الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤
بقلم تركي بني خالد

كلام في البروباغندا

أريد أن أعتقد بأن عالم اليوم بات تحت رحمة البروباغندا. ففي عالم اليوم يلجأ أشخاص كثيرون إلى هذا الأسلوب من أجل التأثير على سلوك غيرهم من بني جنسهم، بل تلجأ الدول والجماعات والأحزاب وغير ذلك إلى البروباغندا من أجل تحقيق أغراض كثيرة عن طريق إقناع الآخرين بما يريدون. وما الحملات الإعلامية بأنواعها إلا أشكال من البروباغندا التي تكاد تطغى على كل شيء هذه الأيام، فتبهر عيوننا وتصم آذاننا، وربما تعبث بعقولنا.

يا لها من وسيلة بشرية ذكية. في كل يوم يتم قصفنا بالبروباغاندا الذكية من أجل سرقة عقولنا وقلوبنا معاً. هذه البروباغاندا تستخدم فيها الرموز في مداعبة العواطف الإنسانية من أجل التحكم بها في مرحلة لاحقة. وتساهم وسائل التكنولوجيا الحديثة في دعم البروباغاندا ونشرها من أجل أن تتغلغل في حياتنا حتى تكاد تحبس أنفاسنا. نعيش في عصر الثورة المعلوماتية ونقع ضحايا كل لحظة، فالرسائل تجد طريقها إلينا أينما تواجدنا وبأشكال لم تخطر على بال أحد من آبائنا أو أجدادنا.

المتخصصون في هذا الفن البشري وأعني به البروباغاندا يسوقوننا نحو ما يريدون، بإثارة عواطفنا من أجل كسب تعاطفنا مع الأفكار التي يتبنونها، والأعمال التي يمارسونها. يلجأ هؤلاء العباقرة في فنون الدعاية والإعلام إلى أساليب تستثمر شعورنا بانعدام الأمن والخوف، وإلى تطويع اللغة والبلاغة حيث يتفنون باستعمال العبارات اللغوية الرنانة والغامضة في الأغلب في محاولاتهم الجريئة لكسر عقولنا والعصف بقلوبنا. يلجأ أخصائيو البروباغاندا إلى التلاعب باللغة وتزييف المنطق من أجل إيصال معلوماتهم إلى عقلنا الباطن، تمهيدا لغسل أفكارنا وتحويلنا إلى متعاطفين مع أغراضهم.

البروباغاندا بالضرورة استعمال للخدعة وبأساليب متعددة. وللأسف يقع الكثيرون في حبائل البرباغنديين وذلك لعدم وجود الحصانة الكافية ضد تأثيرهم. إن من حق الناس أن يفكروا لأنفسهم وأن يقرروا ما يفعلونه بأنفسهم دون تأثير من أحد، لكن البروباغانديين لا يتركون أحدا في حاله، فلا ينامون ولا يتركوننا ننام؛ يدسون أنوفهم في حياة كل منا دون أن ندري، من خلال سمومهم التي ينفثونها مع كل نشرة أخبار أو دعاية إعلانية.

يستعمل هؤلاء الشتائم ولكن بكلمات مغلفة يتم اختيارها بعناية. ويستخدمون الرموز السلبية لربطها بشخصية ما، أو جماعة ما طمعا منهم في إفساد رأي الجمهور حول الموضوع الذي يريدونه. فهم بدلاً من أن يستعرضوا الحقائق يقومون باللمز من خلال استغلال الرموز السلبية التي تلطخ سمعة شخص ما أو مؤسسة ما. إن استخدام ألفاظ نابية ضد شخص معين هي من نوع البروباغاندا، فمثلاً يتم وصف شخص معين بأنه "خنزير" أو "غريب الأطوار" وغير ذلك من التسميات التي تستعار عادة من المملكة الحيوانية.

وهناك استعمالات لغوية ترمز إلى أنواع السلوك التي قد يقوم بها أشخاص نريد أن نلطخ سمعتهم، فيتم وصفهم بالبخل، أو الطمع، وغير ذلك. إن إطلاق الكلمات على الناس أو المؤسسات هكذا وتصنيف سلوكياتهم وأفكارهم في قوالب معينة، يراد منه الإساءة والتزوير وجذب انتباه العامة إلى غير ما هو حقيقي. انه الضباب الذي يتخصص البعض بنشره في الأفق من أجل خلط الأوراق وإنكار الحقيقة لغايات معينة.

ويميل البروباغانديون إلى استعمال كلمات رنانة لها تفسيرات مختلفة مثل الديمقراطية والحرية والحق والانتماء والإخلاص وغيرها من كلمات يستطيع أي شخص أو أي مجموعة ادعاءها. يتشدق البعض عن الديمقراطية مثلاً فنكتشف أنهم يعنون النمط الخاص بهم من الديمقراطية التي قد تعني أحياناً استعباد الآخرين تحت نفس الشعار.

الشعارات البراقّة سلعة يتاجر بها أهل البروباغاندا. فهم يلجؤون إلى وسائل من شأنها تهدئة الجمهور وجعلهم يتقبلون الحقيقة المرة على أنها قدر لا بد منه. فهناك يتم تسويق شرور بعينها مثل الحرب والدمار على أنها ضرورة لا يمكن تجنبها، فكل شيء يهون من أجل الشعارات الجميلة، حتى الصواريخ يطلق عليها تسميات لطيفة لها إيحاءات لدى بعض الفئات من الناس من أجل تبرير استخدامها في قتل مخلوقات الله من البشر والحيوانات والنباتات.

في البروباغاندا تستخدم كلمة تصفية بدلاً من كلمة قتل، كما تستخدم رموز أخرى مثل العلم الوطني والرموز الدينية في محاولة لإثارة مشاعر الناس العاديين البسطاء، ومن ثم توجيههم في سبيل قضية معينة. حتى الطب لم يسلم من جماعات البروباغاندا، فهم يستعملون الممثلين في الإعلانات الدعائية التجارية؛ يجعلونهم يرتدون المعاطف البيضاء وهم يبيعوننا منتجات معينة، وذلك إيحاء لنا بأنهم يمثلون العلم والطب وبذلك يعتقدون أن المشاهد سيميل إلى تصديقهم ومنحهم الثقة المطلوبة.

ويلجأ أهل البروباغاندا إلى " النجوم " من البشر فيقنعونهم بأن من الضروري أن يستثمرون " نجوميتهم " مقابل المال، فيزجونهم في إعلانات تجارية تبيع كل شيء وأي شيء، من الصابون إلى العطور والبيتزا، ولأننا جميعاً نحب النجوم، فإن البروباغاندا تنجح في جّرنا نحو المنتج المراد تسويقه بغض النظر عن جودته أو كفاءته أو حتى مدى حاجتنا إليه.

فما الذي يجعل مطرباً أو ممثلاً مشهوراً مصدراً موثوقاً للمعلومات عن الصابون؟ ما الذي يجعل شخصاً ذو مصداقية فقط لأنه يداعب طفلاً بريئاً في محاولة للإيحاء للجماهير بأنه يهتم بالناس العاديين وأنه " ابن الشعب البار" ، وإلا فما الذي يدفعه لمداعبة الأطفال أمام الكاميرات؟ وطبعاً ينجح أهل البروباغاندا في إثارة عواطف الملايين من الناس إيجابا أو سلباٌ مع القضية التي يتبناها ذلك الممثل البارع محبوب الكل.

إن البروباغانديين على قدر كبير من الذكاء ، فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف. هؤلاء يحشرون أنوفهم في كل زاوية من عالمنا المعاصر. يستأجرون القاعات يملؤون المدرجات صخباً برموز وموسيقى وألوان وطقوس من أجل إيصال رسالتهم إلى الكون. يستعملون أنواع الفنون ويعطوننا انطباعات بأنهم وحدهم على حق وأن من يعاديهم أو يشكك بهم هم الشياطين فقط. يريدون أن يتوصلوا إلى عقولنا وقلوبنا من خلال الإيحاء أن كل الجماهير معهم وأنهم حقاً يمثلون الجميع، فلا مجال إذن إلا للانضمام إلى جوقتهم.

ومن أساليب البروباغاندا المعروفة تخويف الناس بشكل غير مباشر. فهم يحاولون الإيحاء بأن البشرية في خطر إذا لم يهب الجميع لاعتناق أفكارهم والانضمام إلى صفوفهم. إنهم يعرفون علم النفس جيداً ويسخرونه لمصلحتهم، فهم يدركون المخاوف الداخلية المزروعة في كل منا، فعلى سبيل المثال تلجأ الإعلانات التجارية إلى نشر صور لحوادث مروعة تمهيداً لاقناع الناس بالاشتراك في التأمين أو في الحصول على سلعة معينة.

باختصار، البروباغاندا تلعب بأعصابنا كل لحظة ، فهي في كل مكان وتنتشر في كل زمان، تستخدم أساليب ملتوية، تطوي عنق الحقيقة وتلوي أذن المنطق من أجل دفع الناس لشراء بضاعة ما، أو فكرة ما.

باختصار، في زمان المال والأعمال، أصبح كل شيء ممكناً، وغدا كل شيء سلعة معروضة للبيع، ولم نعد نفرق بشكل جيد بين الأبيض الأسود، لكن العلم بالشيء خير من الجهل به، والله أعلم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى