الجمعة ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

الحاجز الثالث عشر!

بسبب الحصار الذي يعيشونه، يقعد أبو مهيوب مع (أبو غازي)، صاحب دكان الفالوجة ذي الزبائن الذين يأتون، ولا يأتون. يستمعان إلى الأخبار، فلا تبقى إذاعة تبث برنامجاً إخبارياً، إلا ويبحث أبو غازي عنها. تجده يتشمّم الأخبار، لعل وعسى يكتشف نوراً في نهاية نفق العروبة المظلم، وأحياناً يتابع الأخبار وهو يلعب معه ورق الشدة، وأحياناً يساعده في رش ماء على خضار الصناديق، كي لا تذبل بسبب الحر، وبسبب ضعف القوة الشرائية، فيضطر أبو مهيوب للمشاركة في الخدمة، ويتسلى معه برش الماء، وترتيب عرضها سائلاًً: "كيف حركة السوق اليوم يا(ابو غازي)؟"

" مثل العمى! الأحوال تتردى يوماً بعد يوم. فالحاجز الثالث عشر الذي نصبوه بين المعسكر والمدينة، خنقنا، وجعلنا ندور كل يوم في حركة التفافية، ونقطع حفريات ومتاريس ، وخنادق وطرقات، وشوارع ترابية، طولها ألف عام. في كل مكان تجدهم يقولون لك" : قف! ممنوع المرور..قف! ممنوع المرور! قف! ممنوع المرور! ونستمر هكذا. نقف ثم نعود أدراجنا، ثم نقف فنعود، ثم نقف، ثم نعود.. ندور مثل أمنا هاجر المصرية، التي راحت تسعى بين الصفا والمروة، باحثة عن نقطة ماء، تبل ريق ابنها إسماعيل.

يجلس أبو مهيوب، مُسنداً خدّه على يده، يُحدِّث نفسه، حزيناً على شقائه وسوء حظه : "لا أعرف لماذا ربنا سبحانه (جايبها معي بالمقلوب!)"

يمرّ أمامه طيف ابنه المقاوم مهيوب، الذي كان يقضي معظم وقته مع الرفاق، في أماكن لا يستدل عليها حتى الجنّ الأزرق، ولكن أخبار تحركاته كانت تصل تباعاً للمحتلين! (أولاد الحرام لا تنام، ولا..!) الجواسيس يعرفون أكثر من الجن الأزرق. هم ينشطون لخدمة الاحتلال، والمقاومون ينشطون لخدمة الوطن! كان تحديه للريح القادمة من الشمال الغربي، ومقاومته دخولها من بين أغصان الأشجار المتكاثفة التي تمد أذرعها مشبوكة لحماية جماعة المقاومة، وتغطية تحركاتهم.ولكنهم يدخلون من جميع الجهات. لا، إنهم لا يدخلون، بل يجبنون في أماكنهم وهم يصرخون بمكبرات الصوت:

" يا مهيوب، يا "إرهابي"، اخرج من المغارة عارياً مستسلماً، زاحفاً على يديك. اخرج كما ولدتك أمك! اخرج، وإلا..!

يفكّر مهيوب كثيراً قبل أن يقرر:

" هل أخرج إليهم عارياً زاحفاً ذليلاً، كما ولدتني أمي؟ ولكن أمي لم تلدني ذليلاً ، بل حراً على رأي عمر بن الخطاب! ما داموا بهذه الكثرة والأسلحة الفتاكة، فهل أهرب من منفذ ما؟ لو هربت، لانتشر الخبر بأنني جبان! ولو قاومت فسوف يقتلونني! ولكنني أدخل هذا الطريق، وأنا أعرف أن تجارتي ربح ، أو خسارة. فإما أن أربح أرواح المحتلين المعتدين، وإما أن أخسر روحي. وأنا قبلت هذه التجارة.(يا ربح. يا خسارة!) وحتى لو قررت الهروب.فلا يوجد منفذ. ولا بد من المواجهة. ولكنني لن أخرج عارياً ذليلاً، فأنا لم تلدني أمي ذليلاً كما يتخيلون!" يسحب أقسام رشاشه العوزي، الذي كان قد اختطفه من أحد الآليين، ويتهيأ للمعركة الأخيرة!

يتجمع الناس من بعيد، وهم يشاهدون طائرات أباتشي، ويسمعون أصوات طلقات رشاشات مرعبة. يراقبون الحدث بتوتُّر عالٍ، ولكن ما باليد حيلة، فقد يُفَجِّرون المغارة بقنبلة غبية. عليك أن تخرج يا مهيوب، فأنت مهيوب طوال عمرك.لا تمت يا مهيوب فطيساً داخل المغارة.اخرج وواجههم بسلاحك. ليس أمامه من سبيل سوى المواجهة.أن يكسب شيئاً في هذه المواجهة، أفضل من أن يخسر كل شيء! يخرج مهيوب وهو يرش في كل الاتجاهات، فيقتل أحد المهاجمين، ولكنه يستشهد في الواقعة، إذ يخترق الرصاص كل أنحاء جسده.

ينسحب الآليون بدوريتهم المؤللة، فيهجم الناس والجيران، ويحملون جسده المثقب كالغربال والمخضّب بالدماء، ويجمعونه في كفن، ويغطونه بالعلم الفلسطيني، ثم ينقلون نعشه بمظاهرة كبرى لم يسبق لها مثيل.. يسيرون به عبر شوارع المعسكر، ويسرعون بدفنه في مقبرة الشهداء..

وفي الليل، تتجمع النساء في بيت (أبو مهيوب)، ويتحلّق الرجال حول حوش البيت الصفيحي الصغير، يعزّون أهل الشهيد وعشيرته، ويتضامنون معهم، بينما النساء تغني أغاني من نفس النوع الذي نسمعه في الأفراح! يغنون ويدبكون، حتى يشبعون!

(سَبّل عيونه، ومَدّ ايدُه، يحنّونه،

خصرُه رقَيِّق، وبالمنديل يلفّونه!

غزالِ بالبرِّ شارد، ويَا امّاه رُدّونه !)

كان أبو مهيوب قبل استشهاد ابنه قد زوّج بناته الثلاث، هاجر ومريم وخديجة، زيجة محترمة أو مُزَفّتة! المهم أنه زوجهن، وستر عليهن، وتخلص من مسؤوليتهن، قبل هذه المأساة التي صبغت حياتهم باللون الأسود. فقد أعاد لـه استشهاد ابنه التاريخ من جديد. تاريخ تهجيرهم من الفالوجة، عام ثمانية وأربعين، عندما قتلوا أباه وعدداً من المقاومين أيامها. كانت مجرد مقاومة شعبية، شعبية لأنهم بلا حكومة، وبلا جيش، وبلا تنظيم. ومنذ ذلك اليوم، وحتى هذا اليوم وهم بلا حكومة، وبلا جيش، ولكن صارت لهم عدّة تنظيمات! وأيامها قام المحتلون بهدم كل بيوت القرية لإخفاء آثار جرائمهم، لم يكن هناك تلفاز يصور هدم البيوت، وقتل آلاف الأبرياء المسالمين الساكنين في بيوتهم، وكان بيتهم مبنياً من الحجر الأبيض، ومكحلاً بالإسمنت الأسود، أجمل من كحل عيون المها. ولكنهم قتلوا (عيون المها بين الرصافة والجسر..) وها هي الحضارة الديمقراطية التكنولوجية، والأسلحة الذكية الغبية المنفلتة من عقالها ، تلاحقهم من جديد في المنافي، فتقتلهم كل يوم!

حزنت أم مهيوب على استشهاد ولدها حزناً شديداً، أقعدها وشلّ حركتها، فذوت وذبلت أوراقها، وتخشّبت أطرافها، وتوقف سريان السيولة العصارية في جسدها، فبردت أجزاء من ذلك الجسد، الذي كان يفور حرارة وحيوية وحركة. ولم ينتبه أبو مهيوب لتراجع حالة زوجه، وهدوء حركتها، وضعف بصرها. لم تكن تنوح، أو تلطم خديها، بل كانت تذوب رويداً رويداً، وكان جسدها يتضاءل، كذوبان شموع متراصة متّقِدة من بعضها البعض، إلى أن انكمشت، وكادت تتوارى عن الأنظار لشدة هزالها. أخذها أبو مهيوب إلى عيادة المعسكر، ففحصها الطبيب، وحوّلها فوراً إلى مستشفى الرأفة، الكائن في غرب مدينة الحصار، وهناك فحصوها، وخرج من المختبر تقرير أسود، يشرح إصابتها بالسرطان، المنتشر في كل أجزاء جسمها، وأن حالتها ميؤوس منها. وكان موتها خاتمة مرّة، لحياة أسرة عانت كثيراً !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى