الجمعة ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

حب

فتح وجهها أمامه بواباته البهية، فشـــرّع مرايا القلب، علق زوّادة الشوق على كتفه، صنع من ضحكتها التي لا تفارق باله أشرعة لسفينة حبه وأبحر نحو الشركة التي تعمل بها.

دخل إلى مكتبها فوجده خاليا إلا من رائحتها، خرج وعاد بعد ساعة، سأل عنها فتملكه الخوف وتحولت عيناه إلى سحابتين داكنتين على وشك الهطول، فليس من عادتها أن تغيب عن عملها دون علمه.

راوده تفكير في أن يذهب إلى بيتها، لكنه سرعان ما تراجع، فهو لا يعرف أحدا من عائلتها وقد يسبب لها المتاعب، وظل نهاره كئيباً ولا يشبه النهارات.

لم تر عيناه النوم، طول الليل وهو يتقلب في فراشه وكأنه على نار, لم يدر كيف انبثقت شمس الصباح، نهض بتثاقل, نفض عن أجفانه غبار اليأس والسهر والطويل، اغتسل بماء بارد ولم يشرب قهوته، تحزم بشوقه الكبير وخرج.

دخــل المكتب وحلم ناعم يدغدغه برؤيتها، لكنه كان بارداً وكئيبا، ألقى نظرة يائسة على كرسيها، فوجده حزيناً هو الآخر على غير عادته، ومع المرارة التي مضغها تساءل:"ترى ماذا حصل لها؟

لماذا دخلت في سراديب الغياب دونما همسة أو قبلة على الروح؟"
جلس من القــرب من طاولتها وانتظر على الرغم من أن مرافىء البهجة مفقودة، انتظر إلى أن دخل أحد الموظفين، وأخبره بأنها لم تأت إلى عملها منذ ثلاثة أيام ولا يعرف عنها أي شيء، تخبط داخل نفسه، تركبت الصور أمام عينيه، واســتيقظت مواجع الروح، غادر المكتب بقلب شارد، وقف خارج الشركة ينتظرها، ظل يبحر في أوردة اللقاء ساعة كاملة وبعدها أحس بالاستسلام، فجأة رسم لنفسه طريقاً لم تكن تؤدي إلا إلى بيتها، واصل سيره بخطوات سريعة، وقد صمم على أن يذهب إلى بيتها مهما كلفه ذلك من أمر.

قال لها مرة: ماذا تتمنين يا أعز الناس؟

ردت بلا تردد: أن أراك أمامي في كل الأوقات.

ها هو الآن يتمنى أن يراها أمامه، وقد باتت أمنيته الوحيدة، صعد الدرج وهو لا يعرف ماذا سيقول لو لم يجدها، طرق الباب بهدوء فلم يسمع جواباً، وباباً لم يفتح، انتظر لدقــائق، ازدادت نبضات قلبه، وكاد يدخل في حقل الفوضى، قال له قلبه أشياء كثيرة، أشياء ألقت في أعماقه الهواجس، طرق الباب مرة أخرى، وهذه المرة بقوة، فترنح نهر من الخيبة على وجهه، وبدا كل شيء أمامه على وشك الاحتضار.

هبط الدرج والحيرة تكاد تلقي به في واد سحيق لا نهاية له، وفي الشارع الخالي من المارة والسيارات همس لذاته:"إلى متى سأظل وليمة لهذا العذاب الذي يمر من عينيَّ ؟.. إنها حياتي ولا أستطيع الابتعاد عنها".

عقارب الساعة تجاوزت الثالثة وهو يمتطي صهوة الريح، يسير كحصان أضاع طريقه في روابي العمر، ينسج صرخات صامتة في الهواء، يبحث عن الوجه الممعن في الغياب.

كان يبدو مثل غريب في مدينة غريبة، حملته أفكاره إلى مساحات من القسوة والضجر، وقبل أن يسقط في فجوة الضياع، دخل إلى الحديقة التي جمعته بها مرات ومرات، ألقى بجسده المتعب فوق المقعد الخشبي الذي رآه هو الآخر حزينا، وقبل أن يسأله عنها قال والحسرة تعرّش في حناياه:" لا أعرف أين اختفت.. بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها.. أكاد افقد أعصابي ولا ادري إن كانت قد بقيت لديَّ أعصاب".

لم تعد له شرفة يحط عليها عصافير الفرح، فتأبط حقائب الأحزان وغادر الحديقة، لم يكن يدري إلى أين يذهب، قطع شوارع ثرثارة، دخل في حواري وأزقة ضيقة ونظراته بين قدميه، كل شيء غادر ذاكرته إلا وجهها فقال في نفسه:" سأمنحها روحي لو وجدتها ولن اسمح لها أن تغيب عني مرة أخرى:.

مثل من لا يرى ولا يسمع كان يتابع سيره، حتى أنه لم يشعر بالجوع وكأنه قد فقد شهيته وأحاسيسه، رجاه جسده أن يستريح قليلاً، ويبعد عن نفسه الكآبة، دخل إلى حديقة صغيرة قريبة من أحد المشافي، جلس، تنفس بعمق، مسح عرقه براحة كفه، تمدد فوق العشب الناعم وراح يستمع إلى حوارات العصافير وأحاديث الأشجار وهو يحضنها بحنان، يداعب شعرها ويديها وخديها، وفجأة أرسل بصره نحو السماء ورجاها أن تزنره باللقاء.

شعر بالعذاب يدنو منه، فاستجمع بعضه ونهض، وما إن بدأ الخطوة الأولى حتى سمع صوتاً أنثوياً يرتفع من باحة المشفى، ألقى بنظراته نحو مصدر الصوت , فشاهد امرأة في عقدها الخامس تستغيث:

ـ أرجوكم ساعدوني..

طار كل تعبه دون أجنحة أو عيون, اقترب منها:

ـ ماذا بك يا خالة؟

ـ أرجوك ساعدني.. دهست سيارة ابنتي وهي بحاجة إلى الدم.
زرع الفرح في داخلها، هرول إلى الداخل بعدما طلب منها أن تتبعه، كشف عن ساعده وطلب من الطبيب أن يأخذ الدم الذي يريده،
وكم كانت فرحته كبيرة عندما تطابقت زمرة دمه مع دمها.

بعد ثلاث ساعات، ارتفعت الزغاريد في سماء المشفى، أما هو فبدا كمن يمتلك الدنيا كلها، تمنى للمرأة الخير ولابنتها الشفاء التام، ودعها وأراد الخروج ليكمل مهــمة البحث عن الوجه المفضل لديه، لكن المرأة أصرت على أن يدخل إلى غرفة ابنتها لتقدم له الشكر بنفسها، وما أن دخل حتى اهتزت الروح وتفجرت ينابيع الدهشة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى