الأحد ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم وفاء الحمري

العيون الزرقاء

فتح عينيه المثقلتين بصعوبة بالغة.. تلقفه الظلام الدامس.. ظن في البداية أنه فقد البصر، لولا خيوط ضوئية بيضاء تزحف أمامه المرة بعد المرة.. رفع رأسه في محاولة للنهوض فارتطم جبينه بسقف خفيض لكنه كان كافياً ليرفعه إلى عنان السماء مع النجوم المتلألئات والأنوار الساطعات لبضع ثوان، ثم ينزل مرة أخرى إلى الأرض.. أرض الواقع.. يتحسس صفحة وجهه بكفيه الغليظتين اللتين شاكتهما شعيرات شاربه لينزعهما بخفة من هناك ويعود بهما إلى هنا جهة صدره وبطنه ورجليه.. كاد يحمد الله على سلامة بدنه لولا انسياب ساقه اليمنى من بين يديه لتسقط بجانبه دون أن يشعر هو بأي شيء.. مد كفه لساقه اليسرى فأسقطها على الجانب الآخر لم يشعر بشيء.. أي شيء.. لا إحساس لا حياة.. لم يدر كيف تجسدت له لحظتها كل صور القبر وأهواله التي قرأ عنها في الكتب... لوحات ظن للحظة أنه جزء منها.. راح مغيباً في استهاماته المرعبة حين أحس بيدين تشدان شعره بقوة وتسحبانه إليها، فبدأت الرؤية تتوضح والظلمة تتبدد، والحقيقة تتجلى.. تتجلى قائمة منتصبة أمامه.. بعيون زرق وشعر أشقر وبنية رشيقة.. سلم عليه بسخرية وسأله إن كان مستعداً للجولة الثانية... أبداً ما فعلت فيه لفظة مثل ما فعلت لفظة جولة... لم يكن المسكين يظن أن هذا النوع من البشر يحمل مثل تلك القساوة.. سكنت في مخيلته سحنة الجلاد السمراء وعيونه السود وشنبه الكث ولغده المتدلي وبطنه النافر، لذلك كانت جولته الأولى مع الجلاد الأشقر الرشيق الحليق مفاجأة بكل ما تحمله اللفظة من معنى.

حين أوقف الرجل قبل أشهر عند الحاجز المروري بين الفلوجة والنجف، ووضع في السيارة العسكرية الأمريكية لم يرف له جفن ولم يسرع له نبض... استلقى بثقة وكبرياء على مقعد السيارة يتأمل في السحنات البيض الجميلة والعيون الزرق البريئة... تبادل التحية مع الجند المرافقين له وحاول السؤال عن سبب توقيفه وحمله معهم في السيارة العسكرية وهو الحامل لبطاقة هوية عربية، وجنسية عراقية، بل الأكثر من ذلك حامل لمودة صافية للقوات التحريرية الأمريكية، وكاد يفتخر بأنه أول من نزل بالنعل على وجه تمثال صدام حين سقوطه وأول من التقطت له الصور بفرحة الإطاحة بالعدو الطاغية بيد الصدق الأمريكي الحنون... بل كاد ينزل عناقاً على ذلك العسكري الأمريكي الذي أوكل إليه مرافقته لولا انطلاق السيارة بسرعة فائقة زحزحته من مكانه ليعود إلى موقعه صامتاً.

أنزل في باحة السجن.. سجن أبي غريب.. وهو ليس عنه غريب.. يعرفه جيداً.. بل كان من أشهر نزلائه أيام الطاغية.. هناك تعرف على الجلادين الذين سبق وصفهم.. اهتز فؤاده للحظة لكن نظرة واحدة من عيون الجندي الزرق كانت كافية لتعيد إليه السكينة.

أدخل زنزانة التعذيب.. لم يستطع لحظتها امتلاك مشاعره التي جمعت من كل ذكرى مرعبة وصورة مفزعة.. ظن للحظة أن الأمريكيين فتحوا السجن للزوار حتى يقفوا على مدى الخروقات الحقوقية والتجاوزات اللاإنسانية التي كانت تحصل.. بل أكثر من ذلك ظن أنه اختير كشاهد شرف "سجين سابق" ليشهد على ما كان يحصل هناك، حتى أنه وبدون شعور منه بدأ في تعديل ياقة قميصه ونفض الغبار عن سرواله ولمع في غفلة من نظرات الجنود حذاءه بقطعة منديل ورقي، حتى تطلع الصورة في أبهى لقطاتها فيراها أبناء العشيرة والأهل والجيران على شاشات التلفاز واضحة صافية.. فيفخرون بابن البلد الذي دافع باستماتة ضد الحكم الظالم مستعيناً بأمريكا ودول التحالف... كان صاحبنا كاتباً صحفياً ذو قلم ذابح ولسان جارح وشكيمة لم تضعف أمام العذابات التي تلقاها إبان حكم صدام...

تقدم بفخر مع العساكر الأمريكان إلى داخل زنازين التعذيب، إلا أنه استعجل حضور الصحافة والإعلام والكاميرات لتصوير وتوثيق الحدث البارز... وراح بخياله بعيداً مع ألوان الطيف التي تبدت له بعد لحظات بألوانها الطبيعية، ينبوع دم أحمر تفجر من أنفه وفمه جعله يرفع يديه ليتحسس الجرح فيتلقى لحظتها ضربة قوية تحت بطنه من عقب رشاش الجندي الأشقر الذي رافقه رحلته الخيالية، فأعاده إلى مسرح الواقع الواضح المعالم نقي الألوان.. اللون الأحمر قد رآه رأي العين ولمسه لمس اليد ولعقه لعق اللسان.. أما ألوان الطيف الأخرى فرآها باهية زاهية بعد الغيبوبة التي عاد منها للتو.

جره الجندي الأمريكي من شعره من تحت السقيفة وأمره بالنهوض.. بحلق فيه صاحبنا بحلقة المنخدع ونظر إليه نظرة المصدوم.. ركله بقوة على ساقيه فتلاشتا في اتجاهين مختلفين مثل قوائم خروف مذبوح... ركله ثانية ليتأكد من شلل رجليه بالفعل.. امتعض الجندي من هذه النتيجة السريعة وهو المليء حقداً وعدواناً ورغبة في التنكيل بذلك الصيد الثمين لمدة أطول وبطرق أفضل...

أحس الجندي بامتلاء مثانته، فانتعشت في رأسه فكرة تخفف عنه جموح رغباته العدوانية، وقف قبالة الرجل.. تبسم بمكر وهو يستمتع بصوت شرشرة السائل وهو يبلل جسد الرجل... وصدق حدس صاحبنا إذ أحضرت للتو الكاميرات الرقمية الحديثة وأرَّخت اللحظات الخالدة.. لم يخذلوه هذه المرة.. حققوا أمنيته بالظهور على الشاشات إذ بعد شهور من الحدث وجسد هذا العراقي موار في بيته المتهدم داخل كرسيه المتحرك "والذي لم يتحرك أبداً منذ أطلق الأمريكان سراحه بعد استيفاء شروط مغادرة السجن" (الشلل التام).

ظل الرجل جامداً ساكناً إلى حين عرض تلك الصور الصافية الواضحة.. بل علم أنه لم يكن وحده المكرم عند هؤلاء، بل ظهر غيره وهم كثر في وضعيات ولقطات نادرة، بل ومبتكرة.. فكانت تلك اللقطات تنطق بمدى الخذلان الذي مني به الرجل من طرف من يسمون أنفسهم المحررين الجدد!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى