الاثنين ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٩

السوار الذهبي

بقلم: د. عطيات أبو العينين

أنيقة.. جميلة.. ما زالت تحتفظ بريها ونضارتها بالرغم من أنها تجاوزت الخامسة والأربعين.. من يراها لا يمكن أن يعطيها سنها الحقيقي.. وكثيرا ما يختلط الأمر على الكثيرين عندما يشاهدونها سائرة مع ابنتها الطالبة الجامعية فيظنون أنها شقيقتها.. هكذا كان انطباع كل من يراها، وإذا سألتها إحداهن عن سر جمالها النضر كانت تقول:
  يا جماعة ليس في الأمر سر وإنما هو صفاء القلب والصدق مع النفس وراحة البال، فالوجه لا يعرف الخداع ولكنه يظهر بأمانة ما يخبئه القلب..

تسكت قليلا، ثم تضيف بعد إطراقة:
 لا تحسبنني خالية البال أو بعيدة عن الأحزان، فأنتن تعلمن جيدا أني ترملت مبكرة، ولم أتزوج بعد زوجي المرحوم. رافضة كل من تقدم لي وتحملت مسئولية الأبناء حتى صارا في الجامعة..

هكذا كانت مديحة، أو كما كانوا يدعونها مدام (ميمي) امرأة من الطراز الأول.. فهي سيدة أعمال ناجحة حيث تعمل مديرة للعلاقات العامة بإحدى الشركات، وأم رؤوم تحرق نفسها من أجل أبنائها عصام وهدى، فهي أول من يستيقظ في البيت وآخر من ينام فيه..، وفوق ذلك سيدة مجتمع ممتازة.. فمنذ اختيارها في مجلس إدارة النادي أدخلت فيه عددا من الأنشطة الهامة لم تكن موجودة من قبل ولم تخطر على بال أي من الأعضاء الآخرين، فصارت محط أنظار الجميع..

استيقظت مبكرة كعادتها مع أنه يوم إجازتها.. أدركت أن وقتا طويلا قد مر دون أن تذهب إلى النادي.. ارتدت ملابسها على الفور واختارت زيا يناسب بداية الربيع، ولم تنس أن تتحلى ببعض ما لديها من حلي مع حفاظها على البساطة وعدم التكلف، وهذا ما كان يزيدها جمالا وحيوية..

قوبلت مديحة بثورة عارمة اختلط فيها الترحاب بالعتاب لطول غيابها. فراحت تبرر قائلة:
 ما منعني عنكم غير الشديد القوي..

صاحت أشجان بسرعة:
 أكيد الأولاد..

ردت مديحة وهي تجلس بينهن:
 معك حق يا أشجان.. امتحانات الأولاد أخذتني من كل شيء حتى من نفسي ها ما أخبار النادي؟

انطلقت كاميليا مستمرة في ثورتها:
 فاتك نصف عمرك.. في الأسبوع قبل الماضي أجريت مسابقة أجمل تسريحة شعر..

ضربت المنضدة بيدها:
 يا خسارة.. ومن الفائزة يا ترى؟..

هزت كاميليا رأسها وراحت تداعب خصلات شعرها بأناملها وهي تعقب:
 أخجلتم تواضعنا..

قبضت مديحة على خصلة من شعرها وقالت مداعبة:
 آه لو كنت موجودة في هذه المسابقة..

صاحت ثرية:
 أنت دائما يا مديحة حظك في رجليك.. جهزي نفسك للمسابقة القادمة..

قالت في سخرية:
 أرجو ألا تكون مثل المسابقات السابقة.. أجمل حذاء وأجمل دبوس شعر

وأجمل حقيبة يد..
 لا.. هذه المسابقة أثقل وأهم بكثير.. نحن نريد أجمل سوار..

كانت المتحدثة كاميليا، ثم أضافت في محاولة لإغاظة مديحة:
 أقترح عليك يا حبيبتي أن تنسحبي من الآن.. لأنني أعد لكم مفاجأة حقيقية فأجمل سوار عندي في البيت أحضره لي أخي في الشهر الماضي وهو عائد من الهند.. لو رأيتموه سيغمى عليكم..

هزت مديحة رأسها في تحد:

 وأنا قبلت التحدي.. وأرى ألا نلتق حتى يحين موعد المسابقة، لكي لا يبوح أحد بما لديه من سوار..
 اتفقنا..

قلنها جميعا في تحد.. وانفض الجمع وكل منهن يفكر في السوار الذي سيذهل العقول والألباب..

عادت مديحة إلى البيت على عجل، وهي تشعر بسعادة غامرة.. فقد تذكرت على الفور سوارها الذهبي النادر الذي أهداه إياها زوجها المرحوم.. كان قد اشتراه من مقتنيات أحد القصور القديمة بباريس، فهو يعد بحق تحفة فنية رائعة، علاوة على قيمته الأثرية..

فتحت خوان الملابس.. أخرجت علبة قطيفة حمراء علاها غبار السنين..

تذكرت آخر مرة ارتدته في حفل تكريم المرحوم حمدي.. كادت العيون تخرج من محاجرها عليه.. اغرورقت عيناها بالدموع.. مسحت بيدها دمعتين انحدرتا على خدها.. أطلت إلى السوار وارتسمت على شفتيها ابتسامة ثقة.. مهما بلغ سوار كاميليا أو غيرها فلن يصل بأي حال من الأحوال إلى روعة وأبهة هذا السوار.. أنا الفائزة بلا أدنى شك..

هكذا حدثت نفسها بصوت مسموع، ثم أسرعت إلى الهاتف.. التقطت السماعة.. أدارت قرص التليفون وانتظرت لحظة:
 آلو.. عزت.. أنا مديحة.. الله يسلمك يا عزت.. مشاغل والله.. اسمع يا عزت أريدك أن تأتيني حالا.. أيوة نفس الفيلا.. سأنتظرك.. لا تتأخر.

وضعت السماعة، ثم ألقت نظرة متفحصة على السوار.. أعادته بعد ذلك إلى مكانه الأثير داخل العلبة القطيفة.. راحت تزرع الحجرة جيئة وذهابا في قلق.. أمسكت بالعلبة ثانية وأخرجت السوار للمرة العاشرة أو العشرين..

ما أن سمعت جرس الباب حتى طارت إليه وهي تصيح:
 لم تأخرت يا عزت؟..

دخل عزت وهو يحمل حقيبة سوداء فاخرة:
 مسافة السكة يا هانم..

قادته إلى حجرة الجلوس، وبعد أن جلس صاحت وهي تنظر إلى الحقيبة:
 يبدو أن معك أشياء جديدة..

صاح وهو يفتح الحقيبة:
 تفضلي شاهدي بنفسك..

جالت بعينيها بين أطقم المجوهرات التي تراصت بانتظام داخل الحقيبة، ثم أغلقت
الحقيبة في غير اهتمام وصاحت:
 مش قد كده..

اعتلت إمارات الدهشة وجه عزت الجواهرجي، كاد يحتج لولا دخول الخادم تحمل صينية العصير، تناولت مديحة منها الصينية وصرفتها بإيماءة ثم قالت محدثة عزت:

 عزت.. هل تذكر سواري الذهبي؟
 طبعا يا هانم طبعا.. التحف النادرة لا تنسى بسهولة
 أريدك يا عزت أن تنظفه وتعيد صقله، فإذا كان في حاجة إلى لمساتك الفنية
فلا تبخل عليه..
 أنا في خدمتك يا هانم..

باتت مديحة ليلتها لم يغمض لها جفن.. وراحت تتخيل السوار وهو يبرق في عيون الحاضرين، لم تكن عابئة بالكأس ولا بالفوز في المسابقة بقدر ما كانت تحلم بلحظة إعجاب تراها على وجوه الموجودين..

انتفضت في فراشها وأسرعت إلى التليفون:
 آلو.. عزت.. نسيت أن أخبرك أن السوار به فص سقط، أرجو تثبيت آخر غيره..

طمأنها عزت إلى أنه اكتشف سقوط الفص وقد قام بتثبيت فص جديد مكانه، بل إنه سوف يسلمها إياه كأنه جديد، ومع ذلك لم تهدأ مديحة. كل حين وآخر تفزع إلى الهاتف:
 آلو عزت.. أرجو أن تركب للسوار سلسلة صغيرة ومحبس أمان..
 عزت.. لا تنس الياقوتة الحمراء التي حدثتك عنها المرة السابقة.. كما قلت لك تتوسط السوار وتحيط بها فصوص من الألماظ الحر.. الحر يا عزت
 عزت نسيت أن أخبرك بألا تطلع إنسانا بأمر السوار.. دعه سرا بيننا..

وبالرغم من التكتم الشديد الذي فرضته مديحة، فلم تستطع أن تمنع تسرب الخبر إلى المتنافسات في النادي.. فقد عرف الجميع أن مديحة تقوم بإعداد سوار للتقدم به إلى المسابقة.. ولم يكن لهن حديث إلا عن سوار مديحة الذي سيذهل العقول والألباب..

وضعت مديحة سماعة التليفون بعد مكالمة سريعة مع كاميليا التي طلبتها لتخبرها أن موعد المسابقة غدا، وهي في الحقيقة كانت تبغي معرفة معلومات عن سوارها الذهبي الذي ستظهر به غدا في المسابقة، لم تعطها مديحة أية معلومات وأخبرتها أنها تعلم مسبقا موعد المسابقة وليست في حاجة إلى تذكرة وراحت تتأمل السوار أمامها بإعجاب شديد وهي تضحك.. انتبهت مديحة على دخول ابنها عصام الحجرة مطرقا.. أغلقت علبة السوار وصاحت منزعجة:

 عصام.. ماذا بك؟
 لا شيء يا ماما..

قال عصام هذا وهو مطرق في الأرض زائغ العينين، تتبعه أخته هدى لا تقل
عنه انزعاجا:
 ماذا بكما.. تكلما..

تكلمت هدى وهي تسترق النظر بين أمها وأخيها:
 الحقيقة يا ماما.. عصام يفكر في الهجرة إلى كندا..

صاحت الأم معترضة:
 لا.. أنا لم أضح بشبابي وعمري، وأعلمكم أفضل تعليم حتى تتخرجا من كلية الطب وفي النهاية تتركاني وحيدة..

تكلم عصام بصوت يائس:
 كلية الطب؟.. ليتني تعلمت صنعة أفضل من انتظار خطاب القوى العاملة حتى ينتهي بي المقام في وحدة صحية مدرسية براتب ضئيل لا يسد رمقا..

قالت الأم:
 ألست مثل زملائك الذين تخرجوا في نفس الكلية؟
 زملائي.. منهم من تعين معيدا، ومنهم من سافر إلى الخارج ليكمل دراسته هناك، ومنهم من فتح عيادة..
 إذن فلتفتح عيادة.

رد عصام:
 العيادة تحتاج إلى مصروفات كثيرة.. وأنا أعلم جيدا الظروف الصعبة التي نمر بها بعد وفاة بابا.. بالرغم من محاولاتك كي لا نشعر بها..

أضافت هدي مؤيدة:
 كفاك تضحية من أجلنا يا ماما.. دعينا نعتمد على أنفسنا.. أنا تسلمت اليوم خطاب القوى العاملة سأعمل مشرفة صحية في إحدى الحضانات.. أما عصام فدعيه يسافر، فقد يكون حظه في الخارج أفضل من حظه هنا..

صاحت الأم في اعتراض وقد لمعت في عينيها دمعتان:
 لا يمكن أن ينجح عصام هناك إلا بعد أن ينجح هنا.. يجب أن يفتح عصام
عيادته.. وأنت أيضا يا هدى سوف تكون لك عيادة لعلاج الأطفال بالإضافة إلى عملك في الحضانة..

صاحا معا في دهشة:
 عيادتان دفعة واحدة.. نحن في حاجة إلى ثروة..

ضمتهما مديحة إلى صدرها وهي تقول في حنان:
 لا تحملا هما.. إنني أرى أمامي الآن طبيبين ناجحين، أستطيع أن أفخر بهما أمام الجميع.. هذا هو اليوم الذي أنتظره من زمن، وها قد تحقق.

قبلاها بحب وهما يدعوان لها، راحت مديحة ترمقهما حتى انصرفا، ثم مسحت دمعتين انحدرتا على خديها رغما عنها.. امتدت يدها إلى الهاتف.. أدارت قرصه.. انتظرت لحظات، ثم صاحت:
 عزت.. تعال حالا.. أريدك في أمر هام..

مساء اليوم التالي.. احتشد النادي بالمدعوات وقد تلألأت أيدهن وصدورهن بالأساور والمجوهرات.. وقد أعلن عن بدء المسابقة.. وراحت الواحدة تلو الأخرى تعرض سوارها، بينما كن جميعا يترقبن في شغف وشوق صعود مديحة على المنصة لتعرض سوارها، ولكن مديحة لم تصعد.. ظلت جالسة في القاعة وسط المدعوات، عن يمينها ويسارها جلس ابناها عصام وهدى.. لم يبق سواها
.. حتى صاحت كاميليا:
 مديحة.. أين سوارك؟

تحسست مديحة بيد مرتعشة موضع سوارها، وقد ارتسمت علي وجهها ابتسامة واثقة، ثم أحاطت بذراعيها ابنها وابنتها وقالت:
 هذان هما قرطي وسواري..

علا التصفيق وعانقها الجميع.. بعد قليل أعلنت نتيجة المسابقة وكانت مديحة هي الفائزة بأجمل سوار

بقلم: د. عطيات أبو العينين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى