الاثنين ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم هاني محمود

عجين الفلاحة

أظنه لم يقدر أنني سألقاه ثائرا، فقد ابتعد عن القفص الحديدي مأخوذا تلاحقه صرخاتي الفائرة ونظراتي الحارقة وفى خطوتين اجتاز فضاء سجننا الأكبر حيث استقر سرير متداع، وعاد على وجهه ابتسامة صفراء، وفى يده بعض أصابع الموز، واقترب فلم تتوقف صرخاتي، وأظهرت نفورا وأنا أضغط جسمي فى القضبان كي يلقى أصابع الموز فيما تبقى من فراغ سجني الصغير، واحتميت بظلام الغرفة لتناول بعض الطعام

وفى الليلة التالية أتى يحمل كائنا ألقاه جوار السرير وأسرع بحبل سميك أحكم طرفه الأول حول ساقي الكائن والآخر حول إحدى قوائم السرير. كان يحاول تبديد آخر محاولات الكائن للمقاومة. وتحقق له ما أراد. فقد أخذ صوت الكائن يخفت رويدا رويدا حتى اختفى. وسكنت حركاته، كأنه استسلم لنوم عميق

وكنت قد أدركت أن صراخي من خلف القضبان لن يجدي رفيقي فى الأسر شيئا فركنت إلى الصمت وانتظرت أصابع الموز. وتسللت خيوط الفجر من نافذة الغرفة فأكدت لي هوية الأسير، إنه – كما قدَّرت – واحدة من الماعز. وللحق فقد كان جلادنا بالنزيلة الجديدة رحيما. فقرب إليها الماء وتودد إليها بحزمتين من البرسيم الأخضر الطازج، ولكن ما أقبل الليل حتى أصابه المس، فأخذ يتكلم إلى الماعزة فى ود ويطلب منها أن ترقص له رقصة الغزية، ويبدو أن صاحبتنا لم تفهم، أو أنها لم تكن تجيد الرقص، أو أنها لم ترد أن تؤدى من أدوار الحياة سوى دورها كماعزة. فامتنعَت وأعرضت ومأمأت. وأحسبها - مثلي - تبسمت حين راح يتمايل ويتراقص مؤديا دور الغزية، مسرفا فى التودد إليها كي تفعل مثله

وما أدرى إلا والمخبول يستل سوطا وينهال به على جسد المسكينة فى ضربات خاطفة أسقطتها جوار السرير كتلة من اللحم تئن. وجن جنوني حين راح السوط يرتفع ويهوى فوق الجسد المسجى المستسلم لطوفان الغضب، ولو استسلمت لأناملي قضبان القفص الحديدي وتداعت لكان له معي شأن لكنها تصلبت.. وضاعت صرخاتي فى فضاء الغرفة

وابتلع السرير جسده المبلل بالعرق. وارتفع شخيره يبدد بقايا الأنين المكتوم

وإن كنت لا أعجب لقوته فإنني أعجب لتلك العزيمة الجبارة التى امتلكتها الماعزة، وهى تقاوم إصراره الغريب على إفنائها بسوطه الرهيب

ومنذ تلك الليلة لم تسلم المسكينة من السوط اللعين، إذ يبدو أنه قد عقد العزم على إفنائها إن لم تستجب لرغباته المجنونة فتارة يصيح فى غضب: اعجني كالفلاحة. وتارة تستهويه رقصة الغزية، وهو لا يكل ولا يمل.. ومواهبه فى الرقص تتحسن. ويحاكى أمامها رقصات الغوازي صائحا بصوته المبحوح: انظري هذه رقصة فلانة، وهذه رقصة فلانة

فإذا سأم الرقص انتقل إلى العجين فأحضر وعاء فارغا وأخذ يعجن الهواء، ويضرب بيديه السراب، ويصيح فى نشوة: أليس الأمر سهلا؟! ويقرب إليها الوعاء: اعجني اعجني أنت فلاحة عظيمة، ويضع البرسيم فى الوعاء ويأمرها بالعجن لكنها تأكل ولا تعجن. وعرق الجنون ينبض.. والأسواط تفرقع والجسد الضعيف يتلوى والصرخات المدوية تتحول إلى حشرجة مكتومة. وصوتي يمزق الفراغ

والسجن الصغير يوشك أن يتداعى تحت وطأة قفزاتي والكون يتلاشى إلا من ثلاثتنا فى الغرفة الكائنة فوق السطح معلقة بين السماء والأرض. ولو أبصرت عيناه عينيَّ وهو يقرب أصابع الموز فى إهمال لرأى فجوتين ملئتا بالدم، لكنه لا ينظر، منذ أحضر الماعزة، وهو لا ينظر، يتجاهل سجني الكائن فوق المنضدة العتيقة. لا يقربه إلا حين يلقى أصابع الموز ويدعم المنضدة بقطع الخشب السميكة. ويزداد أساس السجن صلابة، وتزداد شراسة القضبان فى المقاومة وجسدي يئن كلما ارتطم بأسياخ الحديد، وقلبي يهفو إلى الفراغ ويستهوى العدم، وأكره الليل المحمل بنزوات بنى أدم المخبول، وفرقعات سوطه الناري، والماعزة تبدى فنونا من الصمود. وفى الصباح أسمع مأمأتها الحزينة فيعاودني الحنين إلى ارتكاب جريمة قتل

ويشق السوط فراغ الغرفة. وأسمعه يقسم أنه سيذبحها إن لم تفعل ما يريد، فأصرخ فيه: دعها وخذني.. أنا المقبور داخل سجني أستطيع أن أعيد إلى تلك التى توشك أن تفنى دفقة الحياة. خذني ودعها. فليست كل الأجساد تملك موهبة الرقص. وليست كل الأيدي تستطيع العجن.

ويسيل دمها الطاهر فوق بلاط الغرفة العاري، فتختنق العبرة فى عيني ويتوه الكلام فى جوفي: خذني وأقسم أنى سأفعلها

سأفعلها من أجل تلك التى صمدت ثلاثين يوما

أقسم أنى سأفوق فى الرقص جميع الغوازي، وأمهر فى كل فنون العجن. لا من أجلك بل تلك المذبوحة

وأقسم بحق دمها المسفوح أنني يوما سأنتقم

من المجموعة القصصية (مقام سيدى الهزَّاز)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى