الأربعاء ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٩

طفولة رمادية

بقلم: تيسير ياسين

هي مولودة فوق أرضٍ نصفها الأول مغتصب، ونصفها الثاني فقد القدرة على الحياة، تنزف منذ ولادتها الأولى لتسير كالغزال المجروح بخطى مترددة متألمة وسط ألسنة من اللهب، حتى تصطدم بواقعها المرير، وهي أنها مثل شجرة مبتورة، خريفية الفصل، مترهلة الأغصان بسبب ما ضربها من أعاصير أيام متلاحقة
.

بدأت حديثها

...
"
مستشفى هرم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد مخاض شديد اللهجة لتواجده في مدينة كمدينة نابلس، وبين جبلين باهتي اللون، وقمم مسننة حادة، وبين أنقاض ومخلفات تاريخ المدينة الذي أصبح أسود اللون بعد احتلال المدينة عام 1967م ".

وأكملت

..
"
في خارج المشفى شارع كالثوب البالي مرقع بآلاف الرقع وحفر الصرف الصحي المفتوحة تغطي ثلثي الشارع لتستقطب كل أنواع الحشرات التي تنتشر معها وحوش الأمراض الكاسرة... وجبال محنية الظهر، مكسورة الخاطر.. كانت ذات يوم تفوح منها رائحة الزعتر الجبلي، ويقصدها العشاق والمحبون.. وقمم الجبال التي تكسوها بيوت حمراء ملكيتها لأناس غرباء".

وأكملت

..
"
ونفوس تشكو آلام الوحدة، والهواء الفاسد والوقت الذي لا ينتهي إلا للعدم... كان ذلك في العام 1987، في التاسع من ديسمبر، والمستشفى خال حتى من الثائرين على الموت، والأطباء قد أنهوا أعمالهم، والممرضات قصدن بيوتهن لتحضير العشاء لأطفالهن.. ربما لأن ذلك يقع تحت ظرف حقيقي أنا أجهله".

"
وسيارة مسرعة تقصد مستشفى الإنجيلي، وإمراة حبلى جاءها المخاض، وهي في حاجة ماسة للولادة، وأطباء قسم الولادة قد تركوا أماكنهم.. مبررين عملهم هذا.. لأن البلد كان على شفا حفرة من النيران، "وصدامات تنبئ عن قيام ثورة في الأرض المحتلة عرفت باسم الانتفاضة فيما بعد".

وأكملت

..
"
والرجل والزوجة ذو وجوه شاحبة مرتعشة، هائمة على انكسارها بلا معنى، ذلك أن الرجل يريد أن تلد زوجته من دون تأخير، ذلك أنه أخذ يتوسل لإدارة الطوارئ في تعجيل ولادة زوجته حتى لا تقع عليها مضاعفات تؤدي إلى تدهور حالتها الصحية"

وأكملت

..
"
كان له ذلك بعد ساعة واحدة من المحاولات الحثيثة الجادة، إذ تمكن أحد الأطباء القاطنين في إحدى المخيمات الفلسطينية للاجئين القريبة من نابلس من القدوم إلى المشفى، مجتازا بذلك الحواجز العسكرية المنصوبة على أطراف المدينة".

وأكملت

..
"
وقد دخلت الزوجة إلى غرفة الولادة.. والمشفى خاو على امتداده سوى مجموعات القطط التي تسرح وتمرح في باحات المشفى البالي، وككل النفوس البشرية المترهلة والتي تترجم ترهلها الجسدي والنفسي بالمشي على الأقدام بحركة الأمام والخلف من غير وعي.. ذلك ما كان يقوم به الزوج.. وهو يحاول أن يدفع باب الغرفة ليطمئن على صحة زوجته ومصير طفله الجديد.. في تمام الخامسة صباحا يحرك الزوج بيديه باب الغرفة، إلا انه لامس وجه الطبيب بطريقة عفوية.. وصفير بكاء يندفع من غرفة الولادة، وصرخة غير طبيعية تدوي في المكان تحسبها سيمفونية البكاء الأول.. بالمناسبة ولادتي هي الأصعب ما بين إخوتي جمعيا".

وأكملت

..
"
كان الزوج يشتم بملء منخاره طلائع رائحة مطر قادم، وغيوم تشق طريقها الضيقة وسط الهدوء الذي خيم على المكان، والسعادة التي تراكمت على وجهه بخطى ثابتة أثارت دهشة الطبيب، وكأن الطبيب لأول مرة من عمره المهني يرى سعادة بهذا الشكل على رجل جاءته أنثى".
"
تمتم الرجل على لسانه حروفا صغيرة لكنها كبيرة المعنى.. الحمد لله.. الحمد لله، وهو يريد أن يسميها قبل أن يراها.. دخل عليه الطبيب متسائلا تسميها قبل أن تراها؟! أجابه نعم، نعم ولم لا.. سيطرت على وجه الطبيب ضحكة صغيرة وهز رأسه قائلا: أول مره أرى في حياتي رجلا مثلك غريب الأطوار.. استغرب الزوج من حديث الطبيب، وقد أحس من طريقة حديثه، سخرية عميقة في خياله.. لكنه أراد أن يتغلب عليها طالبا منه أن يسميها مقسما بالله، ولن يسميها أحد في الدنيا إلا أنت.. ".

وأكملت

..
"
أخذت الطبيب حيرة كبرى من أمر هذا الرجل.. قائلا لم أر في الدنيا مقاول كلام مثلك.. وربما لا يعجبك اسمي أولا، وأنا أعاني من الإرث الذي أورثني إياه أبي وأنا.. وأنا، هم في نفسه خافتا.. أنا عبد الله طبعا واسمي منتصر ولم أحقق أي انتصار في حياتي سوى أنني أقوم بمهمتي الإنسانية في توليد النساء، أختزن في ذاكرتي اسما لم أنسه طوال حياتي.. همس في صمته لثوان معدودة.. صفاء.. صفاء.

اندهش الزوج من الاسم، وكرر على شفتيه اسم الطبيب المقترح مرتين وأكثر
.. صفاء.. صفاء، لاسيما رغبة زوجته في التسمية إن كان ولدا(أحمد)أ وبنتا (أحلام).. أدخله في حيرة كبيرة بين رغبة زوجته ورجولته التي يتراجع عنها... يسأل الزوج الطبيب، لماذا هذا الاسم بالتحديد".

الطبيب قصة قديمة لا داعي لسردها ذلك أنني في حاجة ورغبة قوية لمداعبة النوم
.. إذا قدر الله في لقاء آخر غير هذا.. وسأخبرك قصتي".

وأكملت

..
"
وإذا أردت أن تتذكرني سمها صفاء عسى أن تكون شبيهة حبيبتي الأولى صفاء.. فأستأذن الطبيب منه أن يذهب إلى بيته وقد أنهى عمله بنجاح باهر بقدرة الباري عز وجل.. وهو محمل بأطنان الهم ومستقبل القضية برمتها، وصوته المشحون باللامبالاة على نفسه والذي ينبجس من خلال دخان سيجارته عميقا رعشا، وهو في أمس حاجة إلى سماع نشرات الأخبار وآخر التطورات في مدينة جباليا في قطاع غزة... طالبا منه أن يربيها وأن يحميها من ترهلات الأيام القاسية، وأن يكون خير أب لابنته وأولاده".

وأنهت

..
"
خرج الطبيب من المشفى قاطعا على الزوج نشوته التي تكللت بولادة زوجته.. وكيف قطع الطبيب عليه فرحه وسعادته وراح يشاهده مبهورا به وبسره الذي تركه له دون معرفته، وكيف يكون الفضول مثل رعد الشتاء قويا على الآذان، وهو يقتنص مشاهدته مرة أخرى من الطابق الأخير في المشفى وهو يتوجه نحو سيارته القديمة، وهو يجر جسدا ممتلئ الهذيان، وهدير محرك سيارته وهو يتوزع في جوانب المكان محرجا صمت القمر البريء في سكونه الغريق في أمواج السماء الهائجة في فصل الشتاء، وبشكل سيارته وبزهوها الفظ وفراملها الخجولة"...

هذه نقش حكاية تناقلتها شفاه صفاء وهي تحكي قصة ولادة رمادية وهي في عقدها الثاني من العمر
.. ووديع في لحظة يراقب تقاطيع وجهها، ويرحل بخياله إلى ذلك الزمن الرمادي، محاولا أن يخفي دمعته.. صفاء في نظره فتاة بهيئة طفل صغير أزعجتها الحضارة موجها حديثه لها.. قصتك مؤثرة لكن كيف للإنسان أن يفهم الوجه الآخر ونحن نعيش في زمن الوجوه المستعارة.. مبررا حديثه.. لأن هناك بشرا لا يستطيعون أن يفهموا الدنيا ولأنهم يدخلونها بقلوب عارية من الإحساس والعواطف بالآخر، وذخيرة العرفان للشخص الآخر قطرة إخلاص، وللعشيق قطرات.

كان وديع يفكر في نسج رواية أدبية واكتشاف قلب آخر غير حبيبته الأولى رجاء، وهو يحس برغبة ملحة في الهروب من الحقيقية وترك الحلول للأيام القادمة
.. للمستقبل المجهول... فتسقط في نفسه ذكريات الطفولة البريئة التي لم تزل من مخيلته لسنين طويلة، والتي كلما استعرضها انساق معها في هدوء ونشوة، مستمتعا بحلاوتها ورقتها، لكنها لا تلبث أن تصطدم مع أوضاع حاضره المؤلمة، فتنقلب إلى صراعات وتأملات تعقبه حسرة حينا وبأسا أحيانا أخرى.

مكان اللقاء كان الأستوديو في الجامعة، والمكان تحول إلى نصب تذكاري وائم لتلك العيون الألفة على عشق الحياة وهي كنز لا يقدر بثمن، ووديع في حالة هيام جديدة لم يعتدها من قبل مخاطبا وجنة صفاء
:

يا

.. صاحبة الحضارة إن الماضي لا يعود، وأنا أبدو كرجل يدنو من نهاية دراسته الجامعية وإنك لن تدركي أن تلك المشاعر الرقيقة نادرة الوجود، ولم تدركي أنها ستكون سبب تحطيمي.. حينما حدثتني عن قصتك وأنا بجانبك.. كنت تلهمين وتأسرين، وكانت الحياة تهدينا أحلى ما لديها من سنين، لقد تحدثت عن تلك الأيام التي مضت قبل حضورها الأخاذ، ونرى أنا وأنتِ تلك الأماكن في أجواء طقوس لقاءات غير عادية من عمرنا.

يذهب وديع مرة أخرى إلى عرين إحساسه العاشق وهو يلج شعورا وحيدا كعادته، وهو يسلط ضوء كشاف عينه على منظر فريد الوجود هو مشهد صفاء الأول، متمهلا من ذؤابة الرأس وحتى أخمص القدم، وهو في لحظة فتون لها نكهة خاصة من أيام عمره، وديع بدأ يحس بقلبه كأنها امرأة محتشمة بدأت تطرق طرقات خفيفة على الجزء الأيسر من صدره فلاذ قلبه بالجهة اليمنى خجلا
.

هم في نفسه قائلا وهي تراقب إشعاعات عينيه وهي تبصرها صامتة بشفتيها الحُمر للحظات عمر اللقاء،
"إنها زهرة حقيقة" وهو يفيق من يقظته بتثاقل بطيء لتلك الأيام التي عاشها ألما وهو يكذب على نفسه.. حتى وصل إلى حدة التأؤه ثائرا على نفسه " كفى كذبا على نفسي ، كل مواسمي يكثر فيها تزاوج الكوارث ".

وديع في جبين صفاء جثة مبحرة في عالم لا نهائي، وورقة خفيفة دمها خفيف، والعرق الذي يتصبب على وجهه كأنه ندى، وعصبيته في لحظات كأمواج البحر الهائمة على نفسها، والتنهيدة الخارجة من صميم فمه كأنها ريح خفيفة
... عندما شارف اللقاء على النهاية حطت صفاء مئزرها على كتف الطاولة المرمري – هناك آثار سر ممزوج بسر حبها للحياة – تطلب منه قبل إنهاء اللقاء ألا تنكسر ولن تكون الحياة جملية إذا لم تهزم في المعركة الأولى، والخاسر هو المنتصر الحقيقي في هذا الزمن على أن تبقى دائما في الطليعة، يخرج هذا الحديث كله منها ووديع يستمع إلى صوت رائق مثل زجاج البيوت، له رنين أعمدةٍ مذهبة تتوج رأس صفاء الجميلة، وهالة بيضاء في حلم رمادي فسيح، وهو مشدود إلى نبرة صوتها، وهي في حالة تقليد لدوره بطلته السابقة رجاء ضمن قصة إذاعية كانا يعملانها سوية في الأستوديو من تأليفه، وكأنها ملكة حقيقة.. قائلة: "جاء الوقت كي أمحو عن يديك الوقت والحّمى وأثار النعاس، ملوحة في الوقت نفسه بأريج أيام الولادة الرمادية، تضيف: هكذا هي قصتي وقصص الأيام وقصص الشتاء البربري، وهم الإناث، هكذا كان ابيضاض دم اللغة.. تقدم يا وديع وادفع عن نفسك فرط المباذل والتدافع لسبق حركة الأيام.. تأنى، لأن من ضلوع الحزن تنمو أمنيات القلب، وخلف أوجاع الاحتراف يكمن الفرح وتوقد جمرة المعاني، وأنا أرى فيك الهم وحشا شرسا وهو يعتقل ابتساماتك.. تضيف معتذرة.. كل ما فيك انكسار وانهمار واعتصار للمعاني.. تقدم يا وديع".

وأتمنى أن أراك بعد تخرجك من الجامعة وكلي شوق للقاء آخر

بقلم: تيسير ياسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى