الاثنين ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم زكية خيرهم

وردة غير كل الورود

التقت عيناها بعينيه وهو في الطرف الآخر من الشارع، فحوّلت بصرها بسرعة وواصلت حديثها مع صديقتها التي كانت تناقشها موضوعا ساخنا جعلت يداها تتطاير مع الهواء وكلماتها على عجل تتلاحق ببعضها بقسوة تارة وانتقاد وتأفف تارة أخرى. على حلم على أمل تعيشه ككل مغترب. مازال القلق مرتبكا بين غيوم ومجهول، وبينما تقطعان الشارع تلتقي عيناها بعينيه مرة أخرى، ومن غير شعور تبتسم له وتحييه بحركة برأسها، ويرد هو السلام بالتلويح بيده ووجهه يخفي ابتسامته التي حاولت جاهدة أن تظهر على محياه دون جدوى. أما صديقتها فتستمر في صخب ثرثرتها عن الوجود بقساوته ونشوته وحنينه، برغباته وأحلامه باضطراباته وتناقضاته. أحيانا تتعثر بين كلماتها وأحيانا تتيه في هلوسة المجهول. لم تعد تصغي إلى حوار صديقتها، فالصخب الذي بداخلها حملها من غير أن تدري إلى ذلك الزمان والمكان تبحث فيه عن أشلاء ذلك الفراق اللاهث وعن سنوات أثملتها ثقوب من الصمت وانحراف الكلمات الملطخة بالتلافيف الغامضة و شذوذ القيل وبهتان القول.عن تفرقة وحروب باردة وأحقاد تتسكع في الشوارع كزوبعة صاخبة تغالب عتمتها الهروب من الوحدة وأشباح الليل وحين تتعب تدخل البيوت وترمي البهتان عن الغائبين، لترجع مرة أخرى إلى تلك الشوارع بحثا عن مكان آخر لتحط فيه سمها من الرياء على الأحباء. تنوح أحيانا كطفل وأحيانا أخرى تعوي كوحش. شخصية غريبة، يلونها سواد الهواجس واحمرار الرغبات وارتباك الانكسارات المتعددة بعدد كذبها وتكبرها وقذفها للناس في كل خطوة تمشيها عابرة، فتزداد المسافات بينها وبين من نهشت لحمهم من غير أن تدري فترتمي بعدها لحزن سببته لنفسها وترشف حسرتها خلسة عن أعين الأنظار. ثم تستمر في تقربها بالوهن لتصبح قابلة للكسر وتتحول الملامح إلى أخرى غريبة مخيفة غدارة..

وصلت عبير وصديقتها نور أمام باب " البازار". ودّعت صديقتها ( نور) وواصلت طريقها تمشي بين شوارع المدينة مع قلبها المحطم الذي ينبض ألما وخطواتها تلاحقها في وهن وسط زحمة المدينة ترشف حزن صمتها وتقذف بها اضطراما على جرح مفتعل يئن ألما وهي تحمله عبر تلك السنين بين علامات التعجب. تهادن استفهامها لحلم جميل ينتهي مهزلة على متن قطار وذنب كسم يعادي كل المسألة وطوال تلك الرحلة تبحث في جرحها عن مفردات تلملم ما بعثرته حماقاتها التي لا تتوقف. شتان ما بين الكلام وبين أقوال تسدلها وقاحة مفتعلة وتدوس على أجمل الأحلام..

تحمل جرحها وتبتعد عنها لتجلس في مقعد آخر في ذلك القطار وكل الذي انتابها بعض الكآبة وهي تنظر إليها بالتحديد في اندهاش غير مصدقة. أمعقول أنت وردة؟ أمعقول ما أرى؟ أصحيح ما أسمع؟ هل أنا في وهم أو حلم أو كابوس في النهار؟ أما وردة فكانت تترنح على ابتسامة في جلستها عن صورة لها في خيالها فقط، اعتقدت أنها عكستها ولو على حساب غيرها، لمجد في أناقة ولباقة لرقيّ روح دثرها الارتباك وعدم الثقة، لنفس معذبة إلى أن أصابتها لعنة المسخ.

ما زال الشارع ينبض بالحركة والأرصفة تتزاحمها الخطى من كل الجهات تحت نمنمات الشمس الدافئة، أما عبير فكانت ترتعش في صقيع تلك الأحداث التي استرجعتها ذاكرتها حين ابتسمت له على متن القدر الذي جمعهما وسط الشارع صدفة، مما أحيا ذلك الماضي الذي يبعث في النفس حسّ الألم من الماضي والحاضر الذي حاولت أن تمحيه من الذاكرة وتشفي القلب من ناره.

على امتداد الزمن ما زالت خطواتها تقودها على غير هدى إلى أن ابصرت محطة القافلة. هناك جلست على المقعد ميممة وجهها إلى الشمس كي تستمد منها شيئا من الدفء لتنعش روحها التي أوشكت أن تتجمد صقيعا. ضجيج المارة يقبع فجأة في صمت مع صمتها في وضح ذلك الصباح المشرق وعيناها التائهتان تنسحب بهدوء من تفاصيل المكان كافرة بكل ألوان الورود. يأتيها صوت يهمس في أذنها: " راسلتك لكنك لم تستحسني كلامي". تلتفت في اندهاش لصوت ليس بغريب عنها، تقف على عجل كمن يريد الهروب بآلامه، تتلقفها ذراعه التي ضمتها في صمت..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى