الاثنين ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم محمد صلاح العزب

مفتاح واحد فقط

لبيتنا بوابة حديدية كبيرة سوداء ، معلق بها من أعلى جنزير صدئ غليظ ، في طرفه قفل نحاسي ضخم جداً .

أبي يقول أنه يكره هذا القفل لأنه لا يمكن كسره .
" هل يريد ابى ذلك حقا ؟ ".
لو وضع جدي يده على كتفك بحنان ، مكلما إياك بصوت ودود لضربتك الزلازل من داخلك .

كلنا نخافه فربما يزعق في مرة فينهار البيت على رءوسنا .
البيت يتكون من طابقين ، في الأرضي يسكن جدي بمفرده ، في العلوي نقطن نحن .

أبى يضرب من لا يمشى على الأرض هونا ، فربما ضايقت الخطوات الثقيلة الجد النائم ولا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث عندها .

مفتاح واحد فقط لبوابة البيت يعلقه جدي بحبل رفيع في رقبته .
تلح أمي دائما على أبى في أن يطلب من نسخة من المفتاح ، ولا تكف إلا عندما يقول لها :
" لو جرؤت اطلبيه أنت " .

في المرات القليلة التي سرت فيها معه يقبض جدي على يدي المرتعشة بقوة كلما مررنا على قوم يده ، أجدهم ينتفضون مهرولين لتحيته ، أنكمش داخل نفسي .

مباشرة بعد صلاة العشاء ينام وقد أغلق البوابة .
يفاخر بان لصا لم يقرب البيت أبدا حتى قبل تركيب البوابة .
" حتى اللصوص يخافونه ؟ " .

كأنما يقرأ رأسي يردف مضيقا إحدى عينيه ، ضاغطا على الحروف . أنه برغم ذلك فالبوابة تعنى الكثير من الأشياء التي لم يذكر أيا منها , ولم أجرؤ – بالطبع – على سؤاله عنها .

قبل الجميع يستيقظ ، فأنت تصحو في أي وقت وتنزل لتجده قد فتح البوابة
حكايات رهيبة يرويها أبى عنه , أمام المرآة أتساءل عن سر الشعيرات البيضاء في رأسي .
كم تمنيت لو أستطيع التأخر بالخارج كبقية أصدقائي .. أبى لا يمانع لكنها البوابة .

مهرولا يأتي أبى من المسجد بعد العشاء حتى يلحق بجدي قبل أن ينام، و إلا اضطر للبقاء في الشارع حتى الصباح كما يردد دائما .
باختناق تبكى أمي ، تجاوزنا منتصف الليل ، أبى يدعى النوم ، أيقظته حينما وضع ظهر يده على جبهة أخي الأصغر المشتعلة كاد يبكى .
في توتر لحظناه جميعا يذرع الشقة من أولها لآخرها ، أخى الأوسط مع أمي يتوسلان له ، كأنما يحاول زحزحة جبل يصرخ :

" لا أقدر .. لا أستطيع ايقاظه .. لا أستطيع " .
كمن أخذ قرارا أو عثر على شيء وقف فجأة :
" بالضبط .. ندلى السلم الخشبي من الخارج وننزل عليه " .
وأسرع بإحضار السلم الذي لم يصل إلى نصف المسافة .
أكثر من مرض أخى .. من بكاء أمي آلمنى موقف أبى .
في حزم قلت لهم :
" سأنزل واطلب منه المفتاح "
خرجت من باب شقتنا .. الجو بارد .. مظلم .. يحمل رائحة الرهبة .. نزلت درجتين :
" هل أعود ؟ .. سأنتظر حتى الصباح .. لن يحدث شيء لو انتظرنا "
يلسعني وجه أخي المشتعل ، أنفض رأسي بقوة ، لم أشعر إلا وقد نزلت الدرج كله .
باب شقة جدي مغلق ، أمامه وقفت طويلا ، من خلال بئر السلم أراهم ينظرون في صمت ، أمي باكية لا تزال ، أطرافي باردة :

" كيف سأواجه ؟ .. ماذا لو .. ؟ .. لا أستطيع .. سأرجع " .
دمعة من عين أمي سقطت داخل عيني المتطلعة لأعلى .
مددت يدي .. بخوف أطرق الباب ، لا رد ، أطرق بتردد ، الباب كما هو ، بقوة اطرق . بحسم اطرق .. بقوة أطرق .. بتمرد اطرق .
نسيت مرض أخي .. بكاء أمي .. البوابة .. جدي ، فقط أطرق فأشعر أنني أكبر .. أتمدد عملاقا .. ماردا .

أحالت طرقاتي الليل الساكن نهارا .
من أعلى بدأوا يشجعونني .. نزلوا عدة درجات .. درجات أخر .. كلهم إلى جواري .. كلنا نطرق .. جدي لا يفتح .. لا يفتح .

مشيت نحو البوابة ، الجنزير معلق في جانب واحد منها .
" هل انكمش هذا القفل " .
قالها أبي .

مددت يدي نحو البوابة ، أجذبها ، مطيعة .. صاغرة .. مسرعة انفتحت .
تعجبنا .. ذهلنا .. مشدوهين تبادلنا النظرات .
في ريبة تساءل أخي :
" هل نسيها جدي ؟ .. أم كانت مفتوحة دوما ؟ " .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى