الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم عوض

ترجمة الطهطاوى لـ (جغرافية ملطبرون)

ملاحظات وتفسيرات

صدق المثل القائل: "العبد فى التدبير، والرب فى التقدير". ذلك أننى منذ سنتين أفكر فى كتابة دراسة أقارن فيها بين رواية القس الفرنسى فنلون: "Les Aventures de Télémaque" فى أصلها الفرنسى وبين ترجمة رفاعة الطهطاوى لها، تلك الترجمة التى سماها: "مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك".

بل إننى استعرت من مكتبة الكلية أكثر من مرة ترجمة المرحوم عادل زعيتر لتلك الرواية، وقلت لنفسى: فلأوسّع دائرة المقارنة بحيث تكون بين الترجمتين أيضا. وقد بدأ الأمر كله حينما رأيت فى يد أحد طلابى بالجامعة نسخة من ترجمة الطهطاوى لتلك الرواية فى طبعتها الثانية التى أصدرها المجلس الأعلى للثقافة فى مصر فى الأعوام الأخيرة مصوَّرة عن الطبعة القديمة، فاجتاحتنى الرغبة فى الحصول على نسخة منها أنا أيضا، وقد كان. ومن يومها وأنا أضع فى حسبانى أن أقوم فى أول فرصة بالمقارنة المذكورة، وبخاصة بعدما حصلت أيضا على نسخة من الأصل الفرنسى للرواية. إلا أننى حتى الآن لم أنشط إلى وضع تلك النية موضع التحقيق... إلى أن كنت أكتب دراستى التى نشرتها مؤخرا فى المواقع المشباكية المختلفة بعنوان "العمامة والقبعة لصنع الله إبراهيم وتيار الكتابة الاستمنائية"، واقتضانى البحث الرجوع إلى بعض مؤلفات الطهطاوى لأرى أكان هذا العالم الجليل يعرف مصطلح "رأس الرجاء الصالح" أم لا. ذلك أن صنع الله إبراهيم يُجْرِى هذا المصطلح على لسان بطل الرواية، والمفروض أنه تلميذ للجبرتى ومساعد له، أما أنا فقد استبعدت أن يكون ذلك المصطلح معروفا للعرب فى ذلك الوقت، وبخاصة أننى لم أجد، بين معانى كلمة "رأس" فى المعاجم القديمة بما فيها معجم "تاج العروس" للزبيدى معاصر الجبرتى، معنى الأرض الداخلة فى البحر.

وكانت رغبتى أن أعرف التاريخ الذى ظهر فيه ذلك المصطلح فى أرض الكنانة، إذ استغربت أن يكون فى بلادنا من يعرفه فى تلك الفترة المبكرة أيام الحملة الفرنسية، وهى الفترة التى تجرى فيها وقائع الرواية، قبل أن نتصل بالكتب الأوربية ونفكر فى ترجمتها. وكتبتُ الدراسة بما تيسر لى وقتها من مراجع، بيد أن عقلى لم يكفّ عن التفكير فى تلك النقطة، وظلت رغبتى مشتعلة فى الحصول على كتاب الطهطاوى: "جغرافية مالطبرون" أو أى شىء كتبه فى هذا المجال لاتأكد بنفسى من هذه النقطة. وأخذت أفكر: أين يمكن أن أجد نسخة من ذلك الكتاب؟ فأما الأعمال الكاملة لرفاعة فليس منها فى مكتبة الكلية إلا مجلد واحد ليس فيه "جغرافية ملطبرون". وأما المشباك فلم أجد فيه شيئا البتة. وأما الذهاب إلى دار الكتب فهو ترف لا أستطيعه فى ظل ظروف الحياة فى القاهرة واعتبارات السن، وإن كنت ما زلت أمشى فى اليوم ستة كليومترات أو أكثر على سبيل التريض دون أن أشكو.

وبينما كنت أتريض ماشيا كعادتى منذ عدة ليالٍ إذا بفكرة تخطر لى بغتةً مؤدّاها: ولماذا لا أبحث عن الكتاب فى مكتبة الكلية؟ إن لى مع تلك المكتبة ومع مكتبة الجامعة نوادر أغرب من الخيال، ومن بينها عثورى بالمصادفة البحتة على كتاب منصور فهمى الذى يهاجم فيه الرسول محمدا والإسلام، وهو الكتاب الذى كان فى الأصل دراسة جامعية حصل بها من فرنسا على الدكتورية فى أواخر العقد الأول من القرن البائد، وكنت أظن أنها لم تطبع فى كتاب. إلا أننى فى منتصف التسعينات من القرن الماضى كنت أجوب أرجاء قاعة القراءة فى مكتبة جامعة عين شمس بحثا بعنيى عما فى الأرفف من كتب لم يسبق لى معرفتها، فوجدت كتابا صغيرا مدسوسا بين بعض الترجمات القرآنية ودائرة المعارف الإسلامية فى طبعتها الإنجليزية الأولى، فدفعنى الفضول إلى استخراج هذاالكتاب الغريب، فإذا به رسالة منصور فهمى بالفرنسية لا سواها مطبوعة فى كتاب بفرنسا، فأخذتها وصورتها وقرأتها فى الحال لأجد نفسى فاغر الفم دهشة من تلك الجرأة الجاهلة التى أقدم عليها برعونةٍ غير مفهومة الدكتور فهمى، تلك الجرأة التى يفسرها محمد لطفى جمعة بأنه لم يكتب بنفسه تلك الدراسة، بل كُتِبَتْ له ثم وُضِع اسمه عليها... إلى آخر ما قيل فى ذلك الموضوع الذى لا يهمنا الآن رغم أهميته الفظيعة فى حد ذاته، أقول: خطر لى وأنا أتريض منذ عدة أيام أن أبحث عن الكتاب فى مكتبة الكلية. صحيح أننى لم أكن أعلق آمالا على لقيانه هناك، إلا أننى رددت على تشاؤمى بأننا لن نخسر شيئا، وأننى كثيرا ما وجدت فى تلك المكتبة وفى مكتبة الجامعة كتبا لا يخطر فى البال أنها من مقتنياتهما.

ومنذ نحو أسبوع ذهبت إلى مكتبة الكلية وطلبت من الموظفة المسؤولة أن تساعدنى فى البحث عن الكتاب، فكان جوابها أن الكاتوب معطل. لماذا؟ لأن البرنامج لا أدرى ماذا أصابه. وهذا هو الجواب الذى نسمعه فى معظم الأحوال والذى لا يتغير تعليقى عليه بأننا ما دمنا لا نستطيع تشغيل الآلات الحديثة، فلماذا نصر على شرائها وإرهاق ميزانية الجامعة مع أننا نستطيع الاعتماد بنجاح كبير على الطريقة القديمة، طريقة الفهارس والبطاقات؟ ليس عيبا أن يعرف الإنسان حدود قدراته ويعمل على أن تكون مطالبه متناغمة معها، بل هو الواجب المفروض. إلا أن الموظفين والموظفات لا ذنب لهم، إذ هم، كما نقول فى مصر، العبد المأمور، أو عبد المأمور، ومتى كان للعبد المأمور رأى أو إرادة مستقلة؟ ثم عدت أطلب من السيدة أن تدلنى على رفوف الكتب الجغرافية، فجاءت مشكورة معى وأنا أضحك وأقول لها: "لو عثرنا على هذا الكتاب فلك عندى خمسة جنيهات. لا بل عشرة". ثم بدأنا رحلة البحث فى بعض الدواليب فلم نجد شيئا. وكدت أنصرف، إلا أنها دارت وذهبت إلى الدولاب القائم وراء الدولاب الذى كنا نبحث فيه، فأخذنا ننظر ونقلب الكتب بأيدينا حين لا يسعفنا شىء مكتوب على كعوبها يرشدنا إلى حقيقتها.
وإذا بى، على حين فجأة من الأمر، أجد كتابا أكبر فى الحجم من الكتب التى حوله، فقلت: أَنْظُرُ فيه لأرى أىُّ كتاب هذا. فوجدت عنوانه فى الداخل: "الجغرافيا العمومية"، ولكن لا يوجد أى ذكر لاسم المؤلف. إلا أن كونه مطبوعا فى مطبعة بولاق فى القرن التاسع عشر جعلنى أتمسك به متصورا أنه من تأليف أحد تلامذة رفاعة. ثم إذا بى، وأنا أفرّ أرواقه السميكة الشاحبة التى لا تخلو من بعض الخروم بفعل السوس، أقرأ عنوانا آخر فى الداخل هو "جغرافية ملطبرون". فكدت أرقص فرحا، بل أطير طيرانا. طبعا على المجاز حتى لا يظن بى الناس الطيبون أننى من أهل الرقص مع أننى لم أرقص فى حياتى قط ولا أعرف كيف يرقص الراقصون. وقلت للموظفة: "حقت لك المكافأة"، وهى تتأبى وتعتذر عن قبولها، على حين أصر أنا على أن تأخذ الجنيهات العشرة، ولى ولأولادى ربٌّ اسمه الكريم "من يوم خمسة منه إلى آخر الشهر"، وأقصاها أن نجلس متربعين "بربطة المعلم" على باب من أبواب المساجد المنتشرة فى منطقتنا مادّين أيدينا بالسؤال لخلق الله: من يساوى منهم ومن لا يساوى، ولن نعدم بإذن الله ناسا أولاد حلال يعطوننا مما أعطاهم الله. ولن نتشرّط ونقول: "فطير مشلتت!"، لا قناعة منا وزهدا، فمن يشتغل شحاذا فإنه لا يعرف زهدا ولا قناعة، بل لسبب آخر هو الرعب من الكولسترول وما يجره الكولسترول وراءه من كوراث. وخرجت بالكتاب وأنا أحس أنى أحمل فى يدى كنزا. ثم استطعت بُعَيْدها أن أؤمّن نسخة من المجلد الأول من ذلك الكتاب فى أصله الفرنسى، ونسخة أخرى من المجلد الرابع من ذات الكتاب، ولكن فى ترجمة إنجليزية. وشرعت أقرأ فى الأصل الفرنسى حينا، وفى ترجمة الطهطاوى حينا آخر، لتنبثق فى ذهنى فكرة المقارنة بين النص الفرنسى وصورته العربية. وقد اتخذتُ من الفصل الخاص بالجغرافيين العرب فى المجلد الأول نموذجا أطبّق عليه عملية المقارنة، فكانت هذه الدراسة التى نحن أمامها الآن.

ولكن قبل المقارنة لا بد من كلمة عن كل من الكاتبين: فأما الطهطاوى (1216-1290هـ، 1801- 1873م) فهو، حسبما جاء فى "الموسوعة العربية العالمية" و"تاريخ الآداب العربية" للويس شيخو وغيرهما، مفكر مصرى وركن ركين من أركان النهضة العربية الحديثة. ولد فى طهطا بصعيد مصر وقصد القاهرة، فتعلم بالأزهر وأرسلته الحكومة المصرية إمامًا للصلاة والوعظ (1826- 1831م) مع بعثة من الشبان أوفدتهم إلى فرنسا لتلقى العلوم الحديثة. درس الفرنسية، وقرأ الجغرافيا والتاريخ. وعند عودته إلى مصر تولى رئاسة الترجمة بمدرسة الطب، وأنشأ جريدة "الوقائع المصرية". كذلك ألف وترجم عن الفرنسية كتبًا متعددة من أبرزها "قلائد المفاخر فى غرائب عادات الأوائل والأواخر" (مترجم)، و"المعادن النافعة" (مترجم)، و"مبادئ الهندسة" (مترجم)، و"القانون المدنى الفرنساوى"، و"تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، إلى جانب عدد من الكتب الجغرافية منها "جغرافية ملطبرون" أو "الجغرافيا العمومية"، وهو الكتاب الذى ترجم منه مجلدين: الأول والثالث. وقد أسس، رحمه الله، مدرسة الألسن، وتولى نظارتها.

وأما مالطبرون فخلاصة ما ورد فى مادة "Malte-Brun, Conrad" فى "الموسوعة البريطانية 2008" ومادة "géographie" فى "الموسوعة اليونفرسالية الفرنسية 2006م:Encyclopædia Universalis 2006) أنه عالم جغرافى دانمركى الأصل فرنسى التجنس. نُفِىَ إلى فرنسا سنة1800م بسبب كتاباته المؤيدة للثورة الفرنسية حيث اشتغل صحفيا ومؤلفا لكتب الجغرافيا. عاش فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأسس الجمعية الجغرافية الباريسية، وله كتاب ضخم من ثمانية مجلدات أرخ فيه لعلم الجغرافيا فى العالم كله قديما وحديثا. وبالمثل اشتغل ابنه فكتور أدولف مالطبرون هو أيضا بالجغرافيا، وبالذات فى ميدان الاكتشافات الجغرافية فى أفريقيا والقطب الشمالى. وإلى القارئ ما كتبته الموسوعتان عن الرجل على التوالى: "Born Aug. 12, 1775, Thisted, Den died Dec. 14, 1826, Paris, France. original name Malte Conrad Bruun author and coauthor of several geographies and a founder of the first modern geographic society. Exiled from Denmark in 1800 for his verses and pamphlets in support of the French Revolution, Malte-Brun established himself as a journalist and geographic writer in Paris. His works include the first six volumes of Précis de la géographie universelle (1810–29; “Précis of World Geography”). He was a founder and the first secretary of the Société de Géographie de Paris (1821). His son Victor Adolphe Malte-Brun, also a geographer, concerned himself with the course of African and Arctic exploration"، "Conrad Malte-Brun (1775-1826), danois de naissance, mais français d’adoption, fonda la Société de géographie de Paris ; de 1810 à 1829, il publia un Précis de géographie universelle". ويلفت النظر أن مالطبرون قد تُوُفِّىَ فى ذات العام الذى وصل فيه رفاعة إلى فرنسا.

وقد طُبِعَتْ ترجمة الطهطاوى لمجلَّدَىْ مالطبرون فى كتابين من القطع الكبير وبالحروف الصغيرة. والملاحظ أن كثيرا جدا من الكلمات فى هذين الكتابين، كما هو الحال فى طباعة كتب تلك الفترة، متلاصقة لم يترك الطابع بينها مسافة، وأن علامات الترقيم غائبة تماما، وأن الفقرات تبدأ من أول السطر دون ترك مسافة كما هو المعمول به الآن، كما أن المصطلحات التى يستعملها رفاعة تختلف فى كثير من الحالات عن المصطلحات التى استقر العرف عليها، وكذلك الأمر فى أسماء الأعلام. ومن هنا يجىء الإرهاق الشديد الذى تجشِّمنا إياه قراءة ما كتبه الطهطاوى، نحن الذين تعودنا على أن يكون حرف الطبع كبيرا بما فيه الكفاية، وأن تكون هناك علامات ترقيم، وأن يكون أول السطر فى كل فقرة متقهقرا إلى الداخل نحو سنتيمتر. ويضاف إلى هذا أن الطهطاوى لم يترجم هوامش ملطبرون، وهى كثيرة وهامة. وأنا هنا لا أعيب الطهطاوى، فحسبه أنه استطاع ترجمة مجلدين من ذلك الكتاب الشاق. ومعروف أنه لم يكن قد درس الجغرافيا فى الأزهر، بل تعرف عليها فى فرنسا بعد أن تخرج وأصبح بدوره شيخا. فما إن عاد إلى مصر حتى بادر إلى ترجمة المجلد الأول من هذا الكتاب الذى يتناول بالتفصيل الجغرافيا العامة فى العالم كله قديما وحديثا مثلما فعل كراتشكوفسكى بالنسبة إلى الجغرافية العربية وحدها. ثم أتبع رفاعة المجلد الأول بعد عدة سنين بترجمة المجلد الثالث. وإذا كنا نُكْبِر كثيرا صنيع عميد المستشرقين الروس رغم أن كتابه مقصور على جغرافية واحدة هى الجعرافية العربية، فما ظننا بكتاب يتعرض للجغرافيا فى العالم كله منذ شذورها الأولى فى الأزمان الموغلة فى القدم حتى عصره؟

ونستطيع أن نضع الإنجاز الذى قام به الطهطاوى فى موضعه الصحيح إذا تنبهنا إلى أنه لم تكن هناك وقتئذ معاجم فرنسية عربية متعددة كما هو الأمر الآن، كما أن رفاعة إنما تعلم لغة الفرنسيس على كِبَرٍ ودون تمهيد من معرفة لغة أجنبية أخرى، ولم يكن فى الحسبان: لا حسبانه هو ولا حسبان الدولة المصرية أن يتعلمها أو يتعلم شيئا غيرها مع من ذهبوا إلى عاصمة الفرنسيس فى بعثة تعليمية، إذ هو أُرْسِل ليؤم طلاب تلك البعثة فى الصلاة وليبصّرهم بأمور دينهم وما إلى ذلك. وفوق هذا فإن رفاعة قد ترجم المجلد الأول، الذى يقع فيه الفصل الخاص بالجغرافيين المسلمين (موضوع المقارنة فى الدراسة الحاليّة)، أثناء الطاعون الذى كان منتشرا فى البلاد فى ذلك الوقت والذى فر منه إلى بلده حيث اشتغل هناك بالترجمة، فيما كان محمد على يبحث عنه غاضبا متوعدا، إلى أن عاد وقدم له ما أنجزه، فعندئذ نسى سخطه عليه وأنعم عليه وأكرمه.

فكل هذا يرينا الدرجة التى ينبغى أن يوضع فيها عمل ذلك الرائد مهما كانت الهنات أو الأخطاء التى وقعت فى ترجمة ذلك الكتاب. ونحن الآن، رغم كل التقدم الذى تحقق فى ميدان تعلم اللغات والترجمة، لا يمكن أن تعرى ترجمة أى منا عن الخطإ والسهو والنسيان بالغةً ما بلغت درجته فى إتقان اللغتين اللتين يترجم من إحداهما إلى الأخرى، فما بالنا بالطهطاوى فى ذلك الزمن المبكر، وبخاصة أنه ليس بين أيدينا تقاليد راسخة ورثناها عن العرب فى الترجمة من اللغات الأجنبية، إذ إنهم، حتى فى زمن عزهم وازدهارهم العلمى، لم يعرفوا الترجمة فى ميدان العلوم الإنسانية على نطاق واسع ولا مارس ذلك الفن كبار كتابهم، بل كان نقل الكتب إلى اللغة العربية فى العصر العباسى مهمة قوم لم يشتهروا بحلاوة الأسلوب ولا كانوا من الأدباء أصلا؟ ولسوف نرى، رغم ما ذكرناه من ملاحظات على ترجمته، أنه كان فاهما للنص الذى يترجمه إلى حد كبير، وكان قادرا على صياغة الجمل والعبارات الطويلة المتداخلة فى شىء من اليسر. وبالمناسبة فقد استخدم الطهطاوى باطراد تام ضمير الغائبين عند الحديث عن الغربيين، على حين أن الأصل يتكلم عنهم بضمير المتكلمين بوصف المؤلف الفرنسى الدانمركى واحدا منهم، فهو يقول: "نحن" أو "نحن الأوربيين"، أما الطهاوى فيقول مثلا: "الإفرنج" أو يستعمل الضمير: "هم". كما أنه إذا جاء ذكر النبى محمد عليه الصلا والسلام فى كلام المؤلف أتبعه بالصلاة والتسليم عليه، وكذلك الحال عندما جاء ذكر مكة، فقد نعتها بــ"المشرَّفة"، دون أن يضع هذه الزيادة أو تلك بين قوسين كى يفهم القارئ أنها من إضافاته هو لا من كلام المؤلف، إذ إن مالطبرون لم يكن مسلما بطبيعة الحال. ومع هذا فيكفى أن المؤلف الفرنسى لم يورد اسم النبى صلى الله عليه وسلم إلا فى أحسن سياق حيث يثنى عليه وعلى إنجازاته التاريخية والحضارية التى نقلت العرب ومن فتحوا بلادهم من حال إلى حال أرقى وأحسن.

وقد تحدث المؤلف الفرنسى الدانماركى بإنصاف شديد عن دور العرب فى ميدان الرحلات والاكتشافات والدراسات الجغرافية، مؤكدا أنهم تفوقوا على الغربيين تفوقا عظيما وأن هؤلاء ظلوا عالة عليهم لوقت طويل، وكتب ذلك كله بعبارة سلسة رشيقة لا تُمَلّ رغم صعوبة الموضوع. وأشهد لقد استمتعت بكتابه أشد الاستمتاع رغم أنى لست من المفتونين بعلم الجغرافية، إلا أن الأسلوب الجميل الذى صاغ به كتابه، وإحاطته الواسعة بالموضوع مع إقراره المخلص فى ذات الوقت بأنه إنما اعتمد فى ذلك على ما كتبه المستشرقون المتخصصون فى هذا الميدان، علاوة على إيراده بين الحين والحين بعض النصوص الحية من كتب الجغرافيا العربية وسوق بعض المعلومات عن هذا المؤلف أو ذاك، إضافة إلى الدفء والحميمية اللذين ينفحان من بين السطور فى كثير من الأحيان، كل هذا حول الجغرافية فى عينى أنا الذى لم أكن يوما من محبيها لارتباطها فى تجربتى التعليمية بجفاف العرض ووجوب حفظ المعلومات المتشابهة والأرقام المتداخلة وأسماء المدن والمحاصيل والمنتجات الطبيعية والصناعية المختلفة وأعداد السكان، مع العجلة اللاهثة فى تقديم كل ذلك، أقول إن هذا جميعه قد حول الجغرافية المعروضة فى الكتاب إلى شىء ممتع. وقد سرنى أن أجد نفس الرأى، وإن جاء مختصرا، فى مادة "Conrad Malte-Brun" بــ"موسوعة كولومبيا ط6: The Columbia Encyclopedia, Sixth Edition"، وذلك حين بدا لى بعد أن كتبت هذا بأيام أن أراجع ترجمة ملطبرون فيها، إذ وجدت ما نصه: "He is responsible for the descriptive, readable style that became characteristic of the French school of geography". وزاد من هذه المتعة عندى المقارنةُ التى كان علىّ أن أجريها بين الأصل الفرنسى وصورته العربية رغم ما سببته لى تلك المقارنة من إرهاق وتوتر، إلا أنهما توتر وإرهاق لذيذان من النوع الذى يعكسه عنوان المسرحية المصرية الشهيرة: "سنة.. مع الشغل اللذيذ". ولقد كان وجود النص الفرنسى بين يدىَّ وأنا أطالع كتاب رفاعة خير معوان لى على اجتياز العقبات الطباعية التى ترهق القارئ أيما إرهاق. ورغم أن الصفحات التى خصصها المؤلف الفرنسى لموضوعنا هى صفحات جد قليلة مقارنةً بالكتاب الموسوعى الضخم الذى ألفه كراتشكوفسكى عن "الأدب الجغرافى العربى"، فإنها لا تقل فى المتعة التى تزودنا بها عن تلك التى نستمدها من كتاب المستشرق الروسى من حيث القيمة العلمية والأدبية.

ولقد أجاد الطهطاوى الترجمة عن المؤلف الدانمركى الفرنسى إلى حد معقول. وكنت، لمعرفتى بالسن المتأخرة والظروف غير المواتية التى تعلم فيها رفاعة لغة الفرنسيس، أضع يدى على قلبى أحيانا وأنا أطالع النص الأصلى قبل أن أنتقل كالعادة إلى ما صنعه رائد نهضتنا الحديثة خشية ألا يستطيع القيام بالنقل الصحيح أو الدقيق، وبخاصة حين تطول الجملة الفرنسية وتكثر عناصرها وتتشعب منها أو تتخلق فى أحشائها جمل أخرى، لكنى بوجه عام سرعان ما كنت أتبين أن خشيتى فى غير محلها، مع الإقرار فى ذات الوقت أن عمله لا يخلو ولا يمكن أن يخلو لا هو ولا عمل غيره من هنات وأخطاء، فالكمال لله وحده.

ومن هذه الهنات ما يلاحَظ فى كتاباته بوجه عام، لا فى ترجماته وحدها، من ركاكة يقع فيها بين الحين والآخر، وهى من النقاط التى درستها فى الفصل الخاص به فى كتابى: "دراسات فى النثر العربى الحديث". ومن ذلك قوله مثلا: "وأما بلاد النصرانية بأوربا وأقاليم أفريقة المسكونة بالسودان فكانت عند هذا المؤلف ليست جديرة بمزيد الاعتناء بها والاهتمام بشأنها" (ص144. وكان يستطيع لو اعتنى قليلا بصياغة عبارته، وهو على ذلك قادر، أن يقول: "وأما البلاد النصرانية... فلم تكن..."، بدلا من "كانت ليست" هذه التى لا أستطيع لها هضما. كما كان بمستطاعه أن يقول مثلا: "التى يسكنها السودان" بدلا من الترجمة الحرفية التى كنا نلجأ إليها أول ما تعلمنا اللغات الأجنبية حيث كنا نقول فى ترجمة "Zayd a été frappé par Amr" مثلا: "ضُرِبَ زيد بواسطة عمرو")، "وُضِع عليه السجن بأمر المشورة" (ص144. وهو كلام يشبه كلام الأعاجم لا أستطيع أن أفهم كيف وقع فيه هذا الأزهرى الذكى القح. أما المعنى المراد فهو أنه وُضِع فى السجن بقرار من البرلمان. هكذا بكل بساطة!)، "وأبو الفدا هذا كان أقرب لنقل الكلام برُمَّته من التصرف فيه وإزالة خفائه والبحث فيه" (ص144. وكل ما قاله مالطبرون هو أن طريقة أبى الفدا فى تصنيف الكتب تقوم، بالدرجة الأولى، على تجميع النصوص لا على تحليلها: "Aboul-Feda compile plus qu’il n’analyse". فانظر الفرق بين ما أراده المؤلف وما كتبه المترجم)، "وصحارى آسيا التى وراء بحر الخزر لم تَخْلُ عن كونها لهم بها بعض إلمام" (ص144. ولعله لو قال: "لم تخل صحارى آسيا التى وراء بحر الخزر عن أن يكون لهم بها بعض الإلمام" فلربما كان أدنى إلى السلاسة والإحكام. وهذا المثال هو من شواهد إيثاره الجملة الاسمية حيث تكون الفعلية أكثر مناسبة للسياق، وهى الملاحظة التى سنأتى إليها عما قليل. وسببها أنه يترجم فينسى نفسه بين الحين والآخر ويلتزم بما أمامه فى النص الفرنسى حرفيا دون أن يشعر)، "ويمكن بقاء زهوها (أى زهو المدن المذكورة فى النص) إلى الآن" (ص145. يريد أنه من الممكن أن تكون هذه المدن باقية لا تزال على ازدهارها القديم. وتركيب كلامه لا يدل بالضبط على ما يريد قوله طبقا لما فى النص الفرنسى من وصف تلك المدن بأنها كانت "…célèbre par leur grand commerce, et qui peut-être florissent encore"، علاوة على أن كلمة "زهو" تعنى عادة "الكِبْر والعُجْب بالنفس وما إلى ذلك رغم أنها تعنى كذلك نضج البلح مثلا واحمراره من ثَمَّ أو اصفراره، ونمو النبات، والزينة والإيناق وما يجرى هذا المجرى، إلا أن ذلك ليس هو الغالب فى استعمالها)، "وعلى شاطئ نهر ولغا المذكور فى كتب العربية باسم "نهر الأثل" جعلت العرب مُقَام أمة الخوزار، وهى تتارية، ومنها النصارى ووثنيون ومحمديون" (ص146. ولو أنه قال: "ومنها نصارى ووثنيون ومسلمون"، أو "ومنهم النصارى والوثنيون والمسلمون" لكان أحجى، لتحقُّق التناظر حينئذ فى الجملة من خلال تنكير كل الأسماء أو تعريفها بدلا من تعريف الأول منها ثم تنكير الاثنين الأخيرين. صحيح أنه غير منكور فى اللغة، إلا أن تحقق التناظر فى مثل هذا السياق أفضل من تخلفه، وبخاصة أنه لا توجد حكمة بلاغية فى هذا التخالف. كما أن النص الأصلى لم يفرق بين هذه الفئات الثلاث من حيث التعريف والتنكيرP. 182 /). وبعد، فقد كنت أظن أن د. أحمد أمين هو الكاتب الكبير الوحيد الذى لم يكن يهتم بصياغة عبارته، بل يؤديها كيفما اتفق ما دامت تؤدى المعنى بوضوح، حتى تعرّفتُ بكتابات رفاعة الطهطاوى فألفيته يتفوق على أحمد أمين فى هذا المضمار إن أمكن وصف الزيادة فى هذا المجال بالتفوق.

ومما لاحظته فى هذه الترجمة أن ثَمَّ مواضعَ تنكَّب فيها الطهطاوى الجملة الفعلية لحساب الجملة الاسمية حيث يُؤْثِر السياقُ والذوقُ العربىُّ الجملةَ الفعلية. ومن تلك المواضع الشواهدُ التالية: "وهؤلاء الأمم التى أيقظهم محمد عليه الصلاة والسلام من الغفلات وأنقذهم من حيرتهم فى غياهب الجهالات جاوزوا حدود الأرض المعروفة وتوغلوا لا سيما فى أرض آسيا أفريقة، فالخلفاء فى صدر الإسلام وفتوحات البلاد بدينه عليه الصلاة والسلام أمروا أمراء جيوشهم وعمالهم أن يرسم كل منهم خطط البلاد التى فتحها واستولى عليها" (ص143. ولو كنت أنا مكانه لقلت مثلا: "فقد أمر الخلفاء...")، "وقد طُبِع كتاب الشريف الإدريسى فى رومة سنة 1592، ورئيس نو التمس من شخصين من الموارنة... أن يترجماه باللغة اللاطينية ففعلا" (ص143. وأَذْوَق فى لغتنا أن يقال: "وقد التمس رئيس دير نو... إلخ)، "والجغرافية الجديدة ليس بها فوائد متأخرة عما ذكره العرب لمعظم بلاد السودان، فحينئذ المناقشات التى تذكر فى نيل السودان لا يمكن أن تنفك عن تخطيط إفريقة" (ص145. وأرى أن قولنا: "ومن ثم لا يمكن أن تنفك المناقشات..." أقرب إلى الذوق العربى فى تركيب الكلام. أما ما صنعه الطهطاوى فهو اتّباع التركيب الفرنسى للجملة، مع أن الفرنسية (كالإنجليزية والألمانية...) لا تعرف إلا ضربا واحدا من تركيب الجمل، وهو الجملة الاسمية، بخلاف العربية، التى تعرف ضربين: الاسمية والفعلية، والسياق أو الذوق هو الذى يحدد أى الضربين أولى بالاستعمال فى هذا الموضع أو ذاك)، "وقد عرفت العرب أخبار الشام والعجم التى كانت معروفة لمن قبلهم...، وبلاد العرب التى هى مواطنهم خرجت من حيز الخفاء قريبا، فكُتُب مؤلفيهم بيَّنت سائر إقليم هذه البحيثجزيرة ومدتها..." (ص146. وكنت أوثر لو قال مثلا: "فخرجت بلاد العرب من حيز الخفاء...، كما بيَّنَتْ كتبُ مؤلفيهم سائرَ إقليم شبه الجزيرة هذه". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد لاحظت أكثر من مرة أن الطهطاوى لا ينصب اسم "لكن" أحيانا، بيد أنى أحسن الظن به ولا أقول إنه أخطأ، بل أوجّه الأمر على أنه يستخدم "لكنْ" الساكنة النون، أو كما يقول النحاة: "لكن" المخففة من الثقيلة"، وهذه من الجائز أن يظل الاسم بعدها مرفوعا. وسر تنزيهى للطهطاوى عن مثل هذا الخطإ أنه من الوضوح بمكان، وإن كان كثير من كتاب هذه الأيام الذين بلغوا ما بلغوه فى عالم الكتابة "بالنَّبُّوت"، كما كان الدكاترة زكى مبارك يقول فى مثل هذا السياق، لا يحسنون شيئا من نحو أو صرف أو لغة، بل ليست عندهم ثقافة محترمة، اللهم إلا بعض القشور التى يتقممونها من هنا ومن ههنا مثل الضباع الضالة. كما أن الطهطاوى أزهرى صميم درس القواعد اللغوية جيدا فى الأزهر فلا يخطئ فى مثل تلك الأوليات، فضلا عن أن له مصنفا فى النحو مشهورا اسمه "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية" استوحى اسمه، فيما يبدو، من كتاب سلفستر دى ساسى، أحد أساتذته أيام أن كان يطلب العلم مع رفاقه فى باريس، فإن لهذا المستشرق كتابا فى قواعد العربية يدعى: "التحفة السَّنِيّة فى علم العربية"، وعندى نسخة منه، مثلما عندى أيضا نسخة من ترجمته الفرنسية لألفية ابن مالك. ومع ذلك فقد وقعتُ لرفاعة على السهوة الصرفية التالية فى قوله عن جزيرتين من الجزر: "ولعلهما المسمَّيَان (الصواب: "المسمَّاتان") عند القدماء: أخروسة وأرغورة" (ص142).

كذلك كان الطهطاوى يستخدم فى بعض الأحيان مصطلحات وألفاظا تختلف عن مصطلحاتنا وألفاظنا اليوم. وليس هذا بالأمر الغريب، فقد كان رحمه الله رائدا فى وضع المصطلحات والألفاظ العلمية والفكرية الحديثة ترجمةً عن الفرنسية، التى ترجم منها بعض الكتب الهامة، فكان عليه أن يبحث عن المقابل العربى للمصطلحات الأجنبية التى تقابله فى قراءاته وترجماته. وقد كُتِب النجاح والانتشار لبعض مصطلحاته، ولم يُكْتَبا لبعضها الآخر، وهذا أمر طبيعى جدا، إذ المسألة مسألة أذواق وحظوظ، وليس مطلوبا من أى إنسان كائنا ما كان علمه ومقدرته اللغوية أن تحظى كل مصطلحاته وألفاظه بالقبول والاستعمال، بل يكفيه أن يقبل الرأى العام الثقافى بعضها فيكون من المجدودين. وينبغى أن نعرف أن المصطلحات الحديثة التى نستخدمها اليوم، وتُعَدّ بالألوف، هى من صنع طوائف مختلفة من الكتاب. وقد ترك كثير منهم مصطلحات لم تحظ بالتوفيق، فالطهطاوى ليس شيئا فريدا فى هذا الميدان.

ومن المصطلحات التى كان يستعملها رفاعة ثم لم تعد تجرى على أقلام الكتاب على الإطلاق أو لم تعد تجرى بذات الطريقة التى يكتبها بها كلمة "الصنم" (بدلا من "التمثال")، و"الخرطة" (أى "الخريطة")، و"البحر المحيط الغربى، أو البحر الأطلنطيقى" (المحيط الأطلسى أو الأطلنطى)، و"البحيثجزيرة" (شبه الجزيرة)، و"الكتبخانة" (المكتبة الوطنية)، و"المدرسة الجامعة" (الجامعة)، و"الخواجة" (المسيو/ السيّد)، و"المعلّم" (الأستاذ)، و"تلخيص" (مختارات)، و"تخطيط" (وَصْف)، و"دُوشة" (دُوقيّة)، و"المشورة" (مجلس الأمة/ البرلمان)، و"علم الهيئة" (الجغرافيا الرياضية)، و"درجات الأطوال والعروض" (درجات الطول والعرض)، و"السَّوّاح" (الملاّح)، و"عبارات" (وثائق)، و"زهو" (ازدهار)، و"الزرائف" (الزَّرَاف)، و"الإفرنج" (الأوربيون)، و"شُعُوب الجبال" (شِعَاب الجبال)، و"أرباب الطبيعة" (علماء الطبيعة)، و"أرباب البحث" (الباحثون)، و"كِيرات الحديد" (مسابك الحديد)، و"العَجَم" (بلاد فارس)، و"السودان" (الزنوج، جمع "أَسْوَد"، لا البلد المعروف)، ومُرْمِلة" (رملية)، و"الموسقو" (الروس)، و"التخيلات المذهبية" (الآراء المطردة)، و"السلطنة" (الإمبراطورية)، و"إقليم بنغالة" (بلاد البنغال)، و"أمريقة" (أمريكا)، و"إنكلتيرة" (إنجلترا)، و"إرلندة" (أيرلندا)، و"أفريقة" (أفريقيا)، و"مدغشقار" (مدغشقر)، و"قشمير" (كشمير)، و"سومطرا" (سومطرة)، و"جاوا" (جاوة)، "مَرْق بُول" (ماركو بولو)، "البرتوغاليون" (البرتغاليون)، "بنباى" (بومباى)، "مُعَرِّفون لما يَقْدَم من السفن" (مرشدون بحريون)، و"الدلطة" (الدلتا)، و"البحر المحيط الشرقى" (المحيط الهادى)، و"العطريات" (التوابل)، و"جزائر كالينة" (جُزُر كارولين)، و"أورمسدة وأريمان" (هرمزد وأهريمان: إلها الخير والشر عند الفُرْس)، و"ترمرلنك/ تمرلنك" (تيمورلنك)، و"الخوزار" (الخزر)، و"الملائية" (سكان بلاد الملايو)، و"اليابونية" (اليابانيون)، و"الفرنساوية" (الفرنسيون)، و"اللزجيّة" (الصُّغْد)، و"التتر" (التتار)، و"جزائر الفلبينة" (الفلبين)، و"المندنوئيل" (مانديناو)، و"الملديوة" (المالديف)، و"هندستان" (هندوستان)، و"إقليم الدقان" (إقليم الدكن)، و"نهر الكنك" (نهر الكنج)، و"نهر وُلْغا" (الفولجا. وكان فى الدوحة مطعم اسمه "الولغا" يديره ناس من وسط آسيا تعشيت فيه مرتين)، و"وِرْسِطَة" (verste: مقياس روسى قديم يساوى كيلو مترا وسبعة وستين مترا، يعرّبه سهيل إدريس فى "قاموس المنهل" بــ"فَرْسَت"). وهناك عبارة تكررت عنده مفهمومة المعنى من السياق، لكنى رغم هذا لا أعرف أحدا غيره قد استخدمها، كما أننى لا أدرى وجه استخدامه لها ولا كيفية دلالتها على ما يريد الدلالة عليه، وهى قوله: "وأكثر أهلها قائمة الدين المحمدى" (ص146)، والمقصود أنهم يدينون بالإسلام.

وبالنسبة لــ"العطريات" (épiceries) فأغلب الظن أن رفاعة نقلها من المعاجم التى كانت متاحة له فى ذلك الوقت وليست من بُنَيّات أفكاره، وقد وجدتُها فى كل من معجم مورفى ومعجم إلياس بقطر الصادرين فى باريس (عامَىْ 1802م، و1826م على التوالى). ويغلب على ظنى أن القراء لن يفهموا من هذه اللفظة إلا أن رفاعة قصد بها "العطور"، على حين أن المراد هو العطارة بالمعنى الشعبى، أى تجارة الكمون والفلفل والينسون والقرفة والبهارات والتوابل وما إلى ذلك، لا العطور التى يرشّها الإنسان على جسمه وملابسه كى تكون رائحته حلوة.

كذلك كنت أفضل لو كان، رحمه الله، استخدم اسم الجمع: "الزَّرَاف" بدلا من "الزرائف"، ذلك أن السياق هو سياق الكلام عن جنس "الزراف" كله لا عن عدد منه فحسب، كبيرا كان هذا العدد أو صغيرا. وكما أننا لا نقول عادة: "جواميس" حين نريد جنس "الجاموس"، ولا نقول: "أبقار" حين نريد جنس "البقر"، فكذلك أُوثِر هنا أن نقول: "زَرَاف" بدلا من "زرافات" أو "زرائف". وهذه أول مرة فى حياتى أرى أحدا يستعمل الصيغة الأخيرة، التى هى بالمناسبة صيغة صحيحة رغم عدم استخدامها. وهذا الجمع يأتى من كل اسم مكون من أربعة أحرف قبل آخره حرف مد، مثل: "عَلامة/ علائم، وعِمارة/ عمائر، وحِمَالة/ حمائل، وصحيفة/ صحائف، وغريبة/ غرائب، وجريرة/ جرائر، وقَلُوص/ قلائص، وسَمُوم/ سمائم...".

أما "مُرْمِل" فيحضرنى بشأنها بيت الحطيئة التالى من قصيدته الميمية البديعة التى يصف بها أسرة رجل أعرابى منعزل فى قلب البادية لم يدخل فى بطنه هو وأولاده وزوجته الزاد منذ ثلاث ليال:

وطاوى ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مُرْمِلٍ * ببيداءَ لم يعرف بها ساكنٌ رَسْما

فــ"المرمل" هو الذى نَفِدَ زادُه واشتدت حاجته وفقره. وفى "لسان العرب": "أَرْمَل القومُ: نَفِد زادُهم، وأَرْمَلوه: أَنْفدوه. قال السُّلَيْك بن السُّلَكَة:

إِذا أَرْمَلوا زادًا عَقَرْتُ مَطِيَّةً * تَجُرُّ برجليها السَّرِيحَ المُخَدَّما

وفي حديث أُم مَعْبَد: وكان القوم مُرْمِلين مُسْنِتين. قال أَبو عبيد: "المُرْمِل" الذي نَفِدَ زاده. ومنه حديث أَبي هريرة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فأَرْمَلْنا وأَنْفَضْنا. ومنه حديث أُم معبد، أَي نَفِد زادهم. قال: وأَصله من الرَّمْل، كأَنهم لَصِقوا بالرَّمْلِ كما قيل للفقير: التَّرِبُ". وفى "تاج العروس": "أَرْمَلُوا: إذا نَفِدَ زَادُهم. عن أبي عُبَيْدٍ. ومنه حديثُ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه: كُنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم في غَزَاةٍ فأرْمَلْنَا وأَنْفَضْنَا. وأَصْلُه مِن الرَّمْلِ، كأَنَّهُم لَصِقُوا بالرَّمْلِ، كـ"أَدْقَعُوا" مِن الدَّقْعَاءِ. و"أَرْمَلُوهُ"، أي الزَّادَ: أَنْفَدُوهُ. قال السُّلَيْكُ :

إذا أرْمَلُوا زَادًا عَقَرْتُ مَطِيَّةً * تَجْرُّ بِرِجْلَيْها السَّرِيحَ المُخَدَّمَا".

ورفاعة لا يقصد هذا المعنى، بل يريد أن يقول إن الموضع الذى يتحدث عنه هو موضع رملىّ (sablonneux)، أى أن أرضه من الرمل لا من التراب، ولا علاقة للحديث بالفقر والحاجة والجوع. وقد خطر لى أن أنظر فى المعجمين الفرنسيين اللذين سلفت الإشارة إليهما قبل قليل لأنهما صدرا فى عصره، توقعًا منى أن يكون أخذ هذه الكلمة عنهما أو عن أحدهما، فصح ظنى، إذ وجدتها فى قاموس مورفى، أما بقطر فذكر لفظتين أخريين هما: "كثير الرمال، رملى"، وهما اللفظتان اللتان نستعملها.

وبالنسبة لــ"كيرات الحديد"، فمن المعروف أن "الكِير" (أو الكُور) مجرد آلة لنفخ النار وزيادة إضرامها، ويوجد فى دكاكين الحدادين، أما "المسبك" فمصنع لصهر المعادن وسبكها، ويحتوى على آلات وتجهيزات، ويستخدم عمالا، وله إدارة تصرّف أموره... وهكذا. إن الكير ليس سوى آلة من الآلات التى تستخدم فى المسبك، وليست إياه، إلا أن رفاعة، رحمه الله، لم يتنبه إلى ذلك، إذ إن الفرنسية تستعمل كلمة واحدة لهما جميعا هى كلمة: "une forge" (هكذا: "atelier où l’on travaille les métaux au feu"، "fourneau à soufflerie" طبقا لما جاء فى قاموس "صخر" المشباكى)، ثم يقوم السياق بتحديد المعنى المراد. وليس المقصود وصف المدينة بأن بها أكوار حدادة، بل مسابك. ولقد رجعت إلى قَامُوسَىْ مورفى وبقطر فألفيتهما لا يذكران للكلمة إلا معنى واحدا هو "الكور/ الكير"، فهل هذا هو السبب فى أن رفاعة قد ترجمها على هذا النحو؟ كذلك لا ينبغى أن ننسى ما يعترى المترجمين من السهو والخلط والنسيان وسبق الذهن... إلخ. إن الترجمة مهمة شاقة ومزعجة، وإن كانت لها عند عشاقها لذة مع ذلك كبيرة. إنها تذكّر باللذة التى أشار إليها أبو تمام بما قاله فى رائعته البائية يخاطب الخليفة المعتصم بعد عودته مظفرا من أرض الروم انتقاما مما فعلوه مع امرأة عربية اعتدوا عليها قرب الحدود فصاحت تستنجد بالخليفة، الذى كان بينه وبينها آلاف الأميال فاستجاب لها فى الحال. وياليت حكام المسلمين يتمتعون بــ"بعض شىء" من نخوة ذلك الرجل. لكنها، بكل يقين، أمنية ضائعة فى الهواء، لأن الناس الذين يحكهم هؤلاء المحرومون من النخوة هم مثلهم فى انعدام النخوة وأضرط. طينةٌ منتنة بعضها من بعض. قال أبو تمام:

بَصُرْتَ بالراحة الكبرى فلم ترها * تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ

أما شعوبنا فتريد أن تحصل على كل شىء بالفهلوة والشخير والنوم فى المجارى المنتنة، وهذا لا يمكن أن يكون لأن الله قد صمم كونه على قوانين أخرى غير قوانين الشخير والنخير، وهى قوانين لا تعرفها شعوبنا ولم يأتها خبرها، فهى مشغولة بما هو أهم وأبقى فى نظرها. نعم، مشغولة بالتفاهات التى على شاكلتها، فلتشرب إذن من كيعانها!

كذلك لم أَلْقَ فى قاموس إلياس بقطر، فى ترجمته لكلمتَىْ "peninsule" و"presqu’île"، إلا "جزيرة". أما قاموس مورفى فيخلو تماما من الكلمتين الفرنسيتين. والواقع أنه لولا عثورى، بعد رحلة بحث وتحرٍّ، على مصطلح "شبه الجزيرة" فى النصوص العربية القديمة التالية لظننت أن هذا المصطلح لم يكن قد ظهر بعد فى اللسان العربى. جاء فى كتاب "أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم" للمقدسى: "منارة الإسكندرية قد أرسي أساسها في شبه جزيرة صغيرة يدخل إليها في طريق ضيقة بالصخر محكمة، فالماء يسطع المنارة من جانب الغرب، وكذلك حصن المدينة، إلا أن المنارة في جزيرة". وفى "سفر نامة" لناصر خسرو نقرأ: "وفي الاصطلاح يقال لليمن: حِمْيَر، وللحجاز: العرب. ويحيط البحر البلدين من ثلاث جهات، فهما شبه جزيرة يحدها شرقًا بحر البصرة، وغربًا بحر القلزم، الذي تقدَّم أنه خليج، وجنوبا البحر المحيط. وطول شبه الجزيرة هذه، التي هي اليمن والحجاز، من الكوفة إلى عدن، أي من الشمال إلى الجنوب، خمسمائة فرسخ". وفى "معجم البلدان" لياقوت: "وللمنصورة خليج من نهر مهران يحيط بالبلد، فهي منه في شبه الجزيرة". وفى "الزيج" للبتانى: "وصارت هذه الأرض شبه الجزيرة، وسَمَّوْها: أوروفي". أما "البحيثجزيرة" فلا أدرى من أين أتى رفاعة بها ولا ما هو وجه الحكمة فى استعماله لها فى هذا المعنى. ولعله كان فى يده معجم فرنسى عربى غير مُعْجَمَىْ مورفى وبقطر.

هذا، ولا تخلو الترجمة من أخطاء فى فهم النص أو من الزيادة فيه أو النقصان منه أو التجوز أو الغموض فى نقل مضمونه إلى العربية، وإن لم يكن هذا كثيرا، كما أنه ليس شيئا خاصا بالطهطاوى، بل يقع من معظم المترجمين كما دلتنى تجاربى فى هذا الميدان: فمثلا نجده، رحمه الله، يقول عن كتاب أبى الفدا: "تقويم البلدان" إنه "كان فى عزم المعلم جريوس أن يطبع هذا الكتاب المهم فى الجغرافيا فصنع من ذلك قطعة على سبيل التجربة من الجزء الرابع فى صغار جغرافيين هدسون" (ص144). وهو نص لا يُفْهَم الجزء الأخير منه على أى وضع. لكن إذا ما رجعنا إلى الأصل الفرنسى وجدنا الآتى: "Greaves avait eu l’intention de publier cet ouvrage, d’une importance majeur pour la géographie; il en fit un essai en insérant dans la quatrième partie du Recueil des petits géographes d’Hudson". ومعناه أن المستشرق جريفْس كان فى نيته أن يطبع هذا العمل الفائق الأهمية فى عالم الجغرافيا، فقام بتجربة محدودة فى هذا الصدد، إذ ضمّن قطعة منه الجزء الرابع من كتاب هدسون، وهو مجموعة من النصوص المختارة من كتابات صغار الجغرافيين. ولنلاحظ كيف قلب الطهطاوى حرف الــ"v" فى "Greaves" إلى"ياء" كعادته بطول الكتاب.

وبعد هذا ببضعة أسطر نجده يقول: "إن أمة العرب عرفت أصالةً الأراضى التى تمسكت بالكتاب والسنة..." (ص144)، والترجمة الدقيقة تقول إن الجغرافيين العرب عرفوا بوجه أساسى البلاد التى كانت قد دخلت فى الإسلام. صحيح أن المؤلف لم يقل بالضبط: "التى دخلت الإسلام"، بل قال: "التى اعتنقت عقيدة القرآن" أو شيئا من ذلك القبيل: "les payes qui avaient embrassé la doctrine du Koran" (P. 196)، إلا أن هذا هو المعنى الذى يريده من وراء تلك العبارة. أما تمسّكها بالكتاب والسنة فلم يَدُرْ لمالطبرون ببال، إذ هو لا يحكم على مدى إخلاصها فى تدينها، كما أنه ليس خطيبا مسلما يخاطب جمهور المصلين يوم الجمعة، بل كل ما يريده هو الإشارة إلى أنها أمم إسلامية.

ولا تخلو الترجمة من بعض الأخطاء الطريفة، والطهطاوى معذور فيها، إذ لا يمكن أن نكلفه هو أو غيره الإحاطة بكل شىء فى كل ميدان من ميادين المعرفة. ولا يصح القول بأنه ما كان ينبغى له التصدى لترجمة مثل هذا الكتاب الذى بين أيدينا ما دام لا يستطيع توفير كل ما يحتاج له من مراجع تعينه على تجنب مثل تلك الأخطاء، وإلا لكان عليه الانتظار عشرات السنين إلى أن تكثر المراجع والموسوعات التى من شأنها أن تعينه على توقى الأخطاء التى من هذا النوع فى الوقت الذى لا تستطيع النهضة العلمية أن تنتظر كل ذلك الوقت. وأنا، وهذا مجرد مثال، قد كومت حولى عددا كبيرا من تلك المراجع حتى أجد أية معلومة أحتاجها، فليست المسألة مسألة ذهن يحيط بكل شىء، بل مسألة مصادر ومراجع وصبر ومنهج صارم ورغبة فى الوصول إلى الحقيقة مهما جشمت الإنسان من متاعب وجهود مضنية.

ومن تلك الأخطاء الطريفة التى وقعت فى الترجمة كتابته اسْمَىْ راهبين لبنانيين مارونيين بذات الطريقة التى كتبهما بها المؤلف الدانمركى المتفرنس، إذ حافظ على نطقهما اللاتينى فكتبهما: "جبرمئل (جبرئيل؟) سيونيطا، ويوحنا ترونيطا" طبقا لما جاء فى النص التالى: "وقد طُبِع كتاب الشريف الإدريسى فى رومة باللغة العربية سنة 1592، ورئيس نو التمس من شخصين من الموارنة يقال لأحدهما: جبرمئل سيونيطا، والآخر: يوحنا بسترونيطا، أن يترجماه باللغة اللاطينية، ففعلا، وسمياه: "الجغرافيا النوبية" وطبعاه. وكلتا هاتين الطبعتين ليستا إلا لمختصرين من كتاب عظيم تلف فى حريقة الأسكوريال..." (ص143). والاسمان الصحيحان هما: "جبرائيل الصهيونى" و"يوحنا الحصرونى". وكنت قد وقفت محتارا أمام هذه المسألة، إلى أن تنبهت إلى أن سيونيطا، كما هى مكتوبة بالحروف اللاتينية، يمكن أن تكون صيغة النسب إلى صهيون، فجربت هذا المفتاح فإذا به يفتح لى كوة نفذت منها إلى أن عرفت الاسم الآخر فى صيغته العربية. كما خمنت أن يكون الدكتور عبد الرحمن بدوى قد كتب عنهما أو عن أحدهما فى "موسوعة المستشرقين" فصح ظنى ووجدته خصص فعلا لجبرائيل الصهيونى مادة فى تلك الموسوعة أشار فيها إلى الحصرونى أيضا... إلخ. أقول هذا كى يطلع القارئ على الطريقة التى يصيب بها الكاتب أحيانا الحقيقة التى يبحث عنها وليعرف مقدار التعب الذى يتجشمه فى هذا السبيل. وكم من مرة ظللت أبحث عن معلومة أو تاريخ أو رقم أسابيع أو شهورا، وأحيانا أعواما. وقد ينتهى بى الأمر بعد هذا كله إلى لاشىء. إنها معركة مع الجهل، أريد أن أنتصر عليه فأنجح أحيانا، وأحيانا ينجح هو. وهكذا تمضى الحياة. على أنه، لولا توفر الأصل الفرنسى لى ما كان بمستطاعى جلاء بعض المعمَّيَات. وعلى أية حال فها هى هذه ترجمتا هذين المارونيين كما استُقِيَتا من "المخطوطات العربية" للويس شيخو، و"معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة، و"معجم المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى: فالأول كان قَسًّا فمطرانا للطائفة المارونية بطرابلس، وتُوُفِّىَ فى روما حيث كان يشتغل فى المدرسة المارونيّة التى أنشأها هناك البابا غريغوريوس الثالث عشر سنة 1584م. ومن آثاره: "مناقضات القرآن"، و"قواعد الإنجيل" و"العلوم الرسولية". والثانى كان أحد التلاميذ الذين تعلموا فى المدرسة المذكورة، ثم اشتغل بعد تخرجه منها فى جامعة روما قبل أن ينتقل للعمل بباريس مترجما خاصا للويس الثالث عشر. كما اشترك فى ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية والسريانية، وصنَّف بعض الكتب الدينية.

ومن هذه الأخطاء الطريفة أيضا قراءة الطهطاوى اسم "El-Bakoui" على أنه "البَغَوِىّ" (ص144). ولا أكتم القراء أننى فى بداءة الأمر شعرت بالسخط على نفسى لعجزى عن التخمين، كما صنع الطهطاوى، بأنه هو "البغوى"، وإن ظللت رغم هذا أستغرب أن يكون هناك جغرافى عربى يلقب بــ"البغوى" مثل المفسر المشهور، وبخاصة أنه ليس من عادة المستشرقين الرمز إلى الغين بحرف الــ"q"، بل يرمزون إليها بــ"gh"، وقد كُتِبَت البغوى هكذا: "El-Bakoui" بالـ"q" لا بالـ"gh"، علاوة على وجود "o" بعد الــ"q"، على حين أن الغين فى "البغوى" مفتوحة. ثم لم أمض فى القراءة بضعة أسطر حتى تنبهت إلى ما ذكره مالطبرون من أن ذلك العالم من مدينة باكو، فسرعان ما رن فى خاطرى السؤال التالى: أيمكن أن تكون الكلمة هى النسبة إلى "باكو"؟ ولكنْ، للمرة الثانية، ظللت أشعر بالاستغراب أن يكون هناك عالم مسلم فى تلك العصور يلقب بالــ"باكُوِىّ". بيد أن ما استغربته كان هو الصواب، إذ ذهبت إلى كتاب كراتشكوفسكى، الذى يعد موسوعة فى بابه، وبحثت عن جغرافى مسلم قديم يسمى: "الباكُوِىّ"، لأجد فعلا أنه كان هناك فعلا جغرافى بهذا اللقب الغريب. وهذا الباكوى، واسمه كاملا عبد الرشيد بن صالح بن نورى الباكوى، كان يعيش فى القرنين الثامن والتاسع الهجريين (الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين)، وإن كان هناك خلاف حول اسمه الحقيقى رغم هذا. لكنْ يبقى أن قراءة الطهاوى لكلمة "El-Bakoui" لم تصب الهدف، مثلما لم تصبه ترجمتُه للعنوان الفرنسى لكتاب الباكُوِىّ، إذ أعاده إلى العربية بالمعنى قائلا إنه "عجائب المولى القادر فى أرضه: Les merveilles de la toute-puissance sur la terre" (P. 185)، وهو العنوان الذى أثار دهشتى واستبعدت أن يكون صحيحا، فهو لا يحمل نكهة عناوين ذلك الوقت. أما العنوان الحقيقى فهو "تلخيص الآثار وعجائب الملك القهار" (انظر كراتشكوفسكى/ تاريخ الأدب الجغرافى العربى/ ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القسم الثانى/1965م/ 517 وما بعدها، وإن كنت قرأت فى مرجع آخر أن اسمه هو "تلخيص الآثار فى عجائب الأقطار").

وواضح أن العنوان كما أورده كراتشكوفسكى هو الذى يتمشى مع الترجمة الفرنسية وترجمة رفاعة لتلك الترجمة. ومعروف أن العناوين، كالأسماء، لا يصح فيها القول بالمعنى. صحيح أننا نظلم رفاعة ونجشمه من الأمر ما لا يستطيع إذا ما انتظرنا منه أن يلم بمثل تلك المعلومات الخاصة بكتب التراث فى ذلك الوقت الذى لم يكن قد طُبِع فيه من المخطوطات العربية، على الأقل: فى مصر، إلا القليل القليل القليل، ولم تكن هناك مكتبات عامة تعوض القارئ عن شحة الكتب فى مكتبته الخاصة. لكنه ما كان ينبغى أن يقدم على ترجمة العنوان بالمعنى ثم يلزم الصمت، موهما بذلك القارئَ أن هذا هو العنوان الصحيح وأن اسم المؤلف هو كذلك الاسم الصحيح، بل كان ينبغى أن يذكر، ولو فى الهامش، أن هذا وذاك هما محض اجتهاد منه. وبالمناسبة فلعله يكون مقبولا منى أن أشير هنا إلى عثورى، فى كتاب "التدوين فى أخبار قزوين" للإمام الرافعى، على "باكُوِىٍّ" آخر هو "أبو إسحاق إبراهيم بن خشنام بن إسحاق الباكوى"، وهو من رواة الحديث المتأخرين.

وهناك مواضع، وإن كانت قليلة، نجد فيها رفاعة يطنب فى ترجمة بعض العبارات، كما هو الحال مثلا فى العبارة الفرنسية التالية التى لا تعنى أكثر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أيقظ العبقرية العربية: "Ce people, don’t le génie avait était reveillé par Mahomet…"، والتى ترجمها رفاعة قائلا: "وهؤلاء الأمم التى أيقظهم محمدعليه الصلاة والسلام من الغفلات وأنقذهم من حيرتهم فى غياهب الجهالات...". ولينظر القارئ ليتبين بنفسه الفرق بين ما سطره يراع الكاتب الفرنسى وما سجله قلم عالمنا المصرى.

وهناك، على العكس من هذا أيضا، عبارات فى كتاب مالطبرون لا نجد ما يقابلها فى ترجمة الطهطاوى، ولا أستطيع الجزم بالسبب فى هذا، وهل هو سهو من المترجم كما يحدث لكل المترجمين تقريبا جراء انتقال أعينهم فى الصفحة الواحدة مئات المرات ذهابا وإيابا، مما يرهق الذهن ويصيبه بالكلال والهمود؟ أم هل هو زيادة فى الطبعة الجديدة التى ظهرت بعد انتهاء رفاعة من ترجمته؟ لا أدرى. فعلى سبيل المثال هناك فقرة من 25 سطرا موضعها بعد الفقرة الخاصة بالباكوى (P. 186- 187) تتناول الحديث عن ابن بطوطة لا نرى لها أى أثر فى ترجمة رفاعة، وكان ينبغى أن يكون مكانها فى ص144. أما فى الفقرة المخصصة لشمال آسيا فقد ذكر مالطبرون عددا من الأسباب التى منعت الغرباء من التوغل فى تلك المناطق منها تراكم الثلوج فى فصل الشتاء وتوحش طباع أهلها وضيق شعاب جبالها، وهو ما أشار إلى أنه قد أخذه من بعض المراجع الأوربية. بيد أن لرفاعة رأيا آخر، إذ نسب هذا الكلام صراحةً إلى العرب أنفسهم مقدما إياه بعبارة "وقالت العرب" (أسفل ص147). وثم سهو وقع من رفاعة ترتب عليه أنْ أحلّ اسم "ابن فضلان" مكان اسم "الإدريسى"، الذى لم يجئ له ذكر فى ذلك الموضع. وإلى القارئ ما قاله رفاعة: "ولكن لما كانت هذه البلاد غير مطروقة من ذلك العهد إلا قليلا وكانت مدنها وممالكها تنقرض كما تتلاشى الرمال بهبوب عواصف الرياح بقى ما أفادته العرب فى شأنها، لا سيما الإدرسى، خفيا لا يمكن الوقوف على حقيقته" (ص146). ثم ها هى ذى ترجمة النص الفرنسى بقلمى أنا، ومنها يتبين موضع السهو: "ولكن لأن تلك البلاد لم يزرها أحد منذ ذلك العهد إلا فى الندرة، ولأن المدن والممالك التى كانت هناك قد تلاشت كما تتلاشى التلال الرملية أمام هبوب الرياح العاصفة، فإن ما كتبه الجغرافيون العرب عنها، ومنهم ابن فضلان ذاته، بقى يلفه بعض الغموض" (P. 188).

وفى الصفحة التى تلى هذا عند رفاعة نلاحظ سقوط كلمة "نهر" من إحدى الجمل، وهو ما ترتب عليه غموض المعنى المراد. قال رفاعة: "وفى الدلطة (الدلتا) المصنوعة من ماديرة مدينة تسمى: رمانا". والمقصود أن هذه الدلتا تدين بوجودها لنهر ماديرة (le fleuve Madura). فبدون كلمة"نهر" لا يتضح مقصد المؤلف. ومن غموض الترجمة أيضا قول الطهطاوى عن ابن الوردى صاحب "خريدة العجائب وفريدة الغرائب": "إن له كتابا فى الجغرافيا الطبيعية... ذكر فيه تفاصيل ما يتعلق بالمواليد الثلاثة، وأطنب فى الكلام عن أفريقة وبلاد العرب والشام، ولكنه أوجز فيما يتعلق بأوربا والهند وشمال آسيا" (ص144)، وهو كلام غير مفهوم ولا يمكن تصوره. وعلة ذلك أنه قد اختصر الكلام وأسقط بعض ألفاظه (سهوا أم عن وعى وقصد؟ لا أدرى)، علاوة على أن قوله: "المواليد الثلاثة" لا معنى له فى هذا السياق، إلا إذا كان لديه شىء أجهله أنا جعله يقول ما قال. ذلك أن النص فى أصله الفرنسى يجرى على النحو التالى: "Ibn-al-Ouardi composa à Alep…un ouvrage de géographie physique, intitulé ’la Perle des merveilles’. Il y a semé beaucoup de détails d’histoire des trois règnes de la nature. Il entre dans de grands détails sur l’Afrique, l’Arabie et la Syrie, mais il est très succinct sur l’Europe, l’Inde et le nord de l’Asie". والكلام، كما هو واضح، يدور حول الممالك الثلاث التى أطنب ابن الوردى فى الحديث عن تاريخها بالتفصيل، وهى أفريقيا وبلاد العرب والشام، خلافا لما صنعه لدن حديثه عن أورباوالهند وشمال آسيا. ومن ثم يتضح أنه لا موضع هنا لــ"المواليد الثلاثة" التى ذكرها الطهطاوى، اللهم إلا إذا كان هناك من الأمر ما لا أعلمه، وهو جائز، وإن كنت أستبعده. ولعل المسألة كلها من أخطاء الطباعة.

ملاحظات وتفسيرات

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى