السبت ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم حسين حمدان العساف

نزعة التمرد في شخصية الشاعـر نديم محمد

بطاقة تعريف

ولد الشاعر(نديم محمد) في قرية(عين الشقاق) التابعة لجبلة عام ألف وتسعمائة وسبعة. طويل القامة نحيف الجسم، لم يكن على حظ من الوسامة، وإنما كان به تشويه أو دمامة، تثير سخريةَ إخوتهِ منه. دخل (الكتاب)، فتعلم القراءة والقرآن على يد شيوخ الدين، ثم تابع دراسته لتعلم قواعـداللغة العربية وعـلومها في مدرسة قرية(العنازة)بمنطقة بانياس الساحل، ثم انتقل إلى مدرسة(الفرير) باللاذقية، ثم إلى مدرسة جبلة، ثم انتقل إلى مدرسة اللاييك في بيروت، ثم تا بع دراسته في فرنسا، فنال إجازة في الأد ب الفرنسي من جامعة (مونبيلييه) بباريس في العام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين، ثم نال شهادة الدبلوم في الحقوق بسويسرا عام ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين، ولدى عودته إلى بلده عُين مديراً لناحية(الشيخ بدر) التابعة لمحافظة طرطوس، ثم تنقل داخل ملاك وزارة الداخلية، ثم عين خبيراً في وزارة الإعلام، وشارك في ندوات إعلامية في عدة دول. مرّ بحدثين أثرا في حياته: وفاةِ أبيه ثم وفاة أخيه الصغيرالذي أشرف بنفسه على تربيته، وأصيب بالسل، ثم تماثل للشفاء، ثم تعّرضت رئته لمرض، فاستؤصل جزء منها، ثم أصابه مرض البروستاد،أجريت له عدة عمليات جراحية، وأحيل إلى التقاعد أواخرالستينات، تزوج ولم يعقب، وضرب الشلل زوجه، فماتت قبله بحوالي ثلاث سنوات.

شعره يعكس حياته

شعره دخان وعطر ومعاناة وألم. إنه ( يغرفُ من قلبه، ويُعطي من دمه) كما وصفه مرة أبوه. وهذا ما تؤكده قصائده، له دواوين كثيرة جداً، ويزعم بعض من عرفه عن قرب أنها اقتربت من المئة، منها ديوان:( رفاق يمضون) و(صراخ الثأر)و(فراشات وعناكب)، وله عدة دواوين بعنوان:(من حصاد الحرب)، ترجم عدد منها إلى اللغات الأوربية،لاسيما الفرنسية، ولكن أشهردواوينه ( آلام ) بأجزائه الثلاثة الذي يتألف من سبعة وسبعين نشيداً، يصفه الشاعربأ نه:(كون لاتساق شعري حافل بالتعايش العاطفي) بثّ فيه روحَه وآلامَه، وأزجى أناشيده للناس، وفيه نتف من النثرالشعري أوالشعرالمنثوريصف فيها طبيعة قريته، ويشير بعبارات خاطفة قليلة عن شخصه ومجتمعه اعتمد ت عليها في هذا المقال، وأنا أُقدِّر أنَّ هذا الديوان وحده يؤهله أن يكون في عداد كبار الشعراء الرومانسيين في الوطن العربي، ورغم ذلك يجهلهُ اليوم أكثرُ أبناء بلده، ولمّا يمضِ على رحيله إلاّ سنوات قليلة، ويبدو أنَّ جهل الناس له ولشعره كان الثمن الذي دفعه بسبب سلوكه وموقفه من المجتمع والسياسة. دفع هذا الثمن حيّاً وراحلاً. فضلاً عن زهده في الشهرة وعزوفه عن الأضواء.

وصفه الطبيعة وتعلقه بها

ويبدو لنا من قصائده تعلقه بالطبيعة لاسيما طبيعة قريته الجميلة التي وصفها، وأكثر من وصفها، وأبدع فيه حتى صارهذا الوصف أحد مكوّنات مشهده الشعري، فقد حبا الله قريته التي أبصر فيها النورطيب المناخ وجمال المنظروبسا طةالحياة وصفاءِ العيش، فارتمى بأحضانها، وغدت بمثابة الرئة التي يتنفسُ منها، والملاذَالمريح الذي يلجأ إليه، فقريته تقع على سفح رابية تحيط بها سلسلة من التلال والجبال، وحواليها أكثر من نبع ماء ومصيف، تابعة لمنطقة(جبلة) في محافظة اللاذقية، تبعد عن مدينة (جبلة) اثني عشر كيلو متراً شرقاً، جوّها لطيف منعش صيفاً، وبارد ماطر شتاء. يصورنديم محمد موقع قريته نثراً تصويراً مشخصاً أقرب إلى الشعر، يقول:( قريتي التي تشبه ناطورة كرم لاطيةٌ في سفح رابية، تميع ساقاها الرخوتان في سهلٍ منطلقٍ، تحسبهُ الفازع الهارب، وقد تخوَّفَ عثاراً، فامتد ساعداه، وتقوسا، وانفرجا يميناً ويساراً)، ثم يصورمشهداً آخر في قريته نابضاً بالحياةِ واللونِ والصوت والحركة:

ضيعتي
قِصةُ الينا بيعِ
والطيرِ
وهمسِ الغصون
للنسمات
ضيعتي
لوحةٌ
من الفجر والليل
وناي الأعراس والرقصات.

وتمتد حواليها سلسلة متوالية من الغابات، تكسو التلال وسفوحَ الجبال حللاً جميلة من الاخضرارالمتما وج بمختلف أشجارالسنديان والبلوط والحوروالصنوبر وغيرها ما يؤنس العينَ، ويبهجُ القلب، فيقول في قصيدة له يعنوان:(غاباتنا)

غاباتنا المردُ الحسانُ،الخضرُ،أعراسُ التلال
العاصرات زنــــودُها من ريفـنا خَمْرَ النضالِ
كم عَطَّرَتْ غدواتِنــا بالوحي من أفقِ الجمـالِ
كم فَرَّحت دمنا بد فْ ء العـودِ أوبردِ الظـلالِ
كم سَهَّلَتْ عيشَ العيال،وفَرَّجَتْ كـربَ العيـال
ويستعرض مشاهد أخاذة من حياة قريته التقطها بعد سة مصوربارع نتخيلها الآن ما ثلةَ أمامنا:الريفَ،الماءَ،الحورَ،السنابلَ، صفيرالفلاح،القبرات،الخروف:
هي
في ريفها
منابتُ أفراح
وحسنٍ
جوانبـــاًوتخوما
ما ؤها الشّهدُ
ليُلها النغَمُ
الخمرُ
لتحيي مُنىً
وتجلو غموما.
فهويعشق طبيعة قريته وريفَها الجميل:
أعشق الحورَ
والذّرا
والدوالي
طفراً في ظلالها
وجثوما
وجنى سنبل
ونا رَ شواء
ودخاناً
يطير منها
غيوما.
ويشبه تصاعـد دخان نارالشواء إلى الجو بالغيوم، ثم يصورلنا صفيرَ الفلاح ومحراثه يِفلِقُ خد الأرض:
وصفير الفلاح
والكوز.. في
الأرض
إلى أصل
أذنه
مطموما
وكأني أراه
يفلقُ خَدَّ
الأرض
محراثهُ
مجداً عزوما
ويصور القبرات، وهنَّ يتبعن خطوط محراث الفلاح بحذر ليلتقـطن حبَّ البذار، لاحظ د قة ألفاظه المعبرة ورشاقةعباراته الشاعرة، لاحظ استخدامه الفعل( تزاقت) في مقطعه التالي: (فتزاقت وراءه قبرّات) كم كان دقيقاً وموحياً لك بصوت القبرة وتهيئتها للحركة؟
فتزاقت وراءه
قبراتٌ
يتأثرن
خطوه المرسوما
حَذِراتٌ
يلحظن قُدّامه
الحبَّ
فيكثرنَ
فوقه.. التحويما.
ويصورالطفلة الفا تنة الوجه والخيمةَ المنصوبة فوق (تل) يتراكض حولها الأطفال، والخروف الحلو(يثغثغ) انظر إجادة استخدامه الفعل ( يثغثغ ) لصوت الخروف في هذا المشهد المتحرك:
وخروفٌ حلوٌ
يثغثغ جَوْعان
فيرتدُّ صوته ترنيما
لكنّ هذه الطبيعة الجميلة للضيعة والريف لم تستمركما أرادها الشاعر، ولم تعد تحافظ على جمالها وهدوئها، وبساطة إنسانها الذي كان(نديم محمد) يعهده فيها، وعاش ذكرياته في أجوائها النقية، وإنما أخذ ت طبيعة الإنسان والقرية والريف تتغيرشيئاً فشيئاً نحوالأسوأ، وأخذ يتسرب إليها التلوث والفساد، واعتداءالإنسان عليها، وهذا ما استنكره الشاعرالذي كان يدعو باستمرارإلى المحا فظة على البيئة:
أين ريفي؟
وداعةَ
وحياءً
أين ريفي
وجهاً طليقاً
وسيما
أين إنسانه
العفيف كبسم الورد
والضوء
رونقاً
وشميما ؟
كا ن ريفي
قلباً طهوراً
من الرّجس
وحُباً يسمو به معصوما
مسخوه تحللاً
وشيوعاً
وأحالوه.. نقمةً
وشتيما
أنبتوه
قطيعةً
وخصا ماً
و جَنَوه
تزلّفاً
ونميما
أين كانت
عيني ؟
ومن بَدّل
الريحا ن
فيها.. نفا يةً
وهشيما

نزعته إلى التمرد

إنّ لجوء الشاعرإلى الطبيعة الجميلة التي تحيط بقريته وإكثاره من وصفهافي قصائده لا يعبرعن حبه لهافحسب، وإنما يعبرأيضاً عن تذ مره من مجتمع تمرد عليه، عجز أن يتلاءم معه، فأعرض عنه، وارتمى بحضن الطبيعة. وقد عرف عنه مجتمعُ قريته نزعةَ التمرد منذ أن كا ن صغيراً، وكان شيوخ الدين يخشون على مجتمعهم من تمرده، فعشيةَ سفره إلى(مونبيليه) وقفوا بوجه أبيه مطلقين صرختهم:( كفرٌهو تعلم اللسان، بخسٌ هو طعامُ الغرباء، ابنك خائس). وفي فرنسا تأثرنديم محمد بالحياة الجديدة والأفكار التنويرية، ورأى الفرق كبيراً بين مجتمع ضيعته والمجتمع الجديد الذي عاش فيه، بين حياة الغرب التي تنزِعُ إلى التجديد والتقدم واحترام حرية الفرد وحياةالشرق المحافظةِ على كل ماهو قديم المتعصبةِ لعاداتها وتقاليدها، وحين عاد إلى بلده مندفعاً إلى التغييربنشاط الشباب ناقماً على الجهل ثائراًعلى واقعه المتخلف المريض، اصطدم بمجتمع قريته المحافظ الذي وجد في هذا القادم إليه من فرنساً خطراً على عاداته وتقاليده وقيمه، أراد مجتمعه أن يحميها من تمرده فأقصاه جانباً، وشدّد عليه الخناق. واتخذ ت نزعة التمرد في شخصية نديم محمد مظهرين بارزين في سلوكه، المظهرالأول استهتاره بعادات مجتمعه واستخفافه بقيمه، تجلى هذا بوضوح في مجونه من خلال علاقته بالمرأة وإدمانه الخمرة والمظهرالثاني تمرده على الاستغلال والظلم والاستبداد.

1ـ استهتاره بعادات مجتمعه واستخفافه بقيمه:

وهنا يبرزدورالمرأة في حياة نديم محمد، فيسأل سائل: كيف نظرنديم محمدإلى المرأة؟ وكيف كانت علاقته بها؟ المرأة هي المكون الهام في مشهده الشعري، وهي عند شاعرنا إمّا صاحبة يتمتع بها، ثم ينصرف إلى غيرها، أوحبيبة يخفق لها قلبه، فيميل إليها، وتحفل قصائده بعلاقاته بالمرأةالصاحبة العابرة أكثرمن المرأة الحبيبة، ويأتي حديثه عنها مترافقاً مع وصفه الطبيعة.انظرالآن إلى وصفه هذا المشهد الصباحي الباكربقريته في قصيدته(عالم يفيق)، فإنه ما كاد قرص الشمس يرتفع من مرقده، ويصعد إلى السماء متسعاً قليلاً قليلاً، ثم تتد فق أمواجُه لتغمرالكون ضياءً ونوراً حتى يغدوالناسُ إلى أعمالهم، وتغدوجارةالشاعرِالصغيرة تسوق خرافَها إلى وادٍ سحيق أمّا المترفون، ومنهم صاحبة الشاعر، فكان لا يوقظها من نومها في غرفته إلا لسعات شمس الضحى، فيقول:

كسلى ! جناحُـكِ أغرقته الشمس بالمـــو ج استفيقي
ضمّي الحريرعلى (غمام الزهر) في سـفح الشروقِ
العــــــــالمُ الفرحـــانُ، يومىء بالمـــــــودة للمفُـــيقِ
والخادم الســــــــــمراء، تنقرُ بابنـا بيــــد شــــفوقِ
جــــاءتْ(بقهوتنا) وكأســــــــينا وبالوجــــه الطليـقِ
وثلاثِ وردات كعــــادتها على طبـــــــــقٍ أنيــــــقِ
وهناك جارتُنا الصغــرةُ،والخرا ف على الطـريــق
شعراتها البرصاء، تسـبح في القميص من الشـقـوق
فرحـانةٌ،وتهم تصعــــدُ في الســــماء مع الرحــــيقِ
وخرافها تنســـــــــابُ جــاريةً إلى الـــواد السـحيقِ

في هذه القصيدة تبدو المرأة، وهي المكون الآخرالهام في مشهده الشعري كسلى، أضناها السهر، وهي تذكرنا بصاحبة امرىء القيس التي كانت لا تستيقظ بثوبها الحريري الرقيق إلاَّ عند الضحى، وحين تفيق كانت تضوع من فراشها روائحُ المسك:
وتضحي، فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى، لم تنتطق عن تفضل

ومعروف أنَّ الشاعرالجاهلي امرأ القيس كان أنفق في الشطرالأول من حياته كثيراً من أموال أبيه الملك في القصف والمجون والشراب، فكان يلاحق النساء، من غيرأن يد فعه إليهن حبُّ مخلص أو شوق صادق أو عاطفة متأججة بقد ر ما كان يدفعُه إليهن طيش الشبا ب الماجن الباحث عن المتعة والجنس. لذلك كان يقتحم المخاطرفي سبيل صاحبته أو حبيبته، فيفاجئها شخصه ليلاًفي مخدعها، أو يزاحمها نهاراً في هودجها ليبلغَ منها مراده، وكان امرؤ القيس يصف في شعره مفاتنَ صاحبته وعلاقتهَ بها وصفاً حسياً يخدش الحياء، ولم يكن(نديم محمد) بحاجة أن يعرّض نفسه إلى مخاطر امريءالقيس حتى يصل إلى صاحبته، فالحياة اختلفت، وكان بوسعه أن يظفر بصاحبته متى شاء، وفي أي مكان بل تبيت في غرفته أيضاً، كلاهما مبذر يبحث عن اللذة والمتعة. وتضيء القصيدة السابقة(عالم يفيق) جانباً مادياً في حياته، ففي منزله تقيم خادمة مهذبة على حظ من الذوق والجمال، تنقرباب غرفته نقراً خفيفاً عند استيقاظهما صباحاً لتقدم لهما فنجاني قهوة وكأسي ماء وثلاث وردات. وشاعرنا نديم محمد نشأ في كنف أسرة إقطاعية، لم يكن المالُ عنده إلاَّ وسيلةً لقضاء الحاجات، فلم يحرص عليه أو يسع إلى جمعه، وإنما كان ينفقه بلا تردد في لهوه ومجونه، وفي مرحلة شبابه ورجولته يفجّرتأثره بحياة الغرب بركان جنسه المكبوت في مجتمعه المحافظ، فينسف معتقدات مجتمعه وآدابه العامة، وينزع عن المرأة ثوب السترِ، ويصفها وصفاً فاضحاً، ويرى المرأة في هذه المرحلة من حياته امتداداً لشخصية الرجل ذائبةً فيها، مخلوقةً لمتعته وإشباع غريزته المتعطشة إلى الجنس، وليست مخلوقاً له كيانٌ مستقل وشخصيةٌ ذاتُ إرادة. من هذا الجانب كان شاعرنا ينظرإلى المرأة، ويعترف في قصيدته(شفتان) أنّه جرب الحياة، وسلَكَ مختلف طرقِها، فقارف الذنوب، وأسرف في المجون وغرق في الموبقا ت:

بالله، جَرَّبتُ الحيـــاةَ، وسرت في كـــــــلِّ الدروبِ
بالله، قارفتُ الذنوبَ، وضِعْتُ في غمــــــر الذنوبِ
باللهِ، ذقت، وما شـــــبعتُ من البعيد، من القريب
وفي استخفافٍ ظاهر بالآداب العامة يعلن نديم محمد أنه داعية للمجون واللهو والشراب، داعياً المرأة إلى الانحراف والتمرد على قيم مجتمعه ومعتقداته، إذالم أقل داعياً إلى الإباحية، وفي قصيدته(في خيمتي) يقول:
في خيمتي ما شئتِ، من طُرَفِ السعادةِ والنعيـــمِ
علّقْتُ في أحنـــائها قمــــراً، ومن كلِّ النجــــــومِ
وملائكاً بشراً وفرد وســــاً يُطِـــلُّ على جحيـــمِ
في خيمتي خبزُ الحيـــــــاةِ وخمرُها بيدي كريــم
للصائمين الجوع
والندمُ الكثير
فلا
تصومي.
وهو يلاحق النساء في كل مكان مغامراً سعياً للظفربصيدته، ويتعقب في قصيدته (خَفَر) فتاة شقراء فاتنة في ظل دالية، فيقول:
في ظلَ داليـة، وفي أرجوحةٍ، فُرِشَتْ بد ِفلى
حوريةٌ شقراءُ في حسن الضحى، وأظن أحلى
تصغي إلى موّال راعيةٍ، بجنب العين كسـلى
أماَ أنا فأشــــــــــدّ مئزرَها إليَّ، وقـــــد تـدلى
وألمّهُا بيدي، إلى صدري، فتغرق فيه خجــلى
يا حسنَه خَفَرُ الأنوثة، ليتــــــه، لا كان، يبـلى
أو ليتَ يومَ الطيبّــات، وقد تـــولىّ ما تــــولىّ
ولم تسلم من حبال غوايته حتى ابنة الاثني عشر عاماً، ففي قصيدته (الورد المجرّح) يقول:
قبَــل ٌعلى شــفتين عهدُهمــــــــا بثديهِما قريبُ
قُلَلٌ صــغا ر، كالنميلات الصغار، لهــــا دبـيب
زرعت بهِنَّ فمي، وما تحت الفم البنتُ اللعوب
عشرٌ وواحدة سنينَ وأشـــــــهر.. عمر عـجيب
فالمرأة عند نديم محمد مخلوقة للمتعة، يلهو بها ليلته، ثم يستبدلها بأخرى، كما تستبدله هي بآخر في الليلة القادمة، يقول في قصيدته(ضيف):
خمــرٌ وقيثار، وليل، لا يريـــد لنــا هجوعـــــا
خضراءُ مائدةُ الشبا ب، تزاحمت ثمـراً ينيعـــا
أنا ضيفُ حُسْنِكِ للصباح، وما أريد له طلوعــا
حسناءُ، ليلتنـــا تذوب، وما أظنُّ لها رجـوعـــا
هي ليلةٌ، أطعمتـها ثمـر الضلوع، فلن تجوعــا
وغداً أُبَدِّل غيــرها، وتبدّ لين غـــداً ضجيعــــا
وعلى هذا النحو يمضي شاعرنا في مجونه ولهوه متحدياً تقاليد مجتمعه وقيمه، ويحسب المرء أن ازدحامَ عالم شاعرنا بالنساء، لم يدع في قلبه مكاناً للحب. والحقيقة غير ذلك، فالازدحام عجز أن يملأ في حياته فراغاً عاطفياً متعطشاً إلى الحب والمودة والدفء.وأيقن أنّ المرأة ليست مخلوقة للمتعة العابرة فحسب، وإ نما خلقت للحب أيضاً. أحبَّ الشاعر، ومَرَّ بعدةِ تجاربَ عاطفيةٍ، باء بعضها بالإخفاق. ويحدثنا في القصيدة الآتية عن تجربة من تجاربه مع إحدى مجبوباته( نجمة):
تحت صفصافة
على سندس
العشب
وفي نجوةٍ
من الواشيات
زحمتني بـ (نجمتين)
من الزنبق
أغفت عليهما
قبلاتي
ويميناً بالحُلمِ
قصّـته عيناها
على يقظتي
وبالرعشا تِ
لم يزل طعُمه
ألذ من اللذة
في خاطري
وفي ذكرياتي
كذبتني
أوهام نفسي
فمازلت
خيالاً عبداً
وراء.. فتاتي
لا يموتُ الهوى
بإغماض جفن
أو تسلٍّ
أو غربةٍ
أو شتا تٍ
إنّه البرد
والحرارةُ
في صدري
وهذا البكاء
في أغنياتي
عالم الأمس
كلّه
(نجمةُ) بكر
أضاءت في أفقها
ظلماتي
هي والحب
في شبا بـي
وفي شيبي
جناحا عيشي
ونورا حياتي
فهما..
كلّ ما أحس
وما أنظرُ
من فتنةٍ
ومن فاتنا ت
شا ب دمعي
من بعدها
وتناسيت وجودي
فما أحس
بذاتي
كيف نا م الزما ن
تحت جفوني؟
كيف يا ربُّ
لم أفق
من سُباتي !!
كيف أصبحتُ ؟
لا فؤادي فؤادي
في هواه..
ولا سماتي
سماتي
كيف أعمى
دربُ الفسوق
رشادي
كيف أهوى به
إلى الهاويات ؟
آلام3 النشيد التاسع والأربعون.
و نرى الشاعر في مكان آخريظل قلبه يخفق للحب والهوى حتى خريف عمره، فيقول:
أنا أهوى
نعم وأهواك
يا ضلة عمري
و.. يا هدى
أشعاري
أنا أهواك
لا جناحي
لواه الشيب
في ملعبٍ
ولا مضمارِ
عيّريني
خريفَ عمري
فلن تمحي
ربيع الجمال
عن آذاري.
(آلام 3) النشيد السابع والأربعون
 
أما الخمرةُ فهي مكوّن آخرلمشهده الشعري إذ قلّ أنْ تقرأ له قصيدة دون أن تجد فيها إشارة إليها وإلى الكأس والغلام كما في قوله:
أين خمري؟
لهيُبها يبعث
الضعَّفَ
جنوناً
من المنى
في جنا حي
في ثنايا
حبابها
البيضِ والحُمرِ
قطوفٌ
من جنةِ الأفراح
أدمن التدخين، لكنه أقلع عنه في مرضه حين تقدم به العمر، وعاقرالخمرة حتى أشفق عليه بعض أصحابه، ونصحوه بالاعتدال فيها، إن لم يستطع الإقلاع عنها، رأفة بصحته، لكنه كان يرد عليهم:
والخمرُ خمري لا أُبَدِّ لُ صِرْفها والكوبُ كـــوبي
يا من يعاتبني أنا وحـــدي المحاسَبُ في ذنــوبي
فامسك لسانك وابتــلع في ا لحلق لعنةَ مستغـيب
 
اختاربإرادته معاقرة الخمرة سبيلاً إلى تغييبه عن الوجود، وقطع كل صلة له بواقعه هرباً من همومه وآلامه متوهماً أنَّ إدمانها يحلّ مشكلته:
يا غلام الشرا بِ
والسكر
حتى لا أبالي
حتى يتم انهزامي
اتركوني
أضيع في السكر
حتى الموت
حتى يصير
خلفي أمامي

وهكذا يتبين لنا مما تقدم أنّ مشهده الشعري يتكون في أغلب قصائد ديوانه (آلام)من وصف الطبيعة والمرأة ومعاقرة الخمرة.

2ـ تمرده على الاستغلال والظلم والاستبداد:

إنّ استغراق نديم محمد في رومانسيته ومجونه وقلقه وهروبه من واقعه لم يصرفه عن التزامه قضايا شعبِه وأمتهِ والدفاع عنها. فقد انحاز إلى طبقة الفلاحين رغم انتمائه إلى أسرة إقطاعية، يملأ الفلاحون أرضَها والخدم بيتها، وأشاد بجهد الفلاح في إحياء الأرض، وعبّرفي شعره عن حبه له وفخره به، ولعلنا مازلنا نذكر قصيدته الشهيرةَ (فلاحُنا) التي كانت مقررة في كتاب القراءة والنصوص لمنهاج المرحلة الإعدادية في سورية، يقول فيها:

في موكب الفجـــر الطليق، يسير حُــرّاً كاليقـين
وأمامه ثورا ن شاخا في العرا ك مع الســـــنين
ويلفّ هيكَــــلَهُ المتيــــنَ، بد فتي ثــوبٍ متيــن
وعبـــاءةٍ بتــراءَ، يِعصبُــــــــــــها بزنارٍ ثخـين
ويغيبُ فيها تبغـــه، والـــزادُ من خبــــز وتيـــن
رضوانَ، حُبُّ الأرضِ سِرُغنائه العذ ب الرنيـن
أرأيت كيف يضمـــها؟ وترقُّ كالأم الحنـــــــون
عجلان، يسبح كالشراع من الشمال إلى اليميــن
والقـبراتُ على الجرا ح الخضر تسرح بالمئيـن
ويعودُ أزهى من جنا ح النَّسْــرِ مرفـوعَ الجبيــن
مِنْ خلفه بنتـــا ه تنســــحبا ن في صمت رزيــن
وضمامةالعشـب النضير، كفاء عجلهما الســمـين
فلاحنا الإنســان أغلى في العيــــون من العيــون

وكسرالحاجزالطبقي بينه وبينهم، فتزوج إحدى خادمات أهله متمرداً على عادات مجتمعه، مما أثارسخطهم عليه، وأكثرمن ذلك وقف مدافعاً عن الفلاح مصوراً ظلم الإقطاعي له كاشفاً بؤسه. كان مؤمناً بالعدالة الاجتماعية، ملتزماً الاشتراكية، وهو، كما يقول من يعرفه عن قرب من جماعة الأستاذ أكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي السوري الذي اندمج في عام 1952مع حزب البعث العربي السوري في حزب واحد، أطلق عليه حزب البعث العربي الاشتراكي. وفي قصيدته (نداء الفأس) صوّرنديم محمد بأسلوب قصصي رشيق كابوس استغلال الآغا المرابي الجاثم على صدر الفلاح الذي حوّ ل حياته جحيماً لا يطاق، فأهل الفلاح مرضى لا يجد ون ثمنَ العلاج وجوعى لا يجدون ما يأكلون، يرقدون في بيت متصدع آيل إلى السقوط، يرشح سقفهُ شتاء، وبابه ونوافذه متشققةٌ تصفرُ فيها رياح البرد القارس، لقد أدرك الشاعرطبيعة الصراع بين الأقوياء والضعفاء وبين الأغنياء والفقراء في مجتمعه وبلده، أدرك أنَّ نعيمَ الأغنياء ورفاههم وعزَّهم مبني على أنقاض جحيم الفقراء وشقائهم وذُلِهّم، ففي قصيدة(صراع ولكن) يقول:

في حيّنا المسكينِ، قَصْرٌ يِكســرُ العينَ ارتفاعا
ألواحُ مَرمَرهِ الزواهِرُ، تخطِفُ البصرَ التماعا
والرا فعـــون عمودَه في الجو يفترشـون قا عـا
وعلى غبار الأرض في ظلماته، رقدوا جيـا عا
وفراخهم فوضى على الأبواب، يزقـون ارتياعا
متزاحمين بأرجل، متشـــــا بكين يـــــــداً وباعا
حمي الهجير، ولا كواسب يرجعــون ولا متاعا

وانحاز أيضاَ إلى جماهيرشعبه وأمته، فقدعاش نديم محمد خلال عمره المديد مراحل سياسية متعاقبة على بلده وأمته منذ فترة الاحتلال الفرنسي لسورية حتى عهد الاستقلال الذي شهد في بدايته انقلابات عسكرية، تلتها اضطرابات سياسية وتهديدات خارجية. رأى في هذه المراحل السياسية المختلفة الكذب والانتهاز والنفاق السمة البارزة في العلاقات الاجتماعية، فانتقد الحكومات المتعاقبة على بلده، ولم يمالئها، ورأى تجارالمبادىء ومزوري الحقائق يسيطرون على واقع مجتمعه وأمته، يقول:(عشت لأرى القبحَ النفسي، وأشهدَ الكره الرخيص، عشت لألمِسَ الكذ بَ في القول والغشَ في المعاملة والسرقة.. عشت لتصدَعَ قلبي وتَطرِفَ عيني مناظرُ الخيانة وتجارة المبادىء وبطولة الجبناء وإباءُ الأذلة وسيادة العبيد.) ويرى أنّ الطريق إلى تحرير فلسطين لا يكون إلاَّ بعدَ تحرير أنفسِنا من زمر الخيانة والاستغلال والاستبداد في الداخل وتحريرالدين من المتاجرين به:

درب العظــائم غيرُ هذا الدرب، للجيـل العـظيم
لـمّوا الضميرَ عن القمامة، وافرشوه على الغيوم
كبّــــوا خيا نا ت الملــوك إلى قرارات ا لجحــيم
دوسـوا على الدولار شاري النذل وا لجاني الأثيم
حُلوا عقــال الدين من غرض المتا جر واللئيــــم

ويتفجرالشاعرغيظاً وحزناً لما ألم بأمته، فهو يرى أنّ الاستعمارنهب خيراتنا، واحتل بلادنا، وأنه يتغلغل في مرافق حياتنا، يعيش في عقول أتباعه وقلوبهم داخل الوطن العربي، ويرى أنَّ تحريرالأرض العربية منه لا يتحقق بالتباهي بأمجاد أجدادنا ولا بالشعارات البراقة ولا بالخطب الحماسية المدوية في المناسبا ت ولا بالمزايدات التي ملأت حيا تنا، فلا تصدقـوها، وإنما ينتزع بالقوة انتزاعاً. لأنّ النصرفي النهاية للأقوى الذي يفعل مايشاء:

أصغي، نعم ! وأرى، وأشــــــعر، أنني أتفجّرُ
صوتٌ يَرنُّ، وأذرع سَـــكرى، تطولُ وتقصُرُ
شَرفَان.. أزهى ما يروح به الشــبابُ، وأنضَرُ
والأعجـــــــــــــمّيُ اللّصُ في أثوابنـــــا يتــنكرُ
ظمــآ ن يشــــــرَبُنا، وتجــري في يديه أنـــــهُرُ
وعلى الثنا يا الخُضْرِ من حطينَ وحشٌ يهــــد ُرُ
ومن اللـــــــواء يهِبُّ وحشٌ آخــــــرُ، ويزمجــرُ
وابنُ (الجدود الأكرمينَ) على المنــــــابر يــزأر
لا تعِصــــــروا آمالكم من زهــوه، لا تعِصروا
بسلاحكم والعـــــزم، يطوي ذ يلـه المســـــتعمرُ
لا تُنــكروا، بالعســــكر المعدودِ، يُهــزَمُ عسكرُ
النّــصرُ لا يُعطى، ويفعل ما يريــــــدُ الأقـــــدرَ
وفي قصيدته(العيش حق) يحرّض نديم محمد جماهيرَ الشعب المخنوقَ صوتها الممصوصَ دمها المغيّبة عن دورها في ساحة الفعل والتاثيرأن تنتفض بوجه طغاتها ومستغليها لتنال حريتها، وتعيش حياةَ حرة آمنة، وترسمَ طريق مستقبلها بنفسها:
يا شعبُ، ماءَك والطعامَ، ولا تمُتْ ظمأً وجوعـا
نيرون أطلق نا رَه الحمــــــراءَ تلتهمُ الربوعـــــا
وتلوّث الغــــــدرا نَ أظفــرُها، وتـنتزع الربيعــا
والراكبـــــــون على سفينك، مزقــوك لها قلوعــا
فجَرَت مســـخّرةً إلى أهدافـــهم، جــــرياً سريعــا
يا شــعـبُ، حقك أن تعيش، وما لحقك أن يضيـعا
فا بسـط جناحك للرياح، ولا تكن نســراً وضيعا
 
وانتهى تمرد الشاعرعلى واقعه الاجتماعي والسياسي الذي عبرعنه بالمجون تارة وبمناهضته الاستغلال والاستبداد تارة أخرى إلى اعتزاله المجتمع واغترابه عنه، وأخذت نفسه المعذبة تغرق في لجة القلق والإحباط حتى صارت حياته موتاً وموته حياة:
 
أنا أمضي
كالتيه
في قلب صحراءَ
وأجواء غربةٍ
حالكا تِ
غيرَّ البؤسُ
فطرةَ الحسِّ
في خُلقي
فموتي عيشي
وعيشي مماتي
 
وبعد تجاوزه الأربعين استأجرمنزلاً في طرطوس، عاش فيه وحيداً منعزلاً عن الناس إلاَّ من خاصته الذ ين يترددون إليه، وتردت أحواله المادية، فذاق مرارةَ الفقربعد نعيم الغنى:
ذبحَ الفقرُ
أحرفي
وجلا غيمي
وشبَّ الحريقُ
في أندائي
صورةُ البؤس
جمرةٌ بين
جفني
ونصلٌ يعُضُّ
في أحشائي
وذراعي
يشِلُّها الداء
والضّعفُ
وكفي تفلها
كبريائي

وأرغمه الفقرمكرهاً على قبول مساعدةِ بعض أصحابه له سراً، لكنه ظل رغم ذلك محافظاً على تماسكه. كا ن بوسعه أن يطرقَ الأبوا بَ التي يهرول إليها الآخرون، فيتكسّـب بشعره، أويذعن لخصومه، ويتملق حكامه، ويعزف على أوتارهم، ولوفعل ذلك لكان صعد بين عشيةٍ وضحاها إلى منصبٍ رفيع وعيش رغيد، فتقبل عليه الحياةُ بحلاوتها، وينجلي عنه شبح الحرمان، وتتسلط عليه أضواءُ الشهرةِ، وينتشر شعره، فتحفلُ به الكتب والصحف والمجلات، وتكـتب عنه الأقلام، كان مطلوباً منه أن يظهر على غير حقيقته حتى تنفتِحَ له أبوابُ الشهرةِ والمال، ضايقه من تمردعليهم، بأشكال متعددة منهاأنّ نفراً ممن لم يعجبهم صموده، وصلابة موقفه من الفساد والانحراف سطوا في عام 1963على قصائده، عصارة فكره التي وضعها في حقيبة، وأتلفوها، ولم ينالوا من عزيمته شيئاً، وحاولوا شراءه، ففرشوا درَبه بالحرير، وأغروه بما لذ وطاب، لكنَّ نديم محمد ليس من هذا الصنف من الشعراء. ليس من شعراءالبلاط. إنّ الشعر عنده رسالة ومبدأ، وليس تجارة وانتهازاً:

فرشوا بالحرير
دربي
فلم ألبس
وتُكسى بُعريها
نعمائي
أثقلوا بالجنى
يديَّ
فلم يُطِعمْ شقائي
وعاش فقري
ودائي
لست فكراً
عبداً
ولا شعرَ إحسانٍ
فتشدو به قيانُ السخاء.

( وشيئاً.. شيئاً.. وقع في الكبت)، فتفاقم عليه، واصطلى بجحيمه المستعر،

ثم عادإليه مرض التدرن الرئوي الذي كان ألم به في مرحلة شبابه عام تسعة وثلاثين وتسعمائة وألف، وعولج في مصح(بحنس) بجبل لبنان، ثم أدخل أواخرحياته مشفى (المواساة) بدمشق إلى أن رحل عن الدنيا في السابع عشرمن كانون الثاني عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف عن سبعة وثمانين عاماً، ودفن في(جبلة).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى