الاثنين ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

الغـــــرباء (2)- على هامش الحب

النباح بدا اكثر قرباً مما يوحي به المكان، هنا في قلب العتمة ينعطف الشارع خلف بضعة منازل توشك أن تنهض، تعثرتُ بأكداس الرمل و عوارض البناء وأنا أسير على حافته، تحسست الكتاب كقطعة ثمنية، ترددتُ بالعودة دون ان اعيده إليها، المنازل القليلة المأهولة التي تناثرت على جانبيه تبعث دفئاً وطمأنينة وهي تنير مساحة محدودة أمامها من خلال مصابيح الإنارة الخارجية، النباح يعلو مرة اخرى، قطعانٌ ضالة تنحدر عن صفحة التلة المقابلة نحو الشارع المقفر، وجوه تطل بلا اكتراث تمسح المكان بإطلالة خاطفة من وراء بعض النوافذ المضاءة ثم تختفي، لن تأتي الحافلة... همست لنفسي، حاولت التوغل بعيدا عن الشارع في طريق عودة مختصرة بين البيوت المترامية، لكن المسافة بعيدة إلى بيتي، عدلت عن ذلك، واخذت أرقب الشارع بعد الإنعطافة لعلي ارى أحداً، لكنه كان خاليا الا من ظلال باهتة تعدو في إنحدار نحو الأسفل مصحوبةٍ بنباح مجترح راح يعلو ويقترب، أطلقت ساقاي للريح وسط الشارع المهجور، ومن غير تفكير كنت أقفز فوق سور منزلها إلى وسط الحديقة، تجمد الدم في عروقي حين أطل والدها وراح يصرخ: من هناك؟؟؟ كان النباح قد تركز خلف ذلك السور ممزقا سكون الليل، لم يطل الوقت حتى تفرق القطيع على صراخه، تواريتُ خلف نبتة صغيرة، حتى تلاشى النباح واطبق السكون من جديد، تسحبت مستترا بعتمة الليل نحو نافذة وحيدة مضاءة كانت على جانب الشرفة بأقواسها المطلة على الشارع المعتم، شعرتُ بخفق شديدوأنا اقترب، على ضوء شحيح ومن جانب ضيق كنت انظر إلى الداخل، غمرني فرح طفولي رغم كل شيء، حين لمحتها من خلال النافذة كانت وحدها،ترتدي ثيابا بيضاء خلتها للنوم، تستلقي كملاك أبيض على سرير يهزهُ الغيم، ممسكة بكتاب مدرسي تطالعُ فيه باهتمام شديد، لوحة زيتية بإطار ذهبي نافر مثبته فوق السرير، وعود من القصب يميل قليلاً على نفس الجدار، تسمرت في دهشة وذهول وانا ارى صورتي على تلك اللوحة، عجزت عن اجترار الذاكرة كي أعرف أين رأيتها للمرة الأولى، وكيف عُلقتْ على هذا الجدار ،ومتى؟؟!، تحسست جيبي، لم يكن بحوزتي ناي القصب أيضاً، لاحقاً كنت اغوص في حيرة قاتمة يشدني ندم عميق بين حين وآخر، عندما تنبهتُ صدفةً لذلك الكتاب، وكيف انني غادرتُ ليلتها وقد نسيتُ أن اعيده؟!

عند تلك الشرفة وتحديدا تحت قوسها الموشوم بزخارف الطين القديمة، كان زيها المدرسي الاول يشي بانتظارات عبثية لا معنى لها، رافق إستبداله بلون المرحلة المقبلة، تجدد مفاجىء لدماء غريبة أخذت تدب فوق أتربة الرصيف المقابل، وبيوت أخرى جديدة نهضت في غفلة منّي، أخذت تزاحمني على حيز الإنتطار وفسحة النظر المتاحة، تعمدت الوقوف في طريقها أثناء عودتها من المدرسة ذلك المساء، لكنها تجاهلتني وتابعتْ سيرها كأنها لا تراني، لم استكن حتى هبط الليل، فأوغل المكان إلا من بقع مضيئة تحت اعمدة الإنارة على الجانب الآخر، أخرجتُ الكتاب وناي القصب، ركنت إلى جدار الحديقة، تحت شباكها المضاء على الدوام، توهج المكان بأجواء ربيعية زاخرة، فصدح الناي موقظاً جوقة مترعة بأسرار عشق قديمة، تضوعتْ مع نسائم عابرة، فأوقع لحناً دافئا حنوناً، كان يمتص بعضاً من عذاباتي يقلبها في جوفه ثم ينفثها في مهب الريح، رق له شجر الليل حتى تهدلت فروعه وتمايلت على زجاج النافذة، أنتظرتها ان تطل للحظة لكنها لم تفعل، رميتُ بالناي إلى وسط الحديقة في غيظ وانا اتجرع حيرة مشبعة بخيبة جديدة، لكن العزف لم ينقطع بل تواصل وراح يكمل إيقاظ ما تبقى من الكائنات، لم اصدق تطاولت فوق الجدار، جلت ببصري ملياً، كان يخفق فوق غصن مثقل تدلى امام ستر النافذة، نسمات ربيعية أخرى كانت قد تكفلت بالمرور خلال تجويفه فإستجاب لها ذلك الغصن برفقة الناي مخلفاً ايقاعاً رتيباً منسجماً راح يلطم في رفق زجاج تلك النافذة ، تجدد الأمل، صوبت نحو النافذة لعلها تطل منها، وقد أحدثها فاحظى بذلك الرد، أو تقبل عذري عن تاخري في إعادة الكتاب، لكن هدوءاً ثقيلاً تسلل خلسة ، لفّ أرجاء الحديقة تصدى لأنسامها الربيعية فأطبقت على نفسها من جديد، إنطفأ الضوء حين سقط الناي عن الغصن وعم ظلام مقيت خلف ستار النافذة، تأبطتُ الكتاب مرة اخرى وعدت أجترّ مرارتي وحيداً.

في غفلة مريبة وللمرة الثانية، كنتُ أتبينُ منازلاً كثيرة لم تكن من قبل، تراصتْ على جانبيّ الشارع ككتلٍ صماء، لافتةٌ عملاقة على جبهة متجر أخرق مزروع بعناية أمام بيتها حجبت ما تبقى من حيز ضئيل كان متاحاً للنظر إلى حيث شرفتها، يزدحم الشارع بوجوه تترنح في كل إتجاه، لكنها لا تقوى على الإلتفات إلى حيث أشير بحركات ملتبسة نحو مكانها المفترض، لم تعد ترتدي زياً مدرسياً، بدت اكثر ألقاً بثيابها الجديدة، حين كشفتْ تلك الثياب عن قوامٍ ممشوقٍ يليق بسيدة أنيقة، اللوحة ذات الإطار الذهبي النافر على مسند خشبي تدير لي ظهرها في مجون، تأخذ مكانها على كرسيها المستدير بين الآخرين لساعات طويلة تجلس أمامها باستسلام تام، تمد يدها بفرشاة وحيدة نحوها، ترسم أشياءً لا أراها من مكاني وراء النافذة، خارج الصالة لم تزل تلك اليافطات ترفرف في مكانها، عندما كانت تشير إلى ذلك الإفتتاح المرتقب لصالة الفنون الوحيدة في الضاحية، ذلك الشارع لم يعد ينام، صار الليل يهبط على لافتات مضيئة براقة، وأعمدة منيرة، وواجهات زجاجية لمبانٍ شاهقة تكتظ بالناس تلمع تحت أضواء متحركة لمصابيح سيارات تعبر في بطء، عزف موصول يصدح لساعة متأخرة، يتسرب من صالة الموسيقى في معهد النغم الشرقي، لم اعد أطيق نفورها، كنت امامها في كل وقت وفي كل مكان ترددتْ إليه، كنت احول بينها وبين المركبات المسرعة حين تعبر الطريق، أحرس ابتسامتها، أهمس لها حين نلتقي صدفة عند باب الحافلة، او حين تضمنا قاعة المسرح الصغير في توحد أو شرود برفقة باكورة الأعمال لفرقة المعهد الموسيقى، لكنها لم تكن تصغي أو تلتفتْ، لم يعد مهماً إعادة ذلك الكتاب، أو حتى معرفة ذلك الرد الذي لم أعثر عليه بين طياته، أيقنت بالكثير لكنني كتبت لها قبل رحيلي أقل القليل، على صفحات ذلك الكتاب، كتبتُ أحكي لها عن عشق لم تسمع به أو تقرأ عنه، عن حب لا يندثر بموت أحد...

ليلة أخيرة تعيد رسم الضاحية على طريقتها، تحاصر قاعة رحبة لعرض لوحات فنية، ضمت إليها معرضاً مشتركاً للهواة، صالة الفنون تموج بالحضور وبالمشاركين، كانت هي أجملهم، أدركت ليلتها سحر نضجها وسر تعلقي القديم بها، كانت تشق طريقها بينهم في ثبات وثقة، للمرة الاولى أتجنبها تماماً، وأمنح الكتاب يداً أخرى غير يدها، كنت أبحث عن لوحة وحيدة مميزة بإطار ذهبي نافر، لم تشارك بغيرها، كانت تقف في آخر الرواق حين سلمتها النادلة ذلك الكتاب، خفق قلبي حين لم تعبأ به ألقتهُ على طاولة قريبة، ثم عادت للوحتها في حوار هادىء برفقة البعض، وبينما كنتُ أرقبها من خلال النافذة، في تأهب مفرط لنية الرحيل، تراجعت جدران القاعة المكتظة وأخذت مساحتها بالتلاشي، تفرق الحضور في هلع كبير، عمد المشاركون بلا وعي إلى انتزاع لوحاتهم والفرار بعيداً، القاعة تقلصت حتى غدت في حجم غرفة صغيرة، لم يبق سوى لوحة واحدة، وفتاة وحيدة أحبتني ذات يوم، كانت بملابس النوم مستلقية على سرير يقبع تحت تلك اللوحه بإطارها النافر وناي مثبت يميل قليلا على نفس الجدار، تناولتْ كتاباً مدرسياً عن طاولة صغيرة بجوار السرير، نظرتْ إليه باهتمام شديد ثم تصفحتْهُ في نهم، أشاحت بالكتاب عن وجهها، صوبتْ بنظراتٍ حائرة في كل إتجاه، ثم دفنتْ وجهها بين كفيها وراحتْ تجهشُ في بكاء مسموع.

... ولم انتظر ، كان الصباح يلعق مصراع النافذة الموصدة بخيوطه الأولى، لفحتني حرارة الصباح وانا أمد يدي في خمول نحو النضد المجاور، أسطو على حقيبتي المدرسية في فتور، ثم أغيب وسط الزحام .

تخلفتْ عن زميلاتها، عند اول الزقاق المفضي إلى باب المدرسة، رمقتني بنظرة خاطفة، فأغمضت عيني على طيف لم يكتمل، نفير الطابور الصباحي يلجمني وهي تنتظر بلا طائل، على مقعد الدرس وبين زملائي كنت أستعيد رباطة جأشي، حررت قصاصة أخرى ضمنتها قسطا يسيراً من عذاباتي، أمام مدرسة الإناث وعند موقف الحافلة تقدمتُ منها في جرأة غير مسبوقة، دسست القصاصة في حقيبتها ومضيتْ.

تقف الحافلة ثم تنطلق نحو الضاحية، تستفز أتربة الطريق الراكدة فتثور زوبعة خلفها سرعان تنجلي عن فتاة في زيها المدرسي، صعد الدم إلى وجهي ثم تراخت أطرافي وانا أراها تنظر مبتسمة إلى حيث أقف في ثقة معهودة، تقدمتْ نحوي في ثبات ثم بادرتني قائلة: هل لحقت بالحافلة الأخيرة مساء امس؟ جف حلقي، وأنا أتحاشى النظر إليها، ثم اجبت من غير وعي: بلى... اقصد لم تأتِ الحافلة، أعني عدتُ سيراً على الأقدام...

أخرجت من حقيبتها كتاباً مدرسيا ناولته لي، ثم قالت ستجد بين صفحاته رداً على رسالة الأمس... أرجو ان تعيده قريباً.

* ولم الكتاب؟!!
* كي أضمن مرورك هذا المساء... برفقة الناي. أشرق وجهها في ضحكة عالية ودودة وساخرة أمام هذا الإرتباك، ودعتني بقبلة حانية من يدها عبر الأثير، ثم استدارت لتعود سيراً نحو الضاحية.

حلقتُ فرحاً وانا اضم الكتاب بقوة، لم يكن ليتسع له صدري، أتوق لمعرفة الرد، غمزت الطريق على الجانب الآخر، فغضت الطرف وترامت على استقامة واحدة، كنت مقيدا بهاجس العبور، لكنني غفلت لوهلة، صرير قريب مفاجىء صم أذناي، لم أرى سوى كتلة معدنية، وهي تندفع نحوي، وعجلات زاحفة لا تستجيب لفرملة فات أوانها، خمد كل شيء، إلا من دوائر بيضاء رافقت هبوطي نحو هوةٍ سحيقة لا قرار لها، وكتاب مشدود الى صدري يشكو غياب ملامح تحتضر لوجه دافيء، ودعني منذ قليل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى