السبت ٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

عيونُ شيراز تبكي المقام الزكيّ

" أيْ حافظُ انظرْ إليَّ أنا طالبُ الأسوار وأنتَ كاشف الحظ أقسمُ عليك بالقرآن الذي حفظته في صدرك وبـ "شاخ نبات"(1) التي عشِقتَها أن تأخذ لي الطالع"(2)

في حديقة حافظ الشيرازي وأمام قبره الرخامي بلون الماء وقفتُ أبدِّدُ جمال المكان بالكلمات في ذلك الغروب الساكن الملفوف بالأنوار الخافتة التي تخرجك من تجاعيد الدنيا الصاخبة لتجد نفسك في عالم نوراني في بياض الثلج وفي لين الغمائم وأريج المطر، وقفتُ وشدوتُ بشعره الإلهي وحْيًا من كلمات بلغةٍ عربيةٍ استغرب لها رفاقي الأوروبيون، لم يتصوروا أني أفعلها: أنشد شعر حافظ الشيرازي بجانب ضريحه النائم وأمام جمعٍ من الرواد الإيرانيين ولكني لم آبهْ بهم، كنتُ وقتها قد وطئتُ عالمه العجائبي المتلألئ بالأزمان والكلمات والأنوار وكان ذلك اللفيف من الإيرانيين قد تجمَّعوا حولي مشدوهين أمام هذا الرجل الغريب الذي يلقي بكلماته بصوت متشوِّقٍ صوت مريد يبكي شيخه النائم منذ مئات السنين كنتُ أشعر أني أنفذ إلى زمن لانهائي تسمع فيه تمائم " أبي يزيد" وأشعار " الحلاج " وسطوة " ابن عربي" هو زمن الحب الذي لا ينتهي كنتُ أغرق في بحر النور والكلمات حينَ أحسسْتُ بأنامل من ماء وياسمين يد امرأة تمسك بيدي ففتحتُ عينيَّ بتثاقلٍ فوجدتُها أمامي بذلك البياض الشمعيّ البض، لم أصدِّقْ أن هذه التي وقفت أمامي مثل شجرة سروٍ فارسية بجانب الضريح تخاطبني أنا، فقد ظللتُ مفتونا بالذي أرى، كان ياسمين وجهها الصباحي المتلألئ وسط ظلمة خمارها الأسود مثيرا، كان نسيم الغروب الجامح يصافح خصلات شعرها الفاحم، وجهُها الدائري الحريري أغراني رغم سَكْرة الشعر والمكان، ألهبني نبيذُ شفتيها الكسول المعتَّق على أسنان من العاج والرحيق، كانت تكلمني ولكنِّي لم أكن أسمعها، تداخلتْ عليَّ حروفٌ من ياسمين وشفتان من حريرٍ قرمزيٍّ وبنفسج، دفءٌ حاطني الغروبُ به وأشجار السرْوِ تلوِّحُ لي من بعيد وتغلِّف الأنوار بروح الحب وعشق الليل والجمال. تلك الأشجار برائحتها العجيبة هي مزيج من نور برائحة تفاح فارس وأَلَقِ زُخْرُفِ سَمَرْقَنْد وحفيف هوى الصحراء الندية.

توقفْتُ عن إلقاء شعره ورواد حديقته يتطلعون إليَّ في دهشةٍ وتلك المرأة تحدق فيَّ بضياعٍ وحُرقةٍ وجدْتُني أنظر إليها بجنون جميل، ورأيتها تمضغ حبات السكر السائلة في فمها حين تتكلم، قالتْ بإنجليزية مُتعثِّرة:

  هل أنت َ مجنون؟

أجبتها بعربية ثملة:

 نعم..مجنون بشهد فمك وظلال شفتيك....أنا ذاك الذي يلقي بتاجه المتوتر في حضن المنتظرات على الموانئ الباردة تأمَّلتُ عينيها العميقتين لا أدري أين رأيتهما..نعم رأيتهما مازالتا محفورتين في طيات قلبي وفردوس روحي الملتهبة في نار ضريحه المائي نعم تذكرتها..إنها هي " ليلى عياد" بصدرها الجريء ويديها المحتشمتين..كانت كأنها أمامي في مقامه الزكي أبحث عن " فالي" (3) لأسكبه في جدائل عشق قُطْبِه المسكون نعم هي " ليلى عياد" بنفس الصورة التي تثيرني: شعرها الأسود بخصلاته القصيرة الحائرة النائمة على كتفيها، بلوزتها السوداء الداكنة وتنورتها الحمراء حتى الركبتين والجوارب الشفافة الرمادية والكعب العالي الدقيق، تمسك ذراعي مسرعةً تتلقفنا أزقة مدينة تونس بين جامع الزيتونة وسوق العطارين، لا أنسى أبدا رائحة عطرها، هو لم يكن عطرها بل رائحة جسدها التي ترقص دائما بين أنفي وفمي، معها عرفتُ أن العطر يمكن أن نتذوقه، كان عطرا لذيذا بطعم الطفولة والسكَّر، كل الأماكن التي ارتدناها لا أتذكرها جيدا لقد ارتبطت باسمها " ليلى عياد " جنيةٌ خرجتْ للتو من جنان الرمان في الجنوب، كانت تبدو ممتلئة من بعيد ولكن ما إن تقترب منك حتى يبدو لك جسدها لمَّاعا متناسقا مثل سمكة راقصة أما ساقاها فطويلتان رشيقتان كانت وهي تمشي تبدو وكأنها ترقص التانغو بكعبها العالي ويديها المكتوفتين دائما بحيث تُخْفي إحداهما كتابا تحت إبطها تقرأه كلما وجدَتْ فراغا من يومها، رأيتُ في عينيها خضرةَ الشجر وزرقةَ البحر في هضبة سيدي بوسعيد شمال تونس العاصمة تلك الحورية لا أنساها وهي تجري تحت المطر على طول ميناء سيدي بوسعيد ممسكةً بحذائها فاتحةً ذراعيها وما إن تصلني حتى ترتمي بين ذراعيَّ ضاحكةً فأشعر بطعم عطرها يدغدغ حلقي كانت جنيَّةً لعينة مخلوقا من حبٍّ وجمال وفن، رائحتها مازالت هنا هي حشدٌ من الذكريات والكلمات، تفوح منها رائحة الشتاء في ثيابها ورائحة نسيم الثلج في الجبال تقطر كالمطر على عنقها الأبيض الطويل هي رائحة قبلاتها الصامتة الندية وعينيها المغمضتين وكفيها المرتعشتين، شعرها المبتل بعرق اللذة الخجول يتملى عشقنا بوقاحة وجنون..

قالت لي يوما " لا أريد أن أتزوجك لأني أحبك"، لم أحبها يوما بالشكل الذي تريد ولكن عذوبة الأيام تخفي شوك الليالي، صوتها ببحَّته اللذيذة صوتها القمري يداعب وجهي مثل نسيم البحر قبل طلوع الشمس..كان صوتها ربانيا مثل " نجاة الصغيرة" ولكنه بسحر " ليلى عياد"..

كانت تقول دائما لنبتعدْ عن فقر الأحياء لنرى تخمة الأحياء، في ذاتها الملونة بثراء الشمال وخواء الجنوب كانت بأفكارها السحرية لديها مسحة من الفن والجمال في الجمع بين ترشُّف الصباح في فناجين المقاهي وتفكيك منظر المدينة الذي أضحى حسَبَ رأيها مسخا من بهاء ومساحيق، قالت لي ذات صدفةٍ عندما تنقشع الغيوم ستغرق العاصمة في الأكاذيب والتماثيل لقد تحولت العاصمة إلى صفين من الأشجار الأنيقة وجيش من الأحذية والملابس المستعملة وحوانيت السينما والجرذان، في الأيام الأخيرة أخذ الجمال معها معنى الموت، مدينة مثقلة عاجزة ممزقة بين هضابها المترفة وسباخها العارية الفقيرة التي تغلفها بقايا من تاريخ وعار، قبل أن ترحل كرهتْ الفكرة وذابت في الواقع المالح ففتحت عيني على وجه آخر للمدينة هو وجه ذلك المترو بخضرته اللاذعة التي خنقت الطريق والأطفال هو وجه العرق الكريه الذي أتخم الحافلات هو وجه البالوعات التي تتقيأ الحلمَ والشعارات والتائهين، إنهم يذبحون الفكرة ويقتلون الجياد ويزرعون القيح والصدأ في حدائقهم لقد حل زمن البشاعة والتيه....في ذلك الصيف عادت إلى بلدة الريح والبحر في الجنوب وذات يوم قائض جاءتني وقالت لي بمرارة ويداها مفرودتان: لقد كرهتُ الحبَّ..هل تتزوجني؟!!

بنفس النظرة الغائمة خنقتْني أشجار السرو الفارسية في الحديقة ولم يستطع ذلك الشعرُ أن يُنسيني رهبةَ المكان، سَكَتَ الكلام ُ وطوَيْتُ الذكريات والمرأةُ المنتظرةُ المحدِّقةُ تقول بنفس اللغة المتعثرة:

  عَمَّ تتحدّث...أنا لا أفهمُ العربيَّة..!!
 
و مَدَّتْ يدها فَغَرِقْتُ في الظلام..........

 [1]


[1(1) اسم المرأة التي أحبها الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي.

(2) دعاء شائع يذكره الإيرانيون في حضرة ضريح الشاعر حافظ الشيرازي.

(3) كلمة إيرانية أصلها عربي وتعني الفأل أي الطالع وهو دأب يسير عليه الإيرانيون في قراءتهم لديوان حافظ كنوع من كشف الطالع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى