السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم تركي بني خالد

بلاش فلسفة!

نسمع هذه العبارة كلما أراد أحدهم أو إحداهن زجر آخرين تعبيراً عن الضجر من طبيعة الحديث أو الحوار الذي يجري حول مناسبة ما أو من موضوع معين. وتقال هذه العبارة حين إبداء الامتعاض حول مجرى الحديث الذي قد يكون نظرياً في نظر البعض ولذلك لا طائل تحته. ولطالما قال أحدنا للآخر: دعونا نكون واقعيين ، ملمحين أو مصرحين بضرورة العودة إلى الواقع والابتعاد عن "الفلسفة" التي ينظر إليها أحيانا كثيراً على أنها ترف وجدل عقيم لا يقود إلى نتائج.

أشعر بالحزن كلما سمعت العبارات التي تسيء للفلسفة وتسخر منها باعتبارها عبثا فكرياً لا مبرر له. بل أشعر بالإحباط تجاه ما آلت إليه الفلسفة في عالمنا المعاصر حيث تراجعت إلى مكان خلفي لا يأوي إليه إلا قلة من الذين أصيبوا بالهوس الفكري، وربما اتهمهم البعض بالجنون. وأستغرب تراجع العديد من المدارس والجامعات عن دراسة أو تدريس الفلسفة حتى ولو على شكل مقرر أو متطلب جامعة عام أو اختياري. ولعل هذا يعكس مدى عدم قناعة أصحاب القرار التربوي بضرورة الفلسفة كأداة لتحقيق أهدف التربية المتمثلة عند كل الأمم في عبارة خلق المواطن /الإنسان الصالح.

لا أريد أن أتفلسف على أحد، لكني أرى إننا نظلم الفلسفة والفلاسفة وبالتالي نظلم أنفسنا حين نتسرع بإصدار أحكام عامة وغير مدروسة معبرين في ذلك عن جهل بطبيعة الشيء الذي نحكم عليه. إن محور الفلسفة هو الإنسان، فكره وتكوينه، وعلاقاته بالأشياء من حوله مثلما أن هدف الفلسفة هو البحث عن كل ما يقود هذا الإنسان إلى سعادته.

الفلسفة رديف المنطق، بل هي نتاج المنطق والتفكير السليم، ولذلك لا يصح اتهام الفلسفة بأنها بعيدة عن الواقع في حين نقول لمحدثنا كثيرا عبارات من مثل "دعنا نكن منطقيين"، فهل يمكن تحقيق ذلك بدون الفلسفة؟ الفلسفة دليل احترام العقل البشري، تلك الأداة التي منحنا إياها خالق هذا الكون من أجل فهم ما يجري من حولنا وفي ذواتنا، ومن أجل تلمس طريق النجاة من مشاكلنا الكثيرة.

في الفلسفة اعتماد كامل على العقل واعتراف بقدرة الإنسان، الذي ميزه الخالق عن سائر الحيوانات، على التفكير ومن ثم حل المشكلات بطرق معقولة. وفي كل الفلسفات بأنواعها المختلفة دعوة واحدة لامعان النظر بالكون وفي ذات الإنسان من أجل التدبر والتأمل والتوصل إلى ما هو خير البشر وسعادته.

لا يمكن للإنسان، الفرد أو الجماعة، أن يعيش دون فلسفة تخصه وترشد طريقه إلى سواء السبيل. فلكل منا فلسفته الخاصة والشخصية دون أن يكون واعياً بذلك بالضرورة. إن سلوكنا اليومي مرهون بأساليب التفكير التي نتبعها وبطبيعة المعتقدات التي نسجناها في عقولنا.

إن معاداة الفلسفة والتفلسف والفلاسفة ظاهرة غير صحية إن وجدت لدى أشخاص أو مجتمعات، وذلك لأن فيها إنكار لدور العقل والتفكير في الحياة. في الفلسفة بحث عن الحكمة وفيها إعتناق لمبدأ البحث العقلي أو العلمي كمنهج محايد بعيد عن العواطف المنحازة.
الفلسفة إن شئنا أم أبينا أم العلوم وأصل جميع الأفكار في جميع المواضيع أو التخصصات. ابن سينا الطبيب لم يكن إلا فيلسوفاً وعالماً بكل المقاييس، وكذلك الكندي والفارابي. وما علماء اليوم المتميزون إلا فلاسفة كل في تخصصه، وحتى الشهادات العلمية المحترمة ما هي إلا دكتوراه الفلسفة تمنحها الجامعات لطلبتها المتميزين في أي علم من العلوم.

في العلم بحث عن الحقيقة، وفي الفلسفة تطبيق لأساليب البحث عن الحقيقة. لقد أكرمنا الله تعالى بنعمة العقل أداة للتفكير الصحيح، ولولا ذلك لكنا نهيم على وجوهنا كالبهائم لا ندري شيئاً عن الوجود. وعليه لا بد لنا جميعاً من استخدام عقولنا في حل مشاكلنا، وفي ذلك فلسفة. لا بد أن نتفلسف إذا أردنا إدراك كنه الأمور، فنحن جميعا بحاجة إلى التعرف على الحقيقة، والحقيقة كما نعلم ليست ملكاً لأحد ، بل هي موروث البشرية جمعاء، وما الفيلسوف إلا جندي يعمل في خدمة الحقيقة.

إن التنكر للفلسفة في الحياة وفي مناهج المدارس والجامعات هو إنكار لدور مهارات التفكير المنطقي والاستدلال العقلي في حل مشكلات الحياة. وإن الاستهزاء بدور الفلسفة حرب على الرغبة في المعرفة الحقة وابتعاد عن الحوار كاسلوب للتواصل مع الآخرين وللتوصل إلى الاستنتاجات السليمة.

حتى الذين ينكرون دور الفلسفة ويسخرون من الفلاسفة هم فلاسفة دون شعور واع منهم، فهم عندما يطالبون بالابتعاد عن التفلسف والرجوع إلى الواقع والبعد عن التنظير إنما يعبرون عن فلسفتهم الخاصة والتي قد تسمى بالفلسفة الواقعية أي اعتماد الواقع كأساس للنقاش ولا غضاضة في ذلك، فلكل مذهبه في هذه الحياة.

الفلاسفة هم حكماء الأمة وعقلاء المجتمع، وهم أولئك الذين يمتهنون التفكير والذين بدونهم لم نكن ننعم الآن بثمار التكنولوجيا والإبداعات العديدة.

الفلاسفة أناس يتساءلون عن كل شيء ويحاولون تفسير أي شيء وينجحون ويفشلون بدرجات متفاوتة. فالفيلسوف إنسان غير عادي، ينظر بمنظار العقل إلى الدنيا فيرى ما لا يراه البشر العاديين.

إننا عندما نطالب شخصاً ما بأن لا يتفلسف، إنما نعبر عن شعورنا بالجهل أو الإحباط لأننا عاديون لا نفقه ما يقوله هؤلاء الفلاسفة الذين يميلون عادة إلى استخدام اللغة بطرق تجريدية أقرب ما تكون إلى لغة الرياضيات والفيزياء بما فيها من الرموز والعلاقات التي يصعب على الناس العاديين فهمها.

إن من لا يحب الفلسفة، لا يحب الحكمة. فكلمة فلسفة جاء بها العالم الفيلسوف فيثاغورس الذي استعمل كلمة Sophia وتعني الحكمة مضيفاً لها كلمة Philo وتعني محبة. فالفيلسوف بالضرورة هو أي إنسان باحث عن الحكمة، وربما من هنا جاءت تسمية الطبيب بالحكيم. والحكمة ضالة المؤمن كما نعرف، نأخذها أينما وجدت حتى لو كانت على أفواه المجانين!

في التربية محاولة لتعديل السلوك لدى أجيال من البشر، وفي علم النفس محاولة لفهم هذا السلوك البشري، وفي السياسة والإدارة محاولة لتوجيه سلوك الناس بطريقة أو بأخرى، وما الفلسفة إلا أداة التعبير عن التفكير الصحيح الذي بدوره وسيلة السلوك غير المنحرف.
في زماننا الحاضر نشاهد انحرافات صارخة في السلوك البشري لدى الأفراد والجماعات، وفي انشغالنا بالمال والأعمال، لم يعد العقل تلك البوصلة التي قادت البشرية إلى بر الأمان. في زمان البز نس عدنا بأمس الحاجة إلى العودة إلى أم العلوم: الفلسفة بمعناها الواسع، وفي ذلك دعوة إلى تحكيم العقل ولغة الحوار في إدارة المشكلات المعاصرة. في زمن بات يسمى بثورة الاتصالات، تتراجع وسائل التواصل بين الشعوب والقبائل، وفي زمن تسود فيه قوانين الغابة بمنطقها الظالم ( القوي يأكل الضعيف) ، تتراجع الحكمة ويخفت صوت العقل، ويتقهقر الفلاسفة حتى باتوا مثالاً للتندر والفكاهة الخالية من الطعم أو اللون، ولله في خلقه شؤون.


مشاركة منتدى

  • إن التخلف الذي نعيشه و التراجع الذي عرفناه راجع إلى النظرة السلبية للفلسفة ، ليست الفلسفة بحاجة إلى من ينصرها و إنما الإنسان (والعربي خاصة )هو الذي بحاجة إليها.
    أنا واحد من الذين خدعتهم الأفكار الجاهزة.لاكتشف لحسن الحظ أن رفض الفلسفة إنما هو رفض للعقل.
    بالمناسبة عثرت في الشبكة على موقع في الفلسفة.
    www.fourar.tk

    عرض مباشر : موقع في الفلسفة

  • لمادا لايمكن للانسان ان يعيش بدون فلسفة و شكرا

    • بالفعل ان الفلسفه الآن تقدم تسائلات اكثر من الأجوبه ولا يعد هاذا قسورا في الفلسفه بل نقصا بالمتفلسفين اذ اننا بامس الحاجه الى المتفلسفين محبين الحكمه امثال سقراط وخاصه في زمن ابتعدنا فيه عن معنى الوجود ا وللوصول للحقائق هاذه دعوه للتفلسف والدعوه عامه

  • أنا أوا فقك الرأي يا أخي إن حقا الفلسفة هي أم العلوم إنها من يوجهنا ومن يحدرنا وهي تكون رفيقة حياتنا اليومية بها نفرق بين الصحيح و الخطأ و أكثر من ذلك وأرجو من كل من يعتقد أن الفلسفة جنون أو ما شابه أن يعيد التفكير و حكمه على أم العلوم لأ نها من ينير دروبنا.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى