الاثنين ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

حكم الهدهد

وأخيراً صدر القرار بتعييني مديراً. سيبدأ الناس يتحدثون عني، بعد أن كنت في السابق لست على بال أحد، وكثيراً ما كانوا يقولون لي:

"على بال مين يا اللي بترقص في العتمة!" كنت أشعر أنني مهمل ومنبوذ، فإذا دخلت ديواناً، لا يقف الناس احتراماً لي، وإذا مررت على جماعة، وألقيت عليهم السلام، فقليلاً ما يلتفت أحد إلي، ويرد عليّ السلام. حتى السلام كنت لا أسمع رده من أحد. كانوا يقولون:"مقذوع رجل مسكين بهلول، على باب الله!" كنت أسمع وأسكت، ولا أجيب أحداً، كنت أعيش بلا عمل، وكنت قليل الحيلة، غير متعلم، ولا أعرف كيف أتصرف، ولكني كنت أزور الأقارب والأباعد، فيتصدقون علي وعلى أولادي، بكيس طحين، أو يتبرعون لي بعدة قروش، وأنا أحاول جهدي أن أرد لـهم الجميل؛ إما بحراسة ممتلكاتهم، أو بشكرهم ومدحهم في وجوههم. في وجوههم فقط، لأنني في ظهورهم أحسدهم، وأحقد عليهم، وأسأل الله تعالى: "لماذا أنعمت عليهم، وضيقت الرزق عليَّ؟" ثمَّ أعود وأقول:"أرزاق! ولله في خلقه شؤون."

بقيت على حالتي، وتابعت المسير، إلى أن اهتديت إلى طريقة أوصلتني إلى الشخص المسؤول. قالوا لي:"إن الشخص الذي يستطيع أن يشغِّلك هو رئيس البلدية، وهو الذي يعين الموظفين، لأن الوظائف شحيحة هذه الأيام، وهنيئاً لمن يجد وظيفة حكومية." وهناك سألني رئيس البلدية:"ما اسمك؟" فأجبته هكذا من الباب للطاقة:"مقذوع." فتبسم الرئيس وهو يسألني: "مقذوع! هذا اسم بني آدم؟" فأجبته واثقاً من نفسي: "نعم اسم بني..!" فأضاف يداعبني بسخريته: "هل تعرف من هو المقذوع؟ يقولون أقذعه شتماً، أي شتمه بشدَّة!" فشرحت له قصة مولدي قائلاً : "كانت والدتي لا تنجب أطفالاً، فحين ولدتني، قرر والدي أن يسمّنَي مقذوعاً، كي لا يحسدني الناس على عيشتي، مجرد بقائي حياً. وهكذا أكبر وأعيش، وها أنا قد عشت والحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، وعمري الآن أربعون سنة." سر الرئيس بفصاحتي، فسألني:"يا مقذوع هل تجيد التنظيف؟" فقلت وأنا في غاية الانضباط: "نعم يا سيدي (النظافة من الإيمان.)" اطمأن الرئيس فأصدر بلاغه الخاص بمستقبل حياتي:"يا مقذوع قررنا أن نعينك مديراً لمبولة في وسط المدينة." فرحت، ولكنني استهجنت الأمر! فسألته مسروراً :"مديراً مديراً؟" فقال المدير:"نعم مديراً مديراً!" كررت سؤالي للتأكد فقط:"تعني مديراً عاماً !" نعم مديراً عاماً." قالها وهو يضحك! وبصراحة، انشرح صدري، فتبسمت بدوري، تضامناً مع ضحكة الرئيس! لا أكاد أصدق! وأخيراً أصبحت يا مقذوع مديراً عاماً! حاولت أن أضبط نفسي، فأمتنع عن الضحك والرقص طرباً، ولكنني قلت لنفسي:"مبولة! مبولة! المهم مدير عام!" وقدّرت موقف رئيس البلدية قائلاً:" شكراً يا سيدي.. هذا منصب كبير، لم أحلم به قط ! فأنا لم أتخيل أن اصبح مديراً عاماً في يوم من الأيام." فقال وهو يضحك علناً هذه المرّة: "اذهب إلى مساعدي، وهو سيعطيك كتاب التعيين." قلت:"شكراً يا سيدي الرئيس، هذا منصب كبير على أي حال. أرجو أن أكون على قدر الثقة."

والآن جاء دورك يا مقذوع في المسؤولية، وأنت تعرف أن المسؤولية عندما تندلق على كاهل رجل مثلك، فالحمل ثقيل (أنا مسؤول إذن أنا عائش مبسوط، والله منعم ومتفضل)، كان جارنا الأهبل عطية يقول:"أنا أفكر إذن أنا مسؤول"، ولكن عاقلي بلدتنا يقولون العكس :"أنا مسؤول، إذن أنا عائش فوق الريح." الآن جاء دورك لتنتقم منهم، من الجميع الذين لم يكونوا يعتبرونك ابن آدم! ستنظم الدخول إلى المبولة. لقد قرروا لك عشرة قروش، رسوماً على كل رأس، كان الزوار لمثل هذه الأماكن لا يدفعون نقوداً، وأما الآن، فالدفع قانوني، وعلى الجميع، مهما اختلفت شخصياتهم، وأنت لا يهمك، فإذا قرر أحدهم أن يدخل دورة المياه، وليس معه عشرة قروش، فلن يدخل، ستدعه يفعلها في الشارع العام، بالطبع هو لن يفعلها في الشارع العام، وسيتألم، وينظر إليك نظرة شزراء، ويمضي في طريقه، وأنت بصفتك مدير عام لأكبر مبولة عامة في وسط المدينة، أصبحت خبيراً في بني آدم، وفي كثير من الأحيان، تعمل كاستشاري في مثل هذه المشاريع، وعندما تدخل يقولون: "دخل السيد المستشار!" ونحن المدراء العامون في أعلى المستويات الإدارية، كثيراً ما سوف نلتقي، وسنتشاور في الأمر، وكثيراً ما سنبحث القضايا العامة على مستوى القمة، ولو أنني أتميز عنهم، بأنني أبحثها أيضاً على مستوى القاعدة. سأصبح علماً في الحارة كلها. بائع القهوة أبو الخل، سيصب لي فنجان قهوة مجاناً، وهو يقول:" أنا أعرف قهوتك يامقذوع، أنت تحب أن تشربها (عالريحة)" وسيدخل فيتبول مجاناً، وأنا سأسامحه، سيدخل متفاخراً بأنه صديق المدير العام، ويبقي دلّة القهوة عندي، بالحفظ والصون، فأنتهز فرصة غيابه في بيت الراحة، وأشرب فنجاناً آخر مجاناً. وسيمر أبو فارة ؛ بائع الكعك والبيض، دافعاً عربته المتجولة، ووجهه ممتقع بلون أحمر قاتم، سيوقف عربته أمامي، ويدخل دورة المياه، دون أن يدفع، وهو يقنعني بأنه من أصحاب البيت، ولكنه يكون داخل نفسه مقتنعاً أن نفسي دنيئة على كعكة وبيضة مسلوقة. سأقشرها منتهزاً فرصة دخوله دورة المياه، وأحشوها داخل الكعكة، وأرش عليها ملحاً وزعتراً وفلفلاً.

يا سالاااااااااااااااام، ثم أنهشها نهشاً، قبل أن يعود أبو فارة، وقد أشرقت قسمات وجهه، وخرج من بيت الراحة مستريحاً مبتسماً، ولكن سرعان ما تعود تقاطيع وجهه إلى ما كانت عليه، عندما يشاهد أثر اعتدائي الوحشيّ على الكعك والبيض، ويشتمني ويقذعني شتماً، فأدفع لـه نصف ثمن ما أكلت، ويدفع عربته وهو يصيح: " كعك وبيض كعيييك!" وإذا حدث وأن طافت المجاري، وعامت فوق بلاط دورة المياه، بسبب انسداد المجاري، فإن صاحب المكتبة المجاورة للمراحيض، سيخرج من المبولة، وهو يتكىء على رؤوس نعليه، كي لا تغرق في بحر المجاري العائم، وهو يقول لي :"أنت اليوم لست(مدير عام) بل أنت(مدير عائم )!" وأنا سأشهد كل هذه الأحداث، فأضحك وأضحك، حتى تتراقص خاصرتيّ من شدّة الضحك، إنه عالم مضحك. عالم مدهش، عالم غريب، فالإنسان كائن مدهش يجمع حركاته وتصرفاته ومثالياته وعيوبه ونظافته وقذاراته. تتجمع كلها معاً في كيان واحد اسمه الإنسان! سأتحكم بكم يا أولاد آدم، حكم الهدهد. وأنا في الحقيقة لا أعرف ما هو حكم الهدهد. هكذا سمعتها، ولكن حكم الهدهد مهما كان صعباً، فلن يكون أسوأ من تحكمي بزبائن دورة المياه العامة! مدير عام، مدير عائم، هذا لا يهمني، المهم أنني مسؤول مسؤولية مطلقة عن هذا الحوض المائي، ذلك لأنه ليس من المعقول أن يذهب أحدهم ويشتكي إلى الرئيس عن مثل هذه القضايا، إذا ما كان فيها تقصير.

ومعنى ذلك أنني سأحكم وأرسم كما أريد، غير خاضع حتى لحكم الرئيس، وسأكون حاكماً مستقلاً استقلالاً تاماً، وصلاحياتي مطلقة، وكلمتي لا تنزل على الأرض، وأنا أجمع العشرة قروش، تلو العشرة الأخرى، وهكذا تتجمع في يدي قبضة من الشلنات في كل لحظة، وربنا يضع سره، في أضعف خلقه، ويعطي الرزق حتى من ضائقة عباده، لا وضعكم الله في ضائقة، كي لا أتحكم فيكم، حكم مقذوع، الذي هو أصعب من حكم الهدهد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى