الجمعة ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

ألفة من نوع ما

وهو في كوخه البئيس، اعتاد أن يستلقي على ظهره... يتأمل السقف...هذه الأخشاب المهترئة... يناوشها، يشكو إليها مرارة الفقر والحاجة، لكنه، بعد حين استدرك ليقول: كفى من الشكوى...أنا والكوخ... ورفع يده عاليا...كهذين الأصبعين، أنا والكوخ جسد واحد، روحان في جسد واحد، أو جسدان فيهما روح واحدة، أو... لم يدر ما يقول. كان يمقت الفلسفة عن آخرها، يحتقر هؤلاء وأولئك من الذين يجرون الأسماء والحروف والأفعال... يمططونها ليستخرجوا منها هرطقة أو سفسطة... أو هراء كما تعود أن يسميه... لكنه الآن في حاجة إلى الفلسفة، على الأقل ليحلل ويفلسف... لم يعد معه غير المجردات... بعد أن غادرته الماديات، طرد من عمله، وغادرته زوجته، وتخلى عنه أصدقاؤه، لم تستثن منهم الخيانة أحدا... قرر أن يكمل طقوسه ؛ يستلقي على وجه أمه الأرض، لا يفصله عنها فاصل... يستمد منها الدفء، وإن كان سطح الزليج باردا، تبا للخيال، ما أوسعه وما أوسع ما يدركه... فضاء الخيال مجرة قائمة بذاتها، بكواكبها ونجومها... بشموسها وأقمارها... يستبد الخيال بالفضاء بعيدا عنه... الفضاء الذي هناك لا الذي هنا، استعطفه... لا جدوى، أصر بكل ما يملك من رغبة وإرادة وتصميم، لكن الخيال، بقسوته الغريبة، بفضاضته وشراسته... أبى أن يذعن، بقدر ما يزداد هذا إلحاحا يزداد الآخر رفضا وعنادا... لم يكن أمامه من خيار... العالم في نظره عالمان: عالم المثاليات، المجردات... باختصار عالم الخيال باتساعه... بموجوداته التي لا تنتهي... بسخائه الذي لا يعرف حدودا... في عالم الخيال، هو سيد الزمان والمكان، فضاء الخيال، مساحته، طوله، عرضه... كلها طوع أمره. الماديات، العالم الآخر، أو هو النصف الآخر للعالم الذي يستمتع فيه بالدقيقة والثانية... هذا العالم، فضاء مظلم، ضيق...لا يتجاوز كوخه المعتوه... هذا الفضاء القابع فوق سطح ضيق من الأرض، وفي بادية من البوادي النائية، القاسية، الشرسة... بمساحة تتجاوز بالكاد قبر الجندي المجهول... أربعة جدران تحده من الجهات الأربعة... وسقف أليف، يخترقه ببصره وبصيرته، يعانقه، ولو عن بعد، وسطح، يقبع تحته، يحمل عنه جسده النحيل، بكيلوغراماته الباهتة... بجسمه الخيطي الأنيق... بقلبه النابض نوعا ما. الرفاق: كرسي مهتريء، وسرير ورقي... والباقي جسمه النحيل، جسده الذي لا يملأ من فضاء الغرفة إلا ما يملأه جسد أبي الطيب المتنبي وهو يشكو هزاله ونحافته:

كفى بي نحولا أنني رجل

لولا مخاطبتي إياك لم ترني

كان يتذكر هذا البيت، ينشده بصوته الأجش، كلما نظر في وجه المرآة، هذه الرفيقة التي عدا عليها الزمن، فأحدث في جبهتها خدوشا... وشقوقا، يظهر من خلالها الوجه الواحد أوجها، كلما ألقى بصره تذكر أبا الطيب، ويحزنه أن أبا الطيب وجد من يخاطبه، من يدرك وجوده ولو من خلال الصوت... أما هو فلم يكن يجد من يراه أو يسمعه أو حتى يبصق في وجهه...

الطقوس طقوس، لابد أن يمارس عادته، يستلقي على الأرض، يغلق عينيه... ينتظر... هكذا دأب أن يفعل منذ سنين... يستلهم... قطرات هنا، وقطرات هناك... يجهد نفسه، يسلكها حبة حبة... وبتأن جميل وصبر عليل، يصوغها قصيدة، يخطها بيمينه... يلقي بها في الظرف، يرسلها إلى ملحق ثقافي بئيس في جريدة أبأس... ينتظر أن تنشر. وبعد أسبوع... أو شهرين، يجد قصيدته وعليها اسمه وصورته، وعلى صفحة من الصفحات التي لا يقرأها أحد... وهكذا وبعد أن يتصفحها يفرشها على الأرض... ومع مرور الوقت تشكلت... صارت تلا فاتخذه سريرا... أما ما كان ينتظره ؛ من تعويض أو جائزة أو تقدير على الأقل... فتلك أمور من نصيب أولئك الذين يحسنون أن يستقبلوا... وينحنوا للسيد الرئيس...

وبعد أخذ ورد بينه وبين نفسه ـ طبعا ـ أدرك نعمة أن يكون عموده الفقري متخشبا متصلبا... لا يعرف الانحناء... فألفة ما... خير من ذلة ما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى