الجمعة ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
طفولة مزمنة(5)
بقلم ناصر الريماوي

زقاق معتم

توهج عفوي لذاكرة بليدة، يُضيء زقاقاً تحفه الفوضى، بيوتٌ واطئة متلاصقة تتفاوت في طلائها الخارجي من حيث اللون والجودة، جدرانها الخارجية تنأى بعيداً عن أشعة الشمس بعضها يعكس واقعاً مستلباً، عندما تطالعني وانا أعبر الزقاق القديم توقظ وحشة قديمة.

غزانا نعاس ثقيل تسرب في خفة غريبة، كنا نجلس متلاصقين أنا وأخي تحت غطائنا الشتوي، بينما أخذتنا الحكاية بعيداً، نافورة اللهب تميل إلى زرقة صافية، هديرها الخافت جدير ببثِّ خدر لذيذ وخلق مناخات موحشة، كنّا نقلِّبُ حبات الكستناء في توافق منتظم لصوت هطول المطر، تلفنا الحكاية فنسعى في زيغ متبادل خلف حميمية مفقودة ورهبة تسكن التفاصيل.

ظلال باهتة لإمرأة نذرت ملامحها لضوء قوي يأتي مع العاصفة مصحوباً بصوت المطر لينبش أرض الزقاق، و همس يكنس جدرانه المبللة، وحين تصفر الريح في زواياه المظلمة، تحررها من سطوة الجدران وسجن العتمة، تطلقها الريح اطيافاً عدة لتركض في كل الحارات تبحث عن اطفال تخلفوا عن الرجوع، تُنْصِتُ للشبابيك المضيئة علها تعبر منها إليهم، وحين يفيض الصبح في غبش الرؤيا تفرُّ لجدران الزقاق مرة أخرى بإنتظار يوم جديد... تفرس في وجوهنا، ثم أضاف محذراً: عليكما ان تحذروها إنها تأتي مع الليل تحت المطر... ترصد الزقاق منذ زمن، ثم أردف بلهجة آمرة: الآن إلى النوم... هيا. أحْكمَ والدنا وشاحهُ حول رأسه وعنقه، حمل المدفأة إلى خارج الغرفة، ثم اغلق خلفه الباب.

كنتُ أزيح طرف الستارة في حذر ورهبة بالغين، أختلسُ النظر، وانا على فراشي، دفعني فضول لا يقاوم لرؤية المكان في تلك الليلة... على وهج مبهر لوميض قوي أضاء المكان للحظة رأيتُ بيوت الحي تدير ظهرها للزقاق، أعقب ذلك الوميض دوي هائل، اثار هلعاً لا يوصف في داخلي، تشبثتُ بأخي الأصغر تحت غطائنا الثقيل، كنتُ على يقين بأن هذا الوميض قد ايقظ ظلها الغافي، تسللتْ ريح باردة تحت الغطاء، لسعت قدماي ثم تسربتْ منهما إلى جسدي، حاولتُ التشبث اكثر، لكني لم اعد اقوى على إحتواء اخي، بدا أكبر حجماً، أنفاسه لم تعد منتظمة، تحولتْ لشخير خافت راح يعلو في تداخل غامض مع أصوات بعيدة تاتي عبرالزقاق، شيء ما تشكل بيننا راح يتململ ككتلة لزجة، أطلقتُ العنان لصرخة حبيسة: أخي... أخي... ثم اغمضتُ عيناي تحت الغطاء ولذتُ بعتمة اخرى.

بعد غروب الشمس وعلى غير عادتها في مثل هذا الوقت من أمسيات الخريف، تحشد السماء قطعان الغيوم الداكنه لتستقر فوق حارتنا تماماً، وقبل إلتحامها عكست وهجاً مخضباً بحمرة قانية لشفق يتأهب للرحيل، كان إنتشاراً عفوياً في زوايا الشارع العريض وحول حاويات القمامة المبعثرة، عُدنا بعده للتجمع مرةً أخرى في نصف دائرة، وفي يد كل منّا علبة فارغة من الصفيح وعود خشبي صغير، اخذ اكبرنا سناً يصيح وهو ينقر على تلك العلبة المعدنية محرضاً بقية الأولاد: يا رب، الغيث الغيث... المطر المطر... رددنا خلفه، إختلطتْ اصواتنا باصداء الصفيح، ثم تركنا للصدى حرية التخاطب بلغة الصخب الجماعي، كان إيقاعاً غير منتظم لكنه متواصل في تصاعد حاد، رددته جدران البيوت المحيطة، تخطى صفوفنا اول العابرين وكان على عجل، زوبعة ضحلة من التذمر تثور برفقته تخمدها أهازيجنا المصحوبة برفقة الضجيج، تطلعتُ نحو الزقاق، بدى جوفه موحشاً، إلتواءه الحاد يحجب بيتنا خلفه، كان يحثني على الرجوع قبل هطول المطر، وحلكة باتت وشيكة، تلاشت حمرة الشفق وحل مكانها سواد قاتم، إيقاع الصفيح المتصاعد يبدد شيئاً من وحشتي، تجرعني الزقاق عند أول زخة للمطر،

كنت اغوص في ممراته الموحلة وحيدا، أتلمس جدرانه المبللة في خطوٍ مضطرب، أصوات الصفيح تاخذ بالإنحسار كلما تقدمتُ في سيري، يبدد جذوتها صوت المطر، عند آخر الزقاق كان بيتنا يغرق في وحشة أثارتْ لدي كآبةً غير معهودةٍ، طرقاتُ متتالية في هستيريا بالغة أوقعتها على باب الفناء الخارجي وانا اتلفتُ خلفي في فزع غير مسبوق، لكن احداً لم يستجب، لمع برق مفاجىء أضاء المكان للحظة أعقبه دوي هائل، نظرتُ حولي كانت بيوت الحي لا تزال تدير ظهرها للزقاق، وقفتُ عاجزا عن مواصلة الطرق، تحرر ظل اسود لفظه الجدار المقابل نحوي، رأيته للمرة الاولى كان لفتاة بلا ملامح، تبعث على قشعريرة مزمنة،تناثر شعرها بإهمال فوق وجهها وكتفيها، فمها يكشف عن انياب مخيفة، نظرتْ إليَّ ثم تسللتْ غير آبهة لوجودي عبر شق صغير في النافذة إلى بيتنا، كان شخيرا غامضاً يصدر عن تلك النافذة يمتزج بأصوات الصفيح البعيدة، لامس وجهي زجاج النافذة، حين أصغيتُ في ذعر لا يوصف لصراخ شق سكون الليل: أخي... أخي...، كان الصوت مألوفاً لا زال صداه يتردد في تلك الغرفة ومنذ زمن... صرير لباب يُفتح كان خلفي تماما إستدرتُ على إستحياء، طالعني وجهُ سيدة في مقتبل العمر تسعى جاهدة لتقي رأسها دلف المطر، صوتها لا يخلو من ريبة: أتبحثُ عن احد ما في هذا الوقت أيها الرجل...ربما يمكنني مساعدتك؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى