الجمعة ١١ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

الجوز الفارغ

مؤخراً فهمت كل الحكاية، وفهمت سبب التخريب، الذي تكرر حدوثه في حديقة السيد بريكي، ففي كل مرة يطلب مني زراعة مجموعة جديدة من النباتات في حديقة منزله، بهدف تطويرها، أقوم بتنفيذ المطلوب، وبعد عدة أيام، تكون النباتات والأزهار قد زرعت، والتطوير قد حصل، وثمن الأعمال والمزروعات قد سدد، من قبل رجل الأعمال الكبير السيد نزار بريكي.

ولكن تخريب النباتات الذي كان يفاجئني،وتكرُّر حدوثه في الحديقة، كان مدهشاً وغير مبرر، بل ومستهجناً، إذا قلت لك بصراحة وعلناً : إن السيدة بريكي كانت هي السبب وراء كل ما يحدث. كنت بالغريزة أراقب نباتاتي التي أزرعها في كل مكان، فأكرر زياراتي إلى الحدائق التي أزورها بين حين وآخر. والغريب في تصرف السيدة بريكي، أنها كانت وبعد أن أغادر الحديقة، وأقبض ثمن المزروعات من زوجها، تقوم باقتلاع النباتات الجديدة الجميلة، وقذفها خارج السور لتموت.

طبعاً ستقول لي : " هذا إجراء غير منطقي، وغير مبرر!" وأنا أشاركك الرأي، فلقد فكرت في الأمر كثيراً، ولم أفهم السبب. وتكرر الأمر في مناسبة أخرى، فبعد أن زرعت نباتات وأزهاراً نادرة وملونة، بناءً على طلب السيد نزار، ظهر رونق جديد للحديقة، وأشرقت فيها لمسات فنية جميلة. ولكن أثناء زيارتي اللاحقة، شعرت بغيظ وصدمة، لمشاهدتي فراغات أماكن معظم النباتات التي زرعتها حديثاً. لقد اختفت من الحديقة! غضبت واضطررت أن اسأل السيدة بريكي التي كانت تقبع في البيت، ولم أتعود أن أراجعها، أو أتحدث معها قبل هذا الحادث. قلت لها وكأنني ضابط تحقيق هذه المرّة: " من الذي خلع النباتات التي زرعتها؟" فقالت مبتسمة دون اكتراث!:" أنا التي خلعتها."

" لماذا؟ هل كانت غير لائقة ؟"

" بل على العكس، كانت ملونة وجميلة."

" إذن كيف حدث أن خلعتها ؟" فأجابت متبرمة بأسئلتي:

" مزاج ! هكذا حدثني عقلي!" قلت:" لا أفهم! كيف حدثك عقلك أن تخلعي نباتات، أنت تقولين إنها جميلة !" فاستدارت في وقفتها قائلة :

" أنا حرة ! ألم تقبض ثمنها؟"

" الثمن ليس هو القضية، بل معنوياتي هي التي في الميزان!"

كانت السيدة بريكي في الخمسين من عمرها، طويلة القامة بدينة الجسم، قليلة الحركة، شعرها قصير ممشط دون اكتراث، ونادراً ما تظهر في الحديقة، وإذا ظهرت وتحدثت، فهي تتحدث بأسلوب فوقي، وكأنها غير معجبة بأي شيء حولها، تتحرك حولها خادمة سيريلانكية قصيرة القامة، سمراء البشرة، شديدة الإخلاص، ولكنَّ السيدة بريكي لا تلتفت لإخلاصها. تضع يديها في جيبيها وهي تتحدث، وبينما هي تحرك رأسها يميناً ويساراً، أعادت جملتها السابقة : "أنا حرة !"

" ولكن رغبة السيد نزار..!" فاستشرت قائلة:" رغبة السيد نزار! أنت قلتها بنفسك. السيد نزار! السيد نزار! أنا سأنفجر من نزارك هذا! أنت سألت بصراحة، وأنا أجيبك بصراحة، فأنا خلعت النباتات والأزهار لسبب واحد فقط."

ما هو هذا السبب ؟ لقد أثرت فضولي !"

" كي يسألني زوجي لماذا خلعتها؟ لكنه لسوء حظي، يتجاهلني تجاهلاً تاماً، ويكتفى بأن يسدد ثمنها، ولم يسألني ولو مرّة واحدة:

 أين ذهبت الأزهار ومن أتلفها؟ أنا أتلفت الأزهار يا خليل، كي أسمع ولو صوتاً واحداً ؛ سواء كان موافقاً، أو معترضاً، ساخطاً، أو معجباً، أي شخص، حتى لو كان غير نزار بريكي! كي أسمع مناقشة! أسمع حديثاً في هذا البيت، وها أنت تسألني من خلع الأزهار؟ على أقل تقدير نجحت الخطة ! ها أنا على الأقل أجد أحداً يسألني، يتحدث معي، ويبادلني الحديث، يستفسر، يناقش! تصور لو كنت خزانة في غرفة، أو درجاً في مكتب، لوجدت من يفتحني، أو يحركني، أو يمسح الغبار عن أضلعي، لكنني مبعدة مستبعدة في داخل برجي العاجي. ليس لي وجود داخل كيان نزار بريكي! الحديث في بيتنا لا يزيد على كلمة صباح الخير، أو مساء الخير في أحسن الأحوال. يأتي نزارك هذا ؛ أشهر تاجر في البلد، فتحضر لـه الخادم الغداء، ولا يكلف نفسه أن يناديني من الطابق الثاني، حيث أكون في غرفة النوم، أو على شرفة المنزل، أُراقب دخوله من بعيد. يأكل وينام في غرفته الخاصة. لقد استقل عني في غرفة منفردة، بحجة إنه يريد أن يستمتع بالهدوء وينعم بالموسيقى ويخلد إلى النوم. إنه متعب. يأتي من السوق وفد أنهكه العمل، متعباً، غاضبا،ً مشدود الأعصاب، عصبي المزاج!"

كنت وأنا أسمعها، أتخيل السيد نزار الذي كان كثيراً ما يحدثني عن نفسه فيقول : "أصبحت أعمالي معقدة يا خليل. والسعادة لا وجود لـها في قاموسي العملي، فإذا سعدت اليوم بزيادة أرباحي من شحنة بضاعتي التي وصلت بالطائرة، فإنني في نفس اللحظة، أشعر بالتعاسة، لخسارتي من شحنة الباخرة المحجوزة في أعالي البحار، بسبب أوامر الحصار على بؤرة التوتر في الصراعات النفطية! هم يتقاتلون، ونحن نتضرر! لا أفهم ما علاقتنا نحن بالحرب! هم يتحاربون، بينما بضاعتنا ونقودنا تحتجز! مأساة ! الحرب مأساة ياخليل ؛ ونحن أكبر المظلومين فيها!"

قلّمت وردة كانت قد جفت على غصنها، ثم قلت له :" وقد تكونون أكبر الرابحين في الحرب.ألا يقولون: أغنياء حرب ؟" فابتسم وقال ساخراً:

" هذا أنت تفهم في غنى الحرب يا فلاّح خليل! ولكن هذا لمن يربح، وأما من يخسر، فإنه يُدمَّر، وقد يفقد حياته بطلقة تنزلق صدفة !"

السيد نزار براكلي متوسط الطول، ممتلئ الجسم، في الخمسينات من عمره أيضاً، رقبته قصيرة غليظة، تحمل رأساً كبيراً، كث الشعر، لونه قمحي، وعيناه عسليتان، فيهما تحدٍّ وقوة، كثير الحركة، مرتفع الصوت، قليلاً ما يتحدث، وإذا تحدث، فلكل كلمة معنى ومطلب ومدلول، لا ينطق كلمة واحدة، إلا إذا قصد منها توصيل معلومة. بخيل في مدفوعاته، ولكنه يسدد فواتيره بحذر شديد، وبعد تدقيق عميق.. قلت لـه :

" يا رجل أنت تملك بيتاً جميلاً وحديقة ساحرة غناء، فاستمتع بهما!"

فقال وهو يركب سيارته المرسيدس 500:

" بيت وحديقة! هه! تأكد يا خليل أنك أنت البستاني الذي تستمتع بهذه الحديقة، وأنت الذي ترى جمالية هذا البيت، أما أنا فلا أرى منهما شيئاً، ذلك لأنني عندما أدخل البيت، أكون كالثور المنهك الجائع، أدخل المطبخ، فألتهم الطعام الذي تعده الخادمة، وأرتمي على سرير غرفتي، لأرتاح في فترة استراحة المصارعة. فترة الغداء عندي هي فترة استراحة المحارب. أنا فقط أصل إلى البيت، لأرتاح من صراع السوق، وأنام مفكراً في نتائج الصراع السابق، وأنقبض في سريري مفكراً بالاستعداد للجولة القادمة! أنا رجل مرموق في السوق، وأريد أن أكون نجماً، وأن أكون قيادياً في عالم التجارة. أخاف الخسارة، كي لا يشمت بي منافسو مهنتي، وأطمع بالربح حتى أحقق طموحي، وأسيطر على الآخرين في السوق! أريد أن أحطمهم، قبل أن يحطموني. إنه صراع مرير ولذيذ! لا يدركه إلا من دخل حلبة هذا الصراع القاسي الممتع."

لا أعرف لماذا يقول لي كل هذا! قد لا يجد في السوق من يُسر له أحاسيسه وأفكاره هذه من منافسيه، فيقولها لواحد بستاني على باب الله، مثلي.. قعد على كرسي، ودعاني لسحب كرسي حديقة آخر، والجلوس عليه، ثم استمر في حديه قائلاً :

" قال لي عمي وأنا شاب يافع: (إن لذة الأرباح تفوق لذة النكاح.) وأنا أشعر الآن، أن متعة الربح في تجارتي، تفوق كل المتع واللذات التي يشعر بها الآخرون ! متعة النجاح والسيطرة على السوق، وأن يختم لك الآخرون، بأنك سيد السوق، وأن يرضخوا لك، وأن يسمعوا كلامك، وأن يقولوا لك (يا سيدنا ). هذه المتعة لا يفهمها عامة الناس، ولذلك أنا أعيش عالماً آخر، عالم لايفهمه إلا الذين أوتوا فرصة الإدارة، والتحكم برأس المال، والفرص النادرة."

انتبهت السيدة بريكي، الواقفة أمامي، وهي تقول لي : "يبدو أنك لا تسمعني أنت أيضاً!" فقلت معتذراً :"عفواً لقد سرحت قليلاً." فتابعت قولها: " باختصار نزار لم يعد لي، أصبح ملكاً لأمواله وثرواته، فأنا أراه مرة يضحك دون مبرر، ودون أن يرى أحداً أمامه، ومرة أراه مكشراً عن أسنانه، يائساً حزيناً، يكاد ينفجر من الغيظ. ربح. خسارة. خسارة. ربح. ربح. خسارة. خسارة. ربح. هذه هي لعبة نزار اليومية! أنا لا أسمع منه سوى التأفف! مشاكل العمل. مشاكل الجمارك. دراسة العطاء الفلاني. دراسة المناقصة الفلانية. لم يسألني نزار يوماً عن صحتي، فهو فقط يقول :(إذا كنت تريدين نقوداً، خذي.) لا يسألني أين أذهب، ولا أين أسهر، ولا مع من أسهر، ولا مع من أنام، أو أقوم، أو أقعد، فهذه مشاكل كلها لا تخص العمل..فأقول له صائحة:( هذه ليست حياة!) فيجيبني بكل نزق: إذا لم تعجبك هذه الحياة، فالباب يمرر جملاً! اذهبي إلى أهلك! ماذا تريد الزوجة من الزوج؟ أن تأكل وتشرب وتلبس وتحصل على سيارة وبيت وزوج ؟ فأقول له :

 فعلاً ترغب المرأة بهذه الأشياء، ولكن هذا الزوج، إذا قدم لها هذه الأشياء ضمن فراغ رهيب، فهو (زوج فارغ) إنني أُطعم ثمار الجوز الفارغ كل يوم، فتفتح نفسي، ويسيل لعابي، إنك جوز فارغ! وأنا لا أجد أحداً يحدثني في المنزل، كرهت الحديث مع الخادمة، أريد أن يحدثني زوجي، أنا اخترتك يا نزار لتكون زوجاً لي، ولكنك زوج مع وقف التنفيذ! كنت أعيش مع ابني وابنتي، أرسلهما إلى المدرسة، وأعود بهما من المدرسة، وأتابع دروسهما، وأناقش مشاكلهما، وأبحث قضاياهما، وأتقاتل معهما، واُحبهما، وألعب معهما، وأقبلهما، وأحتضنهما. كانت الدار مملوءة بهما، لم أكن ألتفت كثيراً لمعاناتي من انشغال زوجي.

كبر الطفلان يا خليل، فإذا بهما شابان يانعان، أطول مني، فذهبا إلى الجامعات الغربية، وهكذا انقطعت في فراغ قاتل داخل بيتي الجميل، الغرفة خاوية من ساكنيها. هذه غرفة نوم مفروشة ومؤثثة بأفخر المفروشات، ولكنها فارغة! والغرفة المجاورة مثلها فارغة، والغرفة الثالثة فارغة، وغرفة نزار فارغة أيضاً. أسير طوال النهار داخل ممرات البيت، في سراديب طويلة، أصرخ بملء صوتي، كي أسمع الصدى، فلا يرتد كي أسمعه! ذلك لأن البيت مفروش بالسجاد ذي الفرو الذي يمتص الأصوات، ويفرض الهدوء. تصور يا خليل، حتى صدى صوتي يبخل عليَّ بالرد! فتنهدت تنهيدة عميقة وقلت لها:

" لماذا لا تشغلي وقتك بالعمل، أو بزيارات صديقاتك مثلاً؟" فقالت ودموعها تسيل على خدها:" حاولت أن أعمل، والعمل بالتأكيد يكون بداعي الحصول على النقد والراتب، وأنا أملك النقد، وما دمت أملك النقود، فلا أجد حافزاً للعمل والعناء والتعب.. حاولت العمل فلم أتحمل نكد المدير وعناء العمل، ولم تتحمل أعصابي تحكم الزبائن في إرادتي. (الزبون دائماً على حق، حتى لو استشر في وجهي داخل المؤسسة!) لو كنت بحاجة إلى النقود، لتحملت عناء العمل، ولكن لماذا أعمل؟ وإذا لم يدفع لي نزار، فستذهب نقوده سدىً، وسنكون حارسين، مجرد حارسين على نقودنا! سنموت وتبقى نقودنا للآخرين! لذلك أنا أفكر بالصرف وليس بالعمل..حاولت أن أزور بعض صديقاتي القديمات. وجدت صديقتي سارة مشغولة بالعمل، وغير متفرغة للزيارات. استقبلتني لفترة محدودة، ثمَّ أشعرتني بطريقة غير مباشرة أن الوقت قد انتهى، وأنها مشغولة بالعمل. زرت صديقة أخرى، كان أطفالها السبعة يصرخون حولها، هذه يقلب فنجان قهوتي، وهذا يلعب (الطماية) خلف ظهري، وهذا يرمي لعبته للسقف، لم تكن صديقتي سهير متفرغة لي، تكلمني كلمة، وهي مشدوهة بين أطفالها. نظرة لي، ونظرة إلى أطفالها. تقوم فتعمل لـهذا طعاماً، وتشرب ذاك الدواء، وهكذا لم أجد نفسي في هذا الجو. عدت إلى بيتي الذي من المفروض أن يكون سكوني وهدوئي، وسكنت وهدأت كثيراً، وصبرت أياماً وأشهراً وسنيناً على هذا الحال، وفي كل يوم أكتشف أنني أغرق في هذا الفراغ القاتل المدمر. اكتشفت أن بيتي الجميل لم يعد جميلاً، وحتى أزهارك التي تزرعها لي، لم تعد جميلة، والأكوام الترابية التي تضعها في الزاوية، وتزرع فوقها الأزهار، وتضع الصخور حولها، في حديقة تقول إنها صخرية، أراها قبوراً لأطفال صغار! أعيش وحدة حياتي قاتمةً، أفكر كثيراً بالموت، أكره الزهور، لأنها تزرع على المقابر، أنبش التكوينات الزهرية المضافة إلى جانب صخور الحدائق، لأنني أرى فيها أزهاراً توضع إلى جوار شواهد القبور، ولهذا أخلع أزهارك، ونباتاتك يا خليل. كرهت حياتي، ولكن أنا الآن ربما أكون سعيدة، لأنني وجدت شخصاً يشكو إلي مشكلته، فأبثهُ شكواي، وجدت شخصاً يملأ علي فراغي، تعال تفضل يا خليل، تعال نجلس.. تعال نشرب شيئاً."

أمسكتني المرأة من يدي وشدتني، ولكنني نظرت حولي، وتأثرت بالموقف، وتذكرت أنني تأخرت كثيراً عن زوجتي، حيث إنها لاتتناول الطعام، إلا برفقتي، فاستأذنت من السيدة بريكي، وعدت إلى البيت مسرعاً، حيث كان ابني عدنان، وابنتي قمر، وزوجتي سعاد، يلوحون لي بأيديهم مرحبين، وهم يقولون:

" تأخرت علينا. لقد برد الأكل وجعنا"

ونحن عادة لا نأكل إلا مجتمعين، فيأخذ كل منهم يشرح لي قصته ومشاكله، ونأكل ونحن نضحك، ونسمع النكات والمزاح، ونتقاتل ثمَّ نتصالح، ونلعب قليلاً، ثم أذهب أنا للنوم، ويذهب كل منهما إلى دروسه، وتندس زوجتي إلى مخدعها المجاور لجسدي، فننام في سكون هادئ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى