السبت ١٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

تـغـيـيـر مـسـار

بـعـد أن ضـاقـت الـسـبـل بـعـلـي واشـتـدت أزمـتـه الـمـالـيـة جـراء زيـادة نـفـقـاتـه بـدأ يـحـس بـثـقـل الـمـسـؤولـيـة الـمـلـقـاة عـلـى عـاتـقـه.قـد كـبـرت الـبـنـات ولـم يـعـد مـا يـحـصـل عـلـيـه مـن أجـرة هـزيـلـة كـافـيـا لإعـالـة أسـرتـه الـتـي بـدأت تـنـمـو بـشـكـل مـسـتـمـر فـي الـوقـت الـذي ظـل فـيـه راتـبـه كـمـا هـو ولـمـدة تـزيـد عـن عـشـر سـنـوات.

لـقـد انـتـظـر تـرقـيـتـه كـمـوظـف بـسـيـط بـالـبـريـد، لـكـن دون جـدوى فـي حـيـن حـصـل عـلـى الـتـرقـيـة شـبـان لـحـقـوا بـالـوظـيـفـة بـعـده بـسـنـوات عـدة ودون أن يـعـلـم لـذلك سـبـبـا. ومـع تـوالـي الـضـغـوط الـمـاديـة عـلـى كـاهـلـه بـدأت زيـاراتـه لـمـكـتـب رئـيـسـه تـتـوالـى مـتـسـائـلا مـسـتـفـسـرا عـن مـصـيـر وضـعـيـتـه، كـيـف يـتـسـلـق مـوظـفـون أصـغـر مـنـه سـنـا وأقـل خـبـرة وتـجـربـة بـل وكـفـاءة، الـسـلالـم والـدرجـات ويـبـقـى هـو قـابـعـا فـي نـفـس الـمـكـان كـأنـمـا كـتـب عـلـيـه أن يـبـقـى بـلا حـراك عـلـى خـلاف نـظـام الـكـون والـحـيـاة. كـانـت وسـيـلـتـه الـوحـيـدة هـي الـشـكـوى وكـتـابـة رسـائـل الاسـتـفـسـار دون أن يـمـلك أن يـتـخـلـى عـن مـبـادئـه كـمـا فـعـل ويـفـعـل الـكـثـيـرون مـمـن يـعـرفـون الـمـسـالك والـطـرق والـمـمـرات الـجـانـبـيـة لـتـحـقـيـق مـا يـريـدون دون أن يـكـلـفـهـم ذلك جـهـدا ولا مـشـقـة. كل مـا فـي الأمـر أن يـرسـلـوا عـلـبـا أو أكـيـاسـا إلـى رؤسـائــهـم لـيـحـظـوا بـعـدهـا بـالـتـرقـيـات والـرخـص وشـتـى الامـتـيـازات، بـيـنـمـا ظـل صـاحـبـنـا لـسـنـوات طـويـلـة يـعـمـل بـجـد واجـتـهـاد، وبـكـل مـا أوتـي مـن قـوة وصـبـر لـدرجـة أنـه كـان يـعـلـم كـل صـغـيـرة وكـبـيـرة فـي الـمـكـتـب الـبـريـدي، إلا أنـه لـم يـكـن يـعـلـم تـحـديـدا أيـن يـسـكـن رئـيـسـه ولا مـا يـفـضـلـه هـذا الـرئـيـس بـل ولا حـتـى تـاريـخ مـولـده. لـم يـكـن يـحـسـن تـقـديـم الـهـدايـا ولا الـتـهـنـئـات بـمـنـاسـبـة أو بـغـيـر مـنـاسـبـة، وتـلك هـي الـطـرق الـتـي غـالـبـا مـا يـسـلـكـهـا الـراغـبـون فـي تـسـلـق الـدرجـات سـريـعـا ودون عـنـاء.

بـدأت الـشـكـاوى بـتـأثـيـر مـن زوجـتـه وبـنـاتـه: قـلـة ذات الـيـد، الـخـصـاصـة، الـحـرمـان... كـانـت الـحـاجـيـات: الـضـروري مــنـهـا وغـيـر الـضـروري سـبـبـا كـافـيـا لأن يـسـمـع مـن أفـراد أسـرتـه كـل يـوم وكـل سـاعـة سـيـلا مـن الـتـعـلـيـقـات والانـتـقـادات... كـان كـل يـوم عـلـى مـوعـد مـع كـلـمـة " لـو" لـدرجـة أنـهـا بـدأت تـثـيـر فـي نـفـسـه الاشـمـئـزاز. لـو كـنـت فـعـلـت كـذا لـكـان الأمـر كـذا... لـو كـنـت اخـتـرت مـنـصـبـا آخـر فـي غـيـر الـبـريـد... لـو كـنـت مـثـل بـقـيـة زمـلائـك في الـدراسـة لـكـان وضـعـك الآن جـيـدا... لـو... لـو... بـدأ يـفـكـر فـي تـجـنـب رؤيـة بـنـاتـه وذلك بـأن يـتـأخـر عـن الـدخـول لـيـلا إلـى مـنـزلـه لـعـلـه يـجـدهـن نـائـمـات فـيـتـخـلـص بـذلـك مـن الـشـكـوى بـعـض الـشـيء، لـكـن مـشـكـلـتـه تـكـمـن فـي أنـه لـم يـجـد مـكـانـا يـقـضـي فـيـه هـذه الـسـاعـات اللـيـلـيـة الـطـويـلـة، هـل سـيـظـل واقـفـا فـي الـشـارع ويـثـيـر بـذلك بـعـض الـشـبـهـات أم يـجـلـس فـي الـمـقـهـى وهـذا بـدوره سـيـرهـق كـاهـلـه بـمـصـروف إضـافـي وهـو بـالـكـاد يـتـنـفـس تـحـت الـمـاء.

ضـاقـت الـسـبـل بـصـاحـبـنـا لـدرجـة أنـه أصـبـح كـثـيـر الـشـرود، بـل إنـه كـان أحـيـانـا مـا يـخـطـئ فـي مـلـفـات ووثـائـق الـزبـنـاء، ومـن تـم كـثـرت الـشـكـاوى ضـده لـدى الـرئـيـس، هـذا الـذي اسـتـدعـاه لـيـسـمـعـه سـيـلا مـن الـمـلاحـظـات والـتـعـلـيـقـات مـن دون جـدوى، وحـيـن تـكـررت مـنـه الأخـطـاء سـلـمـه رئـيـسـه تـوبـيـخـا وهـدده بـأنـه لـم يـعـد قـادرا عـلـى الـتـغـاضـي عـن أخـطـائـه مـؤكـدا أنـه إنـمـا كـان يـراعـي لـه شـيـخـوخـتـه وأقـدمـيـتـه فـي الـعـمـل ولـولا ذلك لـكـان قـدم مـلـفـه إلـى الـمـجـلـس الـتـأديـبـي لـيـتـخـذ فـي حـقـه الـقـرار الـمـنـاسـب لـوضـع رجـل مـهـمـل مـثـلـه، هـكـذا قـال رئـيـسـه مـوضـحـا: إنـه في حـال لـم يـعـدل عـلـي سـلـوكـه فـإنـه سـيـكـون مـجـبـرا عـلـى الـتـغـاضـي عـن الاعـتـبـارات الإنـسـانـيـة ويـتـخـذ فـي حـقـه قـرارا قـد لا يـكـون سـارا. بـدت الأمـور أمـام عـيـنـي عـلـي ذات ألـوان داكـنـة. مـن كـان يـجـرؤ عـلـى أن يـتـهـم الأسـتـاذ عـلـي ـ كـمـا كـانـوا يـسـمـونـه ـ وهـو الـمـشـهـود لـه بـالـنـزاهـة والاسـتـقـامـة بـل إنـه أكـثـر مـن ذلك يـمـكـن اعـتـبـار الـعـامـلـيـن بـالـمـصـلـحـة تـلامـذتـه.

لـقـد تـمـرنـوا كـلـهـم تـحـت سـمـعـه وبـصـره بـل إنـه لـم يـذخـر أي جـهـد فـي تـقـديـم كـل مـا كـان يـمـتـلـكـه مـن خـبـرة ومـعـرفـة فـي الـمـجـال رغـبـة مـنـه فـي رقـيـهـم، نـاسـيـا أو مـتـنـاسـيـا أنـه مـن الـمـمـكـن أو مـن الـمـحـتـمـل أن احـدهـم سـيـفـكـر ـ فـي حـال تـعـلـم وأتـقـن تـدبـيـر الأمـور ـ فـي أن يـزيـح هـذا الـعـجـوز لـيـحـل مـحـلـه. كـانـت عـقـدة الـنـقـص تـحـز فـي نـفـوس الـكـثـيـريـن مـنـهـم، فـهـم مـهـمـا كـان تـمـكـنـهـم مـن مـهـارات الـعـمـل ومـهـمـا بـلـغـت مـرتـبـتـهـم فـي تـلك الـمـصـلـحـة فـإنـهـم سـيـظـلـون مـديـنـيـن لـه بـالـفـضـل أو لـنـقـل بـعـبـارة أخـرى إنـه طـالـمـا بـقـي هـذا الـعـجـوز فـي الـمـكـتـب سـيـظـل ذكـرى سـيـئـة عـن فـتـرات الـتـدرب والـتـعـلـم وهـو أمـر كـان بـعـضـهـم يـرفـضـه. هـكـذا كـانـوا يـتـصـورون الأمـور. فـبـعـد سـنـوات طـويـلـة مـن الـتـوقـيـر والـتـعـظـيـم هـاهـي الـنـظـرات والانـتـقـادات تـتـوجـه إلـيـه، مـن الـصـغـيـر والـكـبـيـر، مـن الـرئـيـس ومـن الـمـرؤوسـيـن. لـم يـكـن يـجـد تـفـسـيـرا لـمـا يـحـدث.

كـانـت قـنـاعـاتـه واضـحـة لا غـبـار عـلـيـهـا ـ عـلـى الأقـل فـي نـفـسـه هـو ـ كـيـف لـمـن تـحـيـط بـه الـمـشـاكـل الـمـاديـة والـمـعـنـويـة، ومـن كـل جـهـة، أن يـكـون عـمـلـه دقـيـقـا لا خـلـل فـيـه، قـال فـي نـفـسـه ذات يـوم: عـوض أن يـعـمـل رئـيـسـي عـلـى تـسـويـة وضـعـيـتـي وإنـصـافـي إذا بـه يـكـيـل لـي الـتـهـم ويـزيـد مـن هـمـي وغـمـي. أنـا شـخـصـيـا لا أفـهـم كـيـف يـغـفـل أو يـتـغـافـل عـن هـذا الأمـر وهـو الـذي وعـدنـا يـوم تـعـيـيـنـه بـأنـه سـيـكـون الـحـامـل لـهـمـومـنـا والـمـدافـع عـن حـقـوقـنـا، أم لـعـل الأحـاديـث الـشـفـهـيـة شـيء والـواقـع الـفـعـلـي شـيء آخـر، هـكـذا كـان الـتـسـاؤل فـي نـفـسـه مـلـحـاحـا ودون جـواب.

تـوالـت الأخـطـاء وتـوالـت مـعـهـا الانـتـقـادات: مـن بـنـاتـه ومـن زوجـتـه ومـن مـديـره... مـعـانـاة فـي الـبـيـت ومـعـانـاة فـي الـعـمـل... بـدأ صـاحـبـنـا يـفـقـد صـبـره وكـانـت الـنـتـيـجـة أنـه ولأول مـرة بـدأ يـصـرخ فـي وجـه الـجـمـيـع بـأنـهـم سـبـب مـحـنـتـه. فـي بـيـتـه بـدأ يـتـهـم زوجـتـه وبـنـاتـه مـتـهـمـا إيـاهـن بـأنـهـن سـبـب مـحـنـتـه لأنـهـن ورغـم كـل مـا عـانـاه ومـا يـزال لا تـفـكـر الـواحـدة مـنـهـن إلا فـي نـفـسـهـا ولا شـيء غـيـر ذلك. أمـا رئـيـسـه فـي الـعـمـل فـقـد قـرر مـواجـهـتـه مـتـهـمـا إيـاه بـتـهـمـة الـكـذب والارتـشـاء والـزبـونـيـة وسـيـل مـن الـمـلـفـات الـتـي كـان قـد ادخـرهـا لـهـذه الـمـحـنـة. وحـيـن أخـرج مـن مـكـتـبـه مـجـمـوعـة مـن الـمـلـفـات والـوثـائـق تـديـن الـرئـيـس بـدأ هـذا الأخـيـر فـي تـغـيـيـر مـعـامـلـتـه مـدعـيـا نـدمـه عـلـى مـا حـصـل زاعـمـا أنـه سـيـعـمـل عـلـى تـسـويـة كـل الأمـور، بـل إنـه أقـسـم أمـامـه بـأن مـوضـوع وضـعـيـة عـلـي سـتـكـون عـلـى رأس أولـويـاتـه، تـصـافـح الـرجـلان، لـكـن مـا فـي الـنـيـات بـقـي خـافـيـا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى