الخميس ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم أمينة شرادي

ليلى...

نبرات خفيفة على باب المدير. تدخل فتاة تلفها مسحات من الجمال الهادئ. تتقدم بكل بطء وخجل. تسلم على مدير المؤسسة:

 صباح الخير.

 صباح الخير يا آنسة. رد عليها بابتسامة عريضة.

تابعت كلامها دون أن تنتبه إليه:

 أنا أستاذة اللغة العربية التي عينت بمؤسستكم و. . قاطعها قائلا:

 أهلا وسهلا. لقد كان موعدك بالأمس.

 أعرف. إنها فقط إجراءات السكن المتعبة وما تتطلبه من وقت.

أومأ برأسه بالإيجاب مع الاحتفاظ بابتسامته العريضة.

تفحص بعض الأوراق كانت أمامه دون تركيز وقال:

 ستعجبك مؤسستنا ، لقد تعبت كثيرا لأجعل منها المؤسسة الأولى في الإقليم . . . وتركته يسترسل في المدح والتنويه(بمؤسسته). . فسمحت لنفسها بملاحظة كل ما يحتويه المكتب من كؤوس رياضية وخرائط مختلفة وبيانات وصور. . وكان على الطرف الآخر المقابل لمكتبه، طاولة مستديرة حولها كراسي متعددة وفوقها أوراق متناثرة وملفات. . كأنه لا حظ فضولها، فباغتها بصوته الخشن نوعا ما وقال لها:

 ما رأيك يا أستاذة؟

ارتبكت قليلا وهي التي لم تنتبه إلى مديحه، لكي تحافظ على صفاء اللقاء الأول، ابتسمت وقالت:

 أنا يشرفني أن أعمل بمؤسسة من هذا المستوى. واستطردت بعدما همت بالانسحاب: -هل يمكنني الحصول على جدول الحصص؟

2

تنحدر ليلى من عائلة متوسطة. ترددت كثيرا قبل ولوجها عالم التعليم. كانت تحلم بأن تكون من أصحاب القلم والبحث عن الخبر. لكن وجدت نفسها أمام عالم آخر قريب هوالآخر من الورقة والقلم لكن بشكل آخر. تهرب من عالم الأحاديث الصغيرة والمتكررة وتقول دائما: (إن الروتين يقتل الإنسان ويحوله إلى كتلة لحم وشحم دون عقل.) لذا كانت دائمة الترحال وضد كل ما يقيد حريتها. حتى أنها عملت المستحيل ليوافق والديها على خروجها من البيت والسكن لوحدها في مدينة أخرى. قالت لها أمها يوما:

 بعد التخرج، سيساعدك أبيك على الحصول على عمل في أحدى الشركات الموجودة بالمدينة.

 لا أحب العمل بالشركات. وترددت وقالت : -لقد قدمت أوراقي لأجتاز مباراة في التعليم.

تركت أمها المطبخ وجاءت إليها مسرعة:

 التعليم؟ ستجدين نفسك لوحدك تدرسين في الجبال. . لا يمكن . . وعادت إلى المطبخ لا تلوي على شيء. .

عملت أمها كل ما في وسعها لكي تجعلها تطرد فكرة العمل خارج حدود مدينتها. خاصة أنها لم تستطع أن تستميل الأب إليها، فهوبالنسبة إليه العمل في القطاع العام مهم لابنته كيفما كان. فقالت لها بصوت آمر:

 طيب. إذا نجحت في المباراة، ستذهب معك ابنة خالتك للعيش معك. فهي مخلصة لي وستؤنسك في غربتك.

 لكن يا أمي، إن نادية لا تستطيع فراقك. وأنت بحاجة إليها أكثر مني.

ردت الأم بقوة وثقة أكبر:

 هذا هوشرطي الوحيد. (نادية كأخت ثانية لها. لقد تكفلت بها أمها بعد وفاة والديها في حادث سير مروع وهي ابنة الثانية عشرة من عمرها.)

قبلت ليلى شرط أمها. وكاد أن يتبخر حلمها البعيد بأن تستمتع بحياة الاستقلال والاعتماد على النفس. وترى كيف تكون صيرورة الحياة بعيدا عن أعين الأهل ونصائحهم المتكررة . لولا حدوث حدث جميل ومفاجئ أفرح الكل وأحزن شيئا ما والدتها. (نادية وافقت على الزوج الذي تقدم إليها، وهومستعد لكل المصاريف. ويرغب في أن تسافر معه في الشهر المقبل) تكلم الأب عندما تحلق الجميع حول مائدة العشاء.

قالت ليلى والفرحة تكاد تنط من عينيها:

 متى حدث هذا؟

 منذ أسبوع. لم أشأ أخبر أحدا حتى أتأكد بنفسي من سلوكه . . وبالأمس تكلمت مع نادية ووافقت عليه.

 وأمي؟ سؤال فيه نوع ما من التحدي والخوف.

 ما بها أمك. صاحبة الشأن وافقت.

لم تشأ ليلى أن ترفع من حدة الصراع. انسحبت في هدوء آملة أن تتحقق رغبتها الدفينة.

3

 ليلى، ليلى، صوت خارجي ومألوف لديها فاجأها وهي تتأهب لمغادرة المؤسسة. التفتت وصاحت:

 من؟ فاطمة؟

وكان عناق حار ممزوج بالضحك والدهشة.

 ماذا تفعلين هنا ؟ سألت فاطمة، ليلى ، وفرحة اللقاء تكسومحياها.

 عينت أستاذة اللغة العربية.

 جميل جدا. وأنا أيضا أعمل هنا. أدرس مادة الاجتماعيات.

انبسطت ملامح ليلى لوجود فاطمة معها. اتجهتا نحوالباب الخارجي وهما منهمكتان في حديث تارة مسموع تتخلله همسات، وتارة ممزوج بإشارات باليد أوبالرأس. .

اختارت ليلى اللغة العربية، بعد حب طويل ظهر فجأة لم يعلن عن ولادته. وجدت نفسها متجهة للروايات والقصص، تقرأ ما يختاره عقلها وروحها. ترى في وجوه الروائيين والشعراء، نور يرقص القلب ويغذي الروح الجائعة والتائهة ويخلخل الفكر الخامل. تقول دائما(لولا هؤلاء المفكرون والأدباء، لتحولت حياتنا إلى صحراء جرداء تبعث على الموت البطيء.) خلال مرحلة تكوينها التعليمي، كانت الوحيدة التي طلبت أن يرسل إليها كتبا من الخارج في إطار التبادل بين المؤسستين. وتابعت جنونها الجميل غير آبهة بالعقول الصغيرة التي تحيط بها. رغم المناخ العام الذي كان يسود ويحيل كل نفس إلى جثة مسجاة على نعش يصلي حوله مجموعة من الغرباء.

كانت لحظة اللقاء الغير المنتظرة، جاثمة بكل ثقلها الزمني على روحها وتفكيرها.

 ليلى، هذا هوبيتي. أرجوك تفضلي.

 لا يا فاطمة، الوقت متأخر. في وقت آخر.

بعد مد وجزر، انتصرت طيبوبة فاطمة وكرمها. . ففي سلوكها نوع من السذاجة والعفوية، تشبه أمهاتنا وجداتنا اللواتي يعطين كثيرا دون انتظار الرد. فهي تحضر لعملها في الوقت المحدد. تتحاشى التجمعات. تخرج لبيتها فور سماعها لدقات الجرس. لا ترغب من الدنيا سوى الهناء والصحة كما تردد دائما.

 ليلى، تفضلي. مرحبا بك في بيتك.

 شكرا

خطوات مرتجلة، ابتسامة خجولة، تقدمت ليلى للجلوس على أريكة وسط غرفة صغيرة. يتوسطها تلفاز متوسط الحجم، ومائدة مستديرة عليها غطاء مطرز. أثارت انتباهها بعض الصور المعلقة على الحائط. (أكيد هذه الصور لأولادها وزوجها(همست لروحها. تابعت ليلى جولتها عبر أثاث البيت وجدرانه. (لقد حققت حلمك القديم يا فاطمة.) استيقظت على صوت فاطمة الآتي من المطبخ: -ليلى، يمكنك إشعال التلفاز. فأنا قادمة. بجانب التلفاز كانت هناك صورة كبيرة الحجم، تضم عروسين. اقتربت ليلى أكثر حتى تتأمل أحسن . فاجأها صوت فاطمة بكل حنان وفخر : -إنها حفلة زفافي. . أحضرت صينية شاي وبعض الحلوى المنزلية. وجلست بجانب صديقتها وكلها فرح طفولي. : -أكيد أنها كانت ليلة رائعة.

ابتسمت لكلام ليلى، كأنها كانت تنتظر من يفتح معها باب الذكريات ويعيد إليها تلك اللحظة الغابرة بين ثنايا الزمن. وأخّذت تحكي وتحكي. . . حتى دمعت عيناها وقالت في استحياء: -ياه، لقد كانت ليلة العمر.

علت ملامح ليلى بعض الاستغراب وقالت: - العمر فيه ألف ليلة وليلة يا فاطمة.

أخذت زفيرا عميقا وجملت ملامح وجهها بابتسامة مترددة. وقالت كأنها تريد تغيير دفة الحوار: -سامحيني يا ليلى، لقد نسيت أدب الضيافة. هذه الحلوى من صنع يدي. لا أشتريها من الخارج. تفضلي.

عم صمت عابر ثم استطردت ليلى قائلة كمن تريد أن تعيد البسمة إلى طفل حزين: -منذ طفولتك وأنت مغرمة بصنع الحلويات خاصة . ربما سأطلب منك أن تصنعي لي بعض الحلوى. . وتعالت ضحكات متتالية وصغيرة ، طردت مسحة الحزن التي كانت عالقة بجدران الغرفة الصغيرة.

4

جمع ليلى وفاطمة حي واحد. كان شاهدا على صداقتهما الحلوة المليئة بالأفكار الطفولية. المنفلتة رغما عن الأهل من الموانع والأوامر. كانت أياما صافية خالية من الشوائب ، سجية كمياه البراري العذراء.

وفي يوم، جاء الحظر العلني في غفلة عنهما. كانتا نائمتين بعدما تعبتا من الجري والنط، على أمل اللقاء بغد أجمل ومليء بالحركة.

قالوا لليلى: -لقد كبرت وعيب اللعب طول النهار. . .

 أنا ألعب مع صديقتي فاطمة. قالتها وكل حواسها تبكي معها.

 حتى فاطمة كبرت.

صممت على الرد بكل قوة والخوف يستوطنها من يد تصفعها:

 وأخي أحمد، أكبر مني ويمضي كل وقته في الخارج. . .

احتلت الدموع مقلتيها، اختفت الابتسامة الطفولية. استعمرها الحزن المبكر والسؤال المبهم.

صارت لقاءات ليلى وفاطمة قليلة حتى كادت أن تنعدم. وتحولت فاطمة إلى امرأة قبل الأوان. بالشحم الزائد والجواهر البراقة.

والأوامر الموروثة التي طالما امتنعتا عن الامتثال إليها. حتى فاجأتها يوما بقولها:

 لقد تعبت من الدراسة. أتمنى فقط أن أجد الزوج الذي يريحني من كل هذا الوجع.

استغربت ليلى وقالت: -هذا كلام العصور الوسطى. كيف تفكرين بهذه الطريقة.؟

. وأعادتا شريط الذكريات البعيد، وكيف كانتا تتحايلان على الأوامر الغليظة وتسمحان لنفسيهما بالفرار من التعليمات، والتجول بين الخضرة والمياه المنسابة كالهمسات الرقيقة. وأكل السندوتشات ولعب الكرة.

طرق مبرح على الباب(انه وقت عودة الأولاد من المدرسة). قالتها فاطمة وطارت تسابق دقات عقارب الساعة لتفتح الباب. قامت ليلى تودع صديقتها على أمل لقاء آخر، في تلك اللحظة، دخل الزوج وراء ولديه وفي عينيه استفهام كبير عن سبب هذه البلبلة الغير المعتادة.

5

خرجت ليلى من بيت صديقتها وهي عازمة على أن لا تكون نسخة متكررة من فاطمة. وفي طريقها لم تتعب من طرح السؤال تلوالسؤال. وأخذتها الذكريات بعيدا، يوم انتهت العطلة الصيفية، وتلحفت بالجلباب الذي كان سيحدد مسار حياتها ككل.

(إن لم تلبس هذا الجلباب، سأحرمك من الدراسة(خاطبتها يوما أمها بقوة وغضب. استوطنت ساعتها روحها الصغيرة غضب كل المهمشين والمستضعفين كتمت غيضها لحظة. وقبل أن تتجاوز عتبة الباب قالت دون أن تلتفت: -أمي، الجلباب للنساء وليس لبنات المدرسة. راحت تتعثر في خطواتها بعيون واجمة . كانت صديقتها فاطمة تنتظرها قرب باب المؤسسة. صاحت دون مقدمات: -ماأجملك بهذا الجلباب. رمتها ليلى بطرف واجم. وانعقد لسانها وظهرت في صورة بئيسة. لم تنتبه فاطمة لتغير ملامحها وتابعت حديثها دون ملل ، وهي تعدل من غطاء رأسها وتزيح الجلباب عن اسورة الذهب وساعة آخر موضة. انتفضت ليلى وقالت بحدة: -أنا أكره أن لا يكون لي رأي وأرغم على فعل شيء لا أحبه.

 لكن الحشمة وقار يا ليلى. أجابت فاطمة بكل ثقة.

وهل كنت سآتي للمدرسة بلباس غير لا ئق. قالتها وغيرت مكانها من جانب صديقتها التي أزعجتها بأفكارها التي تشبه أفكار أمها وأخيها وأبيها. . . أشاحت عن وجهها وانكمشت وتمنت في تلك اللحظة لوبقيت طفلة ثلاث سنوات، تلعب بكل حرية. . تلطخ ملابسها

تصرخ. . تبكي. . لا تعليمات ولا أعراف. . 6

كانت ليلة ساجية تدعوللسهر والحديث الطويل. أراحت ليلى جسدها على كرسي يطل من شرفتها على شارع مليء بالسيارات والأضواء. وعلى جنباته أشجار كثيرة تضفي ستارا من الخضرة على اللون الاسمنت . أعادت التفكير في هذا الصباح، وفي كل ما لقيته وصادفته. كان لديها إحساس عميق بالصعوبات التي تنتظرها وسط عالم اعتاد الخمول وشرب كؤوس والحديث عن الأشياء الصغيرة. اتجهت بعينيها صوب النجوم كأنها تنتظر منها ردا. ابتهجت روحها وتركت كرسيها جانبا وتمددت على فراشها الموجود وسط الغرفة. غرفتها تجمع الفوضى والنظام. بها مكتب صغير لا يخلومن الأوراق وأقلام الحبر. . وبعض الكتب والجرائد. ودولاب تضع فيه ملابسها التي تختارها بكل عناية وحسب رغبتها. (من الغباء أن ألبس على ّذوق الموضة. .)هكذا كانت تقول دائما. ظلت مستلقية مع حواراتها الداخلية، ضوء غرفتها مازال يضئ الفضاء. صوت من الخارج الغرفة: -ليلى ، لقد اقترب

الصباح وأنت مازلت مستيقظة. كان صوت أمها الذي مازال يحرسها .

7

في طريقها إلى مؤسستها، شعرت بوخز خفيف في قلبها وارتفاع نبضاته بشكل مسموع. هي دائما هكذا عندما تكون مقبلة على مهمة للوهلة الأولى. تضطرب وترتبك بشكل كبير. وتحاول جاهدة التحكم في أعصابها وفي نفسها. كان اللقاء الأول مع تلاميذها وتلامذتها. وأثناء الاستراحة، تعرفت على باقي الزملاء والزميلات عن طريق صديقتها فاطمة. مرت الأيام بطيئة مثل موسم صيف ساخن، سئمت خلاله ليلى، عملها وكل ما يحيط به. فهي تكره العمل المتكرر والمحاصر بالأحاديث الطويلة والفارغة والقهقهات البليدة. حاولت تحصين نفسها من عدوى النوم الثقيل، خلقت لنفسها عالما خاصا بعيدا كل البعد عن أحاديث المقاهي والجلسات الروتينية. اتصلت بمدير مؤسستها طالبة منه مساعدتها في خلق نادي سينمائي للتلاميذ. يكمل تكوينهم المعرفي. رحب السيد المدير بالفكرة ووجدها جذابة قال لها: -هل أنت من سيدير هذا النادي؟

أجابت بكل ثقة: -نعم. يكفي فقط تجهيز القاعة ببعض المعدات الضرورية للعرض.

أشرفت على النادي مرة في الأسبوع وتحول إلى قبلة أسبوعية لعدد كبير من التلاميذ. وتخطت ليلى أولى عقبات الملل والكلام المتكرر. لكنها ظلت محاصرة ببعضهم. ففاجأها أحد الزملاء عندما كانت تستعد لعرض شريط ذاك الأسبوع. قال لها ذ. أحمد: -

 شيء جميل ما تقومين به. لكن مع هؤلاء المحيطين بنا، لا تستطيعين الاستمرار. لقد حاولت قبلك ولم أفلح معهم. .

ارتبكت شيئا ما. لم تقدر على التركيز. ردت عليه بشيء من العنف:

 من تقصد بهؤلاء؟ لم أفهم.

 أعني، إدارة المؤسسة والزملاء و. . .

 لحد الساعة وجدت كل المساعدة.

ولكن يا أستاذة. . اعتذرت له لأن وقت العرض قد حان والتلاميذ ينتظرون. وكانت أيضا فرصة تخلصت من ثرثرته الزائدة.

8

استقبلت يوما آخر تمنت أن يحدث فيه شيئا ما حتى يتميز عن الأيام الأخرى. تكاسلت وقامت بصعوبة شديدة لأنها نامت متأخرة الليلة الماضية. ارتدت ملابسها، ماكياج خفيف، فطور خفيف أيضا. واتجهت إلى المؤسسة. اعترضت طريقها سيارة أثارت غضبها وما هي إلا لحظات حتى انبرى صوت ذكوري يناديها باسمها: -ليلي، ليلى. . التفتت رغما عن كل الأعراف التي تمنع المرأة من النظر إلى الوراء بحجة أنه عيب وغير لائق.

كان هو. زميل البارحة صاحب الثرثرة الزائدة . كأنه يتعقبها. قال لها بكل ثقة:

 ليلى، اركبي. .

ترددت . وركبت وكلها صراع داخلي(. ماذا فعلت)؟ أنا لا أفعل ما أخجل منه. منطقي أن أركب معه. فنحن نشتغل في نفس المؤسسة. (سيتكلم الآخرون). هم دائما يتكلمون. أنا أرٍفض أن أمشي على هواهم. . وظلت طيلة المسافة في حوار مسترسل . ولا تجيب زميلها سوى بالإشارة بنعم أولا. تجاهلت تلك الأسئلة المشوشة على تفكيرها وسلوكها، تكلمت معه بشكل عادي أوحاولت اصطناع ذلك. تبادلا الإحساس بالملل والموت البطيء الذي يهيمن على المؤسسة. ما إن اقتحمت السيارة باب الإعدادية، حتى التفت حولهما كل العيون وحاصرتهما بنظرات تريد أن تفهم ما يجري. دكت ليلى المسافة التي تفصلها عن قسمها دكا وتمنت لوأن غيوما احتلت المكان وأردته إلى غابر الأزمان حتى لا تراها العيون المتلصصة عليها.

9

سلقتها الألسن وقتلتها الإشاعة حتى اختنقت. في ذلك اليوم، دق جرس الباب، وكانت فاطمة، صديقة الطفولة وزميلتها في العمل. قالت لها بنوع من الفتور: - وأخيرا افتكرت أن لك صديقة.

ابتسمت فاطمة كعادتها وقالت لها: _ اعذريني. البيت يأخذ كل وقتي. وحضوري اليوم هوفقط من أجلك أنت.

انقبض وجه ليلى وأرادت معرفة المزيد: - ماذا هناك؟

اعتدلت فاطمة في جلستها واعتلى وجهها حزم الأب الناصح: - ليلى، أنت صديقتي العزيزة ولا أتمنى لك إلا الخير.

ارتفعت درجة توتر ليلى. وكرهت المقدمات . قالت لها بنوع من العنف: - ما وراءك؟

* ما هي علا قتك بالأستاذ: أحمد. اغفري لي هذه الجرأة . أعرف أنها خصوصيات . لكن الكل يتكلم في المؤسسة عنكما .

ضحكت ليلى حتى كادت أن تسقط من على كرسيها. ضحكت كأنها لم تضحك منذ زمن. امتلأت مقلتيها بالدموع. وأخذت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا. ثم التفتت لفاطمة التي لم تحرك ساكنا ولم تدرك ما يحصل. وقالت لها: - كنت أعلم مسبقا بأن كلام المقاهي هوالذي يجمع يبنهم. لكن ليس بهذه السرعة القياسية.

أصاب فاطمة نوع من الإحراج والخجل. ومع ذلك أرادت أن تتم المهمة التي انتدبت من أجلها. قالت بكل ثقة : - صمعتك يا ليلى. ليست هناك صداقة بين رجل وامرأة. انتفضت ليلى بكل قوة وفتحت النافذة نافثة فيها كل غضبها. حتى تسترجع سكونها ووتمتلك أعصابها . استدارت بكل هدوء وقالت لها: - أين العيب يا صديقتي في أن أركب سيارة مع زميل لي. أين العيب في أن نتكلم ونتحدث بشكل تلقائي. . . لقد كرهت اسطوانة الشرف. وأنت تعرفين رأيي في هذا الباب.

اتجهت ليلى من جديد صوب النافذة ، تحدق في اللاشيء. دماغها في نقطة الصفر. سافرت مع ضجيج السيارات والأصوات البشرية المختلفة. تبحث عن استقرار لحظي وقوي يستوطنها ويحملها في غفلة عنهم جميعا إلى حيث السكون المنشود. انصرفت فاطمة بالسرعة التي أتت بها. تاركة صديقتها ثائرة لا تتكلم. كانت وسادتها هي الملجأ الوحيد لها. احتمت بها وتمنت أن لا تستيقظ أبدا.

10

حل الصباح كعادته محملا بشمس ذهبية ومرحة، زلزل سكينة المدينة الصغيرة وأيقظ ساكنتها . وكانت ليلى مرحة بشكل غير عادي. أعدت الفطور وفتحت النوافذ حتى يكسر ضجيج الخارج صمت البيت. أحدثت بلبلة غريبة في البيت. قبل أن تنادي عليها أمها، قالت بصوت عال:

 أمي، سأخرج الآن. لي موعد مع فاطمة لنراجع دروسنا.

أتت الأم مسرعة، تخب في ثيابها وقالت لها بشيء من العنف:

 خروجك المتكرر هذا لم يعد يعجبني. سأكلم أخوك بالهاتف وأخبره بكل شيء.

شعرت ليلى بالضعف . رفضت البكاء. وردت بصوت مغبون:

 أنا لا أفعل ما أخجل منه. أنا أخرج فقط عند صديقتي و. . وقبل أن تتم جملتها قاطعتها والدتها:

 أنا أعرف هذا. لكن ما قيل لي أزعجنني وجعلني أشك. .

بكت كثيرا ليلى لرد أمها القاسي. وقبل أن تلتجئ لغرفتها للحماية بها. استطردت الأم قائلة:

 لقد زارتني والدة فاطمة بالأمس. وفهمت من كلامها أنها لم تعد ترغب في صداقتك لابنتها. خوفا على صمعتها.

 لم أفهم ما ذا تعني بكلامها هذا.

 ستتزوج. وهي ترفض أن تظل ابنتها تتصرف كما كانت.

اختلط كل شيء على ليلى. فضلت الانسحاب والاختلاء بغرفتها. وظل دماغها يغلي من كثرة الأسئلة التي لم تجد لها إجابة: كيف كنا نتصرف؟ هل كان سلوك الخروج واللعب . . عيب؟

11

ولجت ليلى فصلها وكان دماغها ما يزال مسكونا بصوت صديقتها فاطمة. ارتباك على كل تصرفاتها وتاهت عنها فصول الحصة التي كانت ستقوم بها. خطواتها مترددة وأفكارها متشتتة. . . جلست إلى مكتبها . . قامت ودفعت بجسمها خارج القسم متجهة صوب مكتب المدير. حصلت على إذن بالانصراف . وفي طريقها إلى بيتها، هاجمتها الأسئلة التي لا تنتهي (لماذا تصرفت هكذا؟ ماذا فعلت؟ . . هم دائما يتكلمون . . لماذا تأثرت بكلامهم. . .)و. . . سمعت تحية من بعيد مألوفة لديها، لم ترغب أن ترد عليها. استمرت ماشية حتى اقترب منها الصوت وفرض نفسه بإلحاح:

- ليلى، ألم تسمعيني؟

 معذرة.

- إلى أين أنت ذاهبة؟ سألها بطريقته المعهودة، غير عابئ بانشغالها. ارتاحت لخاطر مر مرور الكرام أحدث ثورة صغيرة بداخلها، ينم عن تحدي خفي لكل الألسنة التي سلقتها في غفلة عنها. التفتت إليه قالت بروح متحدية:

 شعرت ببعض الملل والقلق هذا الصباح، وخرجت دون أن أعرف أين أذهب. .

كانت فرصة (أحمد) الوحيدة التي طالما ترقبها. فمنذ وصول (ليلى) إلى المؤسسة وهويحاول التقرب إليها بكل الوسائل.

اقترح عليها الذهاب إلى المقهى .

 أحسن مكان يرتاح فيه الإنسان هذا الصباح هوالمقهى. فهوخالي من الزبائن ويفتح الشهية للكلام.

ابتسمت وأعجبتها الفكرة التي ترضي كبريائها كامرأة. رغم كل ما تعرفه عنه وما وصلها من أخبار من طرف صديقتها (فاطمة).


تكلم بشكل مسترسل دون تحديد وبشكل عشوائي. وظلت هي مرة مستمعة وأخرى تجيب بشكل مقتضب . لكن دواخلها ما تزال متأثرة بكلام (فاطمة) رغم محاولاتها المتعددة بعدم الاكتراث. بادرها قائلا:

 هل تشربين شيئا آخر؟

وقررت أخيرا أن تسأله دون أن ترد على طلبه. :

 ذ. أحمد، هل وصلك ما قيل عنا في المؤسسة؟

كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة إليه. فهوزير النساء كما يقولون ويحلوله أن يسمع هذا اللقب، لكن لم يتصور أن تصادفه جرأة مثل هذه. وضع كأسه جانبا وحاول التظاهر باللامبالاة. ضحك بشكل متعمد وقال لها:

 ياأستاذة، ليلى، الناس دائما يتكلمون سواء فعلت أولم تفعلين. الأفضل أن يكمل الإنسان سيره دون الالتفات للوراء.

 ولكن إذا كان الكلام يضايقك في حياتك، هل تدير إليه ظهرك أم تواجهه؟ كانت نبرة صوتها حادة وحزينة.

صمت بعض الوقت ونظر إليها وقال بشكل جدي:

 أنا لم أسمع ما يضايقني. ماذا سمعت أنت؟

فضلت عدم الإجابة لأنها شعرت من حديثه بأنه يتلاعب بالكلام …قامت دون سابق إنذار وودعته بسرعة شديدة حتى أنها لم تترك له الفرصة لقول أي شيء. وطيلة مسافة الطريق التي تفصلها عن بيتها، وهي توبخ نفسها وتلوم سلوكها. . لماذا قبلت دعوته؟ أنا أعرفه جيدا، كان الأجدر أن أرفض…لكنها عادت بقوة محاولة الانتصار لأفكارها التي طالما دافعت عنها قائلة بصوت عال: (أنا لم أفعل شيئا غلط. فهم دائما يتكلمون ويبنون جبالا من اللاشيء. )

نام كل من في البيت وظلت هي متوترة تسامر النجوم وأضواء الشارع. اختلطت عليها الأوراق. تمشت بدون هدف وسط غرفة الجلوس، أراحت جسدها على كرسي وتركت الغرفة مظلمة. سبحت بأفكارها في كل ما حدث. حاولت أن تحلل بمنطق العقل الذي تؤمن به. أدركها النوم وهي تتخبط وسط أسئلتها التي لا تنتهي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى