الجمعة ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم حفيظة مسلك

الرحلة الأخيرة

صعب أن يفهم الإنسان نفسه ويتكيف معها والأصعب أن تقرأ رواية عمرك وتتبعها بقيلولة تقض مضجعك، لتجد المستحيل قبالتك يجتاحك بهدوء، تلك المراسلات النائمة على أطراف التاريخ والمجتمع أيقظتني عبر مخارج الألفاظ وأصابتني بعدوى التمرد ، تعب مستتر ألجم مقلتي بإيماءة خفية...إخترتُ خوض غمار المعركة وسمحتُ لسقم عيوني أن يشهد قصاصة الضمير الأجرد... ويا له من إنجاز في ربوع سمفونية بتهوفن وهويداعب مآسي الأخرين، بدندنة فنية تلعب على أتاور الولاعة وتنير صهاريج سيجارة، سيرتفع مداها في ثنية قصيدة مرمرية أحداثها تموس بين الألم والتحدي
.
اقتربتُ منها بخطى حثيثة، أتخبط بشدة على أمل البقاء وعلى حافية يغشاها الألم، رأيتها تحفر قبرا وتكتب بمداد جاحظ الأعين، مأساة قلب مجروح ،حوصر بتابوت ومعازل بحفنة تراب منها بُعِثنا واليها نُعاد شئنا أم أبينا...

سألتها برقة مدعية الفضول والإستغراب:

 ما بالكِ غارقة في قشرة مظلمة لا يظهر لها إطلالة سوى بيوت العناكب ؟
 فردت بصوت خافت على أثر الكواعب بسخاء:
 دعيني أختبئ في باقية مجتمعي الظالم، فلقد إخترتُ نعشي قبل موتي وكفني هذا الجدار الذي مل مني ولملمني في عيشة ممقوتة ، بنبض يسري في براثن روحي الملتهبة...

تم أتانا الصمت بسواد وجه يترنح بين صفحة بيضاء كادبة وبين شهقات قهوة ساخنة متملقة...غرقتُ في بحر تساؤلاتي كيف لصغيرة ماثلة في هذا الجسد الفتي، إبن الليل البار في سكونه وطول صبره أن يتحمل قساوة البرد، ليتأبط الحداد الأزلي في براءة متناهية؟

يــــــا رب أغـــث عبــــادك من هذا العــــــداب

يا رب من يطبطب على كتفيها ويحميها من غدر الزمان وسهام القهر والذل
والهوان...إمتلأ جوفي بالحزن والأسى في إرتجاف العقل وتقبله للروح الدامية وهي تتراقص كل يوم في شوارعنا البطحاء،إخلاص في منتهى الدقة والوفاء للأرصفة جهارا والحياة البائسة قطافا...أصبحتُ أرفرف بغباء مطلق، لأفقد عقلي مرات كثيرة وأتوقف عن النظر لمن هم حولي، عناد لتقليص مساحة الكوارث الإنسانية، فغضب الشارع إنتفض بعطره الكاسح ، فأقبل المارد في ثنايا قلوب لا تقوى على شد الحبال من منتصفها لتصل الى ضواحي المرارة وتشدها شدا في اضطراب لا مناص من الهروب منها أوالاستنكار لأوتاد خيمتها، رفض الشريط أن يتوقف عن إكمال مآل هذه النهاية وإسترسلتُ كل النقاط المانحة لحدود الترقيم أن تزيد من الجرح من حيث هوعائد فيكون له مسقط إرتمى بين أحضان المشاهد اليومية...

عفوا لم تنتهي الرحلة فهناك المزيد وسيحملني طائري الجريح الى مشهد سيبكي له الفؤاد وسيسري نحوقمم في منتصف الهذيان المطلق ، لحظة ذات العطيب نثرتْ رذاذا أمام هذا الطفل الذي إخترعه الرصيف، فكل الزوايا تنبعث منها رائحة الألم، مرمي على الأرض وكل الحقائق تقول أنه على مقربة من النهايات الموعودة، بسكب دماء لا تتمتع بحق الألوان فهي من شدة شفافيتها ووصايتها تمتنع عن الظهور، حتى يتم تشخيص الورثة بتعداد شخوصهم،لا أرى له حركة داعية ولا شمس توقظه من نوم عميق، إرتماءة في عجالة خلفية أضمرت حدا متطرفا لضمائر ميتة لا تعرف الرحمة...

يا ترى هل هوحلم نائم في ملكوت هذه الأرض الرحبة الأزلية أم عقاب لريح عاتية؟
هاهم يمرون عليه ويشربون من كأس انبطاحه على مصقلة تأكل من ترانيم عذاباته وتتبرج بصوت أحديتهم المثخنة بالأنانية، الجريمة واضحة لا مجال لإنكارها أوتبديدها، إرتبك الموقف على مهل، وأعياني السير في ربوع المشاهد المتناثرة في تعب النسيان وقساوة الزوايا المفتوحة في كل مكان... إقتربت نحونقطة أشادت بتعبي، لأترنح جانبا وأترجل عن أسئلتي الكثيرة في ارتياب المضغة وأتسلل في صمت وزخم من الإحراج لأني وبكل بسيطة لا أقوى على انقادهم وأنا المتسكعة دوما على وجع يتغدى من شهقة تمردهم وأنينهم وما تلك الرحلة القصيرة سوى مرتعا للمتشردين ومتنفسا للناظرين

***

ثالوث الأحـــــــــزان

بعد يوم كله مشاق وصراعات، إنزويت نحوزاويتي المخصبة بحفنة المواقف والأحداث

اللامتناهية،بقيت صماء بكماء،مسترسلة روحي نحوالكوابيس اليومية،أروضها يمينا وشمالا وحلقة جديدة في غربة الذات ،تقضم بشراهة تفاحة مخيلتي حتى تصير في مضغة طرية، رحلة حملتْ معها مرارة بشتى الألوان وارتج الصوت في إنتصاب العمر، إرتميتُ بين أحضان الصور الحياتية وهي في حالة تأهب قصوى، فبدأتْ الحقائق تسيل في سخونة وصبيب غير طبيعي، إستلطفني الحديث جهرة خفية ، مواقف إنسانية في علبة من الكلام ومشهد مرتبك من شدة غضبه ورؤى منقوشة بأنفاس مصقولة بعرق البؤساء والفاقدين لنعمة الإحساس بالسعادة، برودة النهار والمساء هزيع معتق يقسم السنبلة الى شطرين وعلى دقات الطبول يخفق القلب في معمعة العيون الباكية ،بدأت الأمور بالتدرج والإنحاء نحوغروب شمس يوم إنفرد بالخصوصية وتشابكت الأشعة في ظهرانها وتعاظمت الأحزان في مقلتيها الجاحظتين،هونور تحول الى ظلام وعقل لطالما عرف بالنقاء والصفاء،كل الأشياء كانت مبتسمة في وجهه البشوش، فأصبح بين ليلة وضحاها فارس القافية اللاموزونة والإنصياع لثغرة دات سنابل منكسرة الفؤاد،أيهم وجه صبوح شديد الشفافية،أعرفه مند أن كنا صغارا،ينحدر من أسرة يلفها الغموض المسربلة بالأحداث الغير متوقعة ،درس معي فكان قمة في الذكاء والنباهة وحضورة أشبه ببساط لامع إعتاد على تفوقه ونجاحه المستمر... الى هنا وكل الأمور تنم عن مشهد عادي مقتبس من دساتير بني آدم،إعتدنا على رؤيته بتلك الرمزية والتخمة في بلوغ المراد، فنظرته الذاهلة أشبه ببريق من الصعب أن يخفث لأي سبب من الأسباب،ورغم إنبعاث زمرة المشاكل التي كنا نسمعها في شكل روايات عن الأسرة ،إلا أن أيهم عندما يخرج من بيت معمورته تجده شامخا ولا تنال منه الدهشة، أوالثرثرة المزروعة في الحي،حتى الوقوف أمامه يلزمك أن تعيد صياغة الكلام قبل أن تشرع في مخاطبته،فقوة شخصيته مثال لأنشودة إغريقية نقشت بأساور عالية الجودة.

في ليلة إختفى فيها البدر، فتاعلت الأصوات وتساقمت الوجوه في التراب ،صرخة وجدت لها أذانا صاغية، كيف لا وهي مدوية في كل مكان، خِفتُ في أول وهلة لأني لا أعرف تبعات هدا الصراخ، فأكيد هذا الموال سيجلب معه أرضا حانية أوصخور مارقة مقبلة على نكبة سارية،هكذا كان وضعي الركيك وقلبي جدار مائل برعشة وتوتر عليل، لا يقدر على الإسترسال والبحث عن الحقيقة،ترجلتُ عن زاويتي في خجل وفزع شديد وسمعت حثيث ممرات داخلية تلهث، في رقائق أنفاس كثيفة البلاغة وزفرات متلاحقة تحمل خبر وفاة والدة أيهم ،كان الخبر صدمة لي لأن السيدة فاطمة كانت بأفضل الحال وها هوالموت يخطفها في عجالة،تبادرتْ الى مخيلتي أسئلة كثيرة فأيهم متعلق بأمه الى درجة لا توصف بمقياس إنساني اومخالطة جينية اوتركيبة بيولوجية،فكيف سيتقبل رحيل والدته التي لطالما كانت السند الدي يتكل عليه ومنه يرتقي في حياته ككل،غفونا على أحداث متتالية، مواراة جثمان الفقيدة في رحلة اللاعودة،أقيمت الجنازة ولا أحد شاهد أيهم بعد حدوث الإنتكاسة،اختفى فترك الأحجيات تنموفي أسطول قوي يدفع بسفنها وربانها نحوالمحيط الغائر بأسراره وتقلباته...

بعد مرور أسبوع ظهر في هيئة شخص فاقدة الهوية والأهلية، لا يكاد أحد أن يجزم ،أن دلك البدر أصبح تمثال رث، مرتهل البنية، وصورة حية لرصيف تآكلت أطرافه من كثرة حفيف الأقدام المتزامنة،كل الإستنتاجات أصبحت مقيدة بحيز مفهوم باهم، لا يستطيع أن يصادق على ورقة بيضاء أشاد بها التاريخ في إنتصاب إنجازاته ولا حتى مشارف العمر في قوته وصلابته،بكت العيون بدمع الروح قبالة حزنه،فصار للألم عويل يجفل العمر في زلة الإستسلام،كل ليلة يخرج أيهم في منتصفها ليغرد وينشد الوجع بحيث يتجمد الدم في الشريان من شدة قساوة الخناجر وهي تلطم قلبه المجروح، فهديل صراخه ومعاناته تخرس لها الأجواق وتهرع الأحلام الى مجرة الكوابيس على شفة حفرة،أقيم على أطرافها حفل تأبين لإنسان فقد عقله ليلة إسدال الستار بمسرح التعاسة الأبدية، فصار في هودج سرب الحمام وهويودع موطنه الأصلي نحوالمجهول،جملة يرددها أيهم تحت معزوفة فخاخ الآلام والآهات
"اماااااااااااااه لمادا تركتني"

هكذا يرددها في نبرة حزينة بعدما ضحكت له الأيام، أبكته في أيام أُخر،صارت نظرته ضريرة وصعب أن تمسح دمعته بمنديل دومضمار أوحدود شموخ دينار.
نكبة سيطول مداها داخل قلعة احتبست داخلها كل الأحلام المكسورة في حياة الطائر الجريح وقلب مفجوع حكم عليه بالسجن المؤبد في تعاريج متاهات مضنية،كلما رأيته في تلك الحالة تنصهر الأرض في لهيب شديد اللهجة، فغياب نقطة تلون أيامه العامرة بالسواد جعلته رفيق مخلص للموت في بلد الأحياء، شردته العواصف فأصبح عابر سبيل في مدينة الأشباح لا يميز دفاترها وأوراقها المنتصبة في زمن أراجيج الأجساد الفانية وتماسيح الصورة القاتمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى