الأحد ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم زياد يوسف صيدم

خبر وصينية كُنافة

لم تكن الزوجة لتغفو ساعتها الإضافية بعد السادسة والنصف صباحا، توقيت خروج أخر صغارها للمدرسة، فقد اعتادت على أن تكسب ساعة نوم أو أكثر قليلا قبل أن تنشط كربة بيت من الطراز الأول، استعدادا لجولة ثانية من تلاميذ ما بعد الظهر في الفترة المسائية.. حتى دق جرس التليفون.. وضعت السماعة جانبا وأخذت تنادى على زوجها الغارق في بدايات نومه، فقد اعتاد على النوم بعد أذان الفجر، وأحيانا كثيرة حين تخترق طبلة أذنه زقزقة العصافير منذ خيوط الصباح الأولى القادمة من أعلى شجرة الليمونة، تسبيحا لربها واستعدادا للبحث عن رزقها اليومي.. اقتربت أكثر حتى لامست أنفاسها وجهه هامسة: يريدونك بشكل عاجل على التليفون، من ثقيل الدم الذي يريدني الآن؟، سألها بامتعاض وكشره و بعينين مغمضتين وقد تكدر وجهه، لم يقل ولكنه يريدك بأمر ضروري وهام ولم يفصح عن اسمه!، أشار لها بتقريب التليفون ففعلت..نعم، صباح الخير أخ احمد.. صباح النور من تكون سأل.. لا تقلق أرجوك هو بخير وصحته جيده ولكن يتوجب حضورك لاستكمال الإجراءات فقط إلى... نعم سأحضر حالا، ولكن قلى الحقيقة كيف؟ وهل؟... قلت لك وأقسم بالله انه بخير ولا شيء مقلق أبدا خاطبه بصوته الهادئ والواثق من سهولة الأمر!، نعم...انتظرني إذا هناك سأحضر حالا، مسافة الطريق فقط وألقى بالسماعة إليها وهى مندهشة من عبارات زوجها المبتورة، التي بدت وكأنه يُخفى أمرا...

انتفض من سريره.. دقائق معدودة مرت،كان قد ارتدى معطفه الشتوي الأسود وبنطاله فوق بيجامته، سرح شعره وبيده جراباه قد انتزعهما من دولابه، خمس دقائق لم تزد حتى كان مستعدا على وشك الانطلاق.. بينما هو على هذا الحال، كان يجيب على معظم تساؤلات زوجته بطريقة شبه منتظمة، تكاد تكون مرتبكة لولا حفاظه على هدوئه، متمالكا لأعصابه، لا يريد أن يشعرها بان في الأمر ما يقلق، فهو نفسه لم يكن متأكدا بعد، وتعصف بفكره الظنون والهواجس..حيث راودته الشكوك في بحر دقائق كأنه الزمن توقف عندها÷ فهواجسه تزاحمت في رأسه حتى أحس بشواكيش تطرقها.. سأكون في لقاء صديق على عجالة، يريد مساعدة طارئة لظرف حل به، وسأعلمك عبر الهاتف بالأمر لاحقا أجابها... لا يوجد ما يقلق عزيزتي خاطبها وهو يخطو للمغادرة، ثم ضحك كعادته فابتسمت له، وقد استطاع فعلا إقناعها بما هو ذاهب من أجله على غير عادته هكذا اعتقد..

أوقف أول تاكسي قادم في شوارع ما تزال شبه خالية في صباح باكر.. يبشر بسوء فيما لو كانت تطمينات الرجل غير صادقة ولم يلطف الله به وتتسع رحمته.. خاطب سائق التاكسي في طريقه إلى مستشفى (شهداء الأقصى)، حيث جاءته تلك المكالمة من سائق الباص، الذي كان قد أخبره عبر التليفون بان ابنه حسين قد تعرض لحادث قبل دخوله بوابة المدرسة بعد ارتطامه بالباص.. نزل مسرعا من العربة متجها إلى قسم الطوارئ، و ما يزال يتمتم متوسلا ربه طالبا لولده السلامة، لكنه توقف في الباحة أمام المدخل ملوحا بيده وقد اعترته ابتسامه ابتهاج حقيقية!.. لقد لمح حسين، كان يشير له ملوحا بذراعه الأيسر.. اتجه صوبه مسرعا، كان برفقة رجل يحمل أوراقا، لابد وانه السائق، كانا متجهين بها إلى قسم الأشعة للتأكد من سلامة ذراعه الأيمن،كما علم للتو.. بادره بتحية الصباح ومهنئا إياه على سلامة حسين.. رد عليه تحية الصباح وهو يتحسس رأس طفله ويحتضنه بلهفة، ويمسح على شعره ووجهه بكفه مكررا شكره لله مرددا: لم أكن أتصور انك بخير ومعافى يا ولدى..بينما كان السائق يحكى تفاصيل ما حدث... كان طبيب العظام قد انهي تفحصه لصورة الأشعة، موضحا بان لا كسور في كتفه أو ذراعه وان الوضع سليم بحمد الله.
اتصل أحمد على الفور برقم المنزل: ألو عزيزتي.. الآن استطيع التحدث إليك، حسين بخير بحمد الله،هو كالعفريت أمامي يمشى..أين؟ وماذا تقول؟ حسين ابني!.. ماذا حدث له؟ كان قلبي يحدثني بان أمر ما قد حدث، قالتها قبل أن تجهش بالبكاء.. أريد أن أحدثه الآن طالبته بإصرار و لهفه، نعم ماما.. أنا بخير وذراعي سليمة لا تقلقي وسأعود بعد قليل مع أبى مع السلامة.. التقط منه الجوال بينما كانت الأم لا تزال تجهش بالبكاء، قبل أن تبدأ بتدارك الموقف.. وتبدأ في التحدث بكلمات واضحة وهدوء تام، خاصة بعد حديثها مع ابنها لأنها تعلم شقاوته جيدا.. فله من السوابق ما شاب شعر رأسها.. حمدا على سلامة ابننا حسين يا عزيزتي والآن إلى اللقاء قالها بهدوء وثقة..

تركت سماعة التليفون وهى تتمتم سامحك الله يا أبا احمد، لقد كان قلبي ينبئني بحدوث أمر ما، فقد شعرت بانقباض في قلبي ولكن رحمة الله واسعة..هكذا خاطبت أولادها وابنتها الكبرى الذين كانوا يستعدون للذهاب إلى مدارسهم للفترة الثانية.. فانبرت الابنة الكبرى تقول: لم يشأ أن يُخيفك يا أمي قبل أن يرى ويتأكد من طبيعة وحقيقة الوضع، هكذا هو أبى لن يتغير أبدا، دوما حريص على شعورك.. فرمقتها الأم على الفور بفمها المضموم جهة اليمين، وباعدت من حاجبيها، ورمتها بنظرة خاصة لن تفهمها الابنة؟..

كان يرافق السائق رجل من شرطة المستشفى و المسئول على قسم الحوادث،انفرد احمد برئيس القسم قائلا: لقد اكر منى الله ولم يحدث أي مكروه لابني، أريد أن تكون الإجراءات سريعة بحيث لا يتأذى سائق الباص، حيث أعلمني بان تأمين المركبة قد انتهى، وضاعت الأوراق في القصف الأخير لشركتهم.. فاثني الشرطي الشاب على طلبه،لقد كان في مقتبل العمر دمث الأخلاق ومهذب للغاية.. يُحْضر لإكمال دراسة البكالوريوس في علوم الشرطة والقانون.. فاثني كل منهما على الآخر، بينما كان سائق الباص يشكرهم حسن المعاملة خاصة من والد الطفل، وهنا طلب احمد من إعطائه فرصة من الوقت حتى المساء للاطمئنان أكثر على طفله، على أن يعود بعدها قبل نهاية خدمة الشرطي الشاب وذلك لإنهاء كل الأمور المتبعة.. حيث اتفقوا على تجميدها رأفة بالسائق وبالأوضاع الحالية لاسيما وأن الطفل معافى تماما..عاد أحمد في الخامسة والنصف مساءا برفقة السائق، وانهوا القضية قبل ترحيل السائق للنيابة.. لم يمض وقت طويل وبعد العشاء مباشرة، كان السائق وبعض من أقاربه قد حضروا لبيت احمد للاطمئنان، وتقديم واجب الشكر.. تناولوا القهوة جميعا، وكانت صينية الكُنافة بالجبن قد سبقت حضور القهوة على شرف سلامة حسين، هذا العفريت الذي لم تسلم ذراعه أو ساقه في السابق من كسور وحتى وجهه من خدوش وبقايا علامات لا تزال الشاهد على شقاوته الزائدة.. كانت زيارة عُرف وعادات متبعة تُشعر الأطراف بكرامتها وسخائها.. إنها لا تزال متبعة في مجتمعاتنا، وللحقيقة من أجمل العادات فعلا حيث تعيد الحاضرين إلى ما قبل الهجرة الكبرى (النكبة)، حيث يتركز الحديث عن الماضي الجميل.. والذكريات الطيبة.. حيث الأرض والهواء والحرية والكرم الأصيل للعائلات في بيئاتها القروية الطيبة والمتجدرة في عقول الأحفاد ومن يزال حيا من آبائنا... تناول الجميع الكُنافة بالجبن التي كان قد احضرها أحمد بعد الظهر مباشرة لجميع من يحضر للتهنئة، فقد تقاطرت جميع النسوة على أم أحمد من الأقارب والجيران اللواتي جئن مهنئات بسلامة حسين، ما لبث أن حضر صديقه متأخرا فطلب احمد بإعداد قهوتهم المفضلة (بلا سكر وكثير من الهيل) وإحضار ما تبقى من قطع الكُنافة بعد مساء حافل بالزيارات، سُمعت بعدها قهقهات الصديقان خلف الجدران وكأن شيء لم يحدث اليوم؟!...

فهمست زوجته لابنتها الكبرى: من يسمع أبيك يضحك منشرحا هكذا، لن يتخيل أبدا كيف كان وجهه في الصباح الباكر، بالرغم من كل محاولاته في التمويه.. انه لم يعد كالسابق ماهرا في إخفاء أسراره..وأتبعتها بابتسامة ذات مغزى!، فشهقت مستهجنة أمها، أيعقل أن أبى أصبح هكذا بكل ما سمعناه عنه في الماضي.. نعم يا ابنتي، انه الزمن وحده كفيل بتغير البشر.!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى