغير كما توقع أهل الكشف والفطنة، وكل شيء بات ممكنا، وصار الإنسان أرخص السلع، والموت أصبح التجارة الرائجة، بل وثيقة السفر السهلة والمضمون الحصول عليها مع وعود الرضا القاطعة من جهابذة التجار للغلابة بالوصول سالمين آمنين إلى الحور العين أو بوعيد الغضا وصولا ترانزيت إلى جهنم وبئس المصير..!!

وجدتني أتجه إلى "المكتبة الهاشمية "،وقد ظننت أنها أغلقت منذ زمن..فقد غادرتنا الثقافة غير آسفة، وانزوى المثقفون كعير جربى، وأصبح الكتاب في خضم تخلف الكتب الصفراء وتخاريف الأحجبة و"شمهورش" و"أبو رجل مسلوخة "غريبا في يد غريبة..!! يثير عاصفة من الضحك والاستهجان..!!

مقابل ذلك طرأت علينا ثقافة جديدة للموبايلات والمسجات والسيديهات والام بي ثري وأدب الفضائيات من أغنيات ومسلسلات تفتح الطريق للشباب المؤمن لكي يؤمن عشقا سريعا بالجوالات على طريقة خذ وهات..؟!!..

تذكرت وأنا أقترب من هدفي أن مسلسل "نور " التركي الناعم المفلتر والمدبلج يحقق أعلى نسبة مشاهدة في غزة بفضل رعاية فضائية سعودية تقية..!!، وان أهل غزة باتوا يعرفون كل شيء عن الحسناء نور والدون جوان الاشقر "مهند" بينما هم لا يعرفون اسم وزيرة الثقافة في حكومة تسيير الأعمال أو أسم وزير الثقافة في الحكومة المقالة..!!

وتذكرت بما يؤكد أصالة هذا الزمن الذي نعيش.. أن الراقصة" فيفي عبده" في عزها قبل سنوات كانت تأخذ في هزة الوسط الواحدة ما يعادل رواتب جميع اساتذة القاهرة وعين شمس..!!

وصلت إلى المكتبة فوجدتها للمفاجأة السارة على قيد الحياة ودلفت إلى الداخل لفحتني رائحة الكتب فعانقتها كحبيبة لم أرها منذ خمس عشرة سنة..

نظرت.وتأملت مكان "الصالون" الخاص بنخبة من مثقفي غزة وأعلامها أمثال المرحوم د.حيدر عبد الشافي وأخيه مصطفى..و حي الذكر أ. فريد أبو وردة والصحفي محمد آل رضوان رحمه الله.
استغرب العامل..وظنني مجنونا..فابتعد عني قليلا..

سألته عن كتاب للدكتور رفعت السعيد.. فبقي فاغرا فاه.. بعد لحظات أنس لي واقترب..!!

رأيته.عرفت فيه صاحب المكتبة..دعاني إلى فنجان قهوة بعد أن أطمأن إلى كوني كاتبا..
تأملته عن قرب هذه المرة.. تاريخ متحرك يلبس بذلته الأربعينية الأنيقة ولا يزال يحافظ على برستيجه الأخاذ كالممثل القدير خالد الذكر حسين رياض

تركته يتحدث.. لم أقاطعه..لأني أعشق التاريخ بمثل ما أكره الجغرافيا..
في لحظة انجررنا إلى نقاش الساعة..وجدته يهاجم ما قبل..!! ووجدتني لا أبرىء ما بعد..!! واتفقنا بسرعة على أن لا خير في كليهما..!!

أعجبني في الرجل انه لا يزال تحت غبار الزمن يحافظ على لياقته الفكرية وذكائه الفطري كصحفي قديم..!!

في غمرة الحديث أخرج ملفا وفتحه بعناية كمن يفتح البوم ذكريات حب "بين الأطلال".. وإذا بي أمام صور نادرة له برفقة جمال عبد الناصر..كمال الدين حسين..على ماهر..الحاكم الإداري لقطاع غزة.. الخ الخ

صور أخرى نادرة للمرحوم والده..تحكي عن حقبة مطموسة من تاريخ غزة،كانت أخر الصور مع الرمز الراحل ياسر عرفات..!!

بادرته بسؤال عفوي..والباقي..؟!!

قالت عيناه وبلغة السهل الممتنع:كلهم عابرون في أحداث عابرة..!!

سألته إن كان فكر في نشر مذكراته..!!

ابتسم بمرارة وهمس بصوت منهك: ومن يهتم..؟!!

لقد أجرت إحدى الفضائيات المشهورة معي لقاء.. و......

أكملت نيابة عنه: وحلقت..!!

أدركني الوقت..شكرت تاريخا حيا ونابضا اسمه "خميس أبو شعبان"

ودعته فوضع في يدي قصيدة كتبها شاعر مطبوع يصف فيها رفاقه في صالون النخبة تحت سقف الهاشمية وقد بلغت من عمرها ما يزيد عن 45 عاما

خرجت..وعبارته الأخيرة "من يهتم..؟!! ترن في أذني

نعم وهل لذكريات أقدم صحفي في غزة أدنى قيمة مقارنة بأخر أخبار فساتين السهرة وموضات الصيف ومباريات بطولة أوروبا ومسلسل المناكفة المستمر بين الملاكمين "سمعة "وعبس".!!

لقد تغيرت المعايير..فالزمن زمن هيفا.. وليس زمن أم المؤمنين..!!

ملأت الغصة قلبي وفاضت ضحكة هستيرية لم استطع كبحها والمارة من حولي ينظرون ويشيرون إلي إشارات ذات معنى ويقولون "لا حول ولا قوة إلا بالله "

ركبت الحافلة التي كنت انتظرها..

تلقفني صديقي: وووووين كنت..؟!!

رددت بتلقائية:مع التاريخ..

ضحك صديقي.. وقال:أكيد شارب حاجة..!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى