الأربعاء ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم أكرم سلمان حسن

الأجنحة

الأجنحة
بقلم: أكرم سلمان حسن(أكرم منصورة)

عجنت جسده الصغير بأنامل خبيرة، شحذتها السنون والتجارب، فخسر قلبه لونه الأخضر!!
وتمزق ألماً و.. نشوة من اكتشافات لم يكن بمقدور رأسه الصغير أن يتخيلها.
ثم كان السؤال ، من منهما الضحية ؟ ومن الجلاد؟!

أكد الجميع بحسم:

ـ هما مارقان، فلترجم العاهرة حتى الموت، وليجلد الفاجر الصغير ثمانين جلدة.

وحده العجوز من رأى الأمور بطريقة مختلفة.. حينما قام بوضع تصوره للأسباب المتراكمة التي أدت وبشكل حتمي للمأساة:

هي.. امرأة جميلة، خمرة معتقة، كانت ضحية وحش اغتراب جائر، حبيسة قبو رطب ومظلم، بلا نهاية قريبة محتملة.. يقتل روحها الإحساس بخريفية الزمن.. وتتالي سقوط أوراقها بتوالي الأشهر والسنين. لا سنونوة تطرق الباب، لا سحابة تمطر فوق تربتها السمراء الجافة ، التي تنادي ولو حتى قطرة تقتل عطشاً مقيماً.. فكان ما كان!!

هو.. يقترب من سن البلوغ، برعم صغير أخضر.. يكاد ينفجر انتظاراً للتفتح، ونهر خيال جامح، تغذيه أنهار عدة، بلا سدود أو معوقات، لا معالم طريق واضحة، ولا إشارات تحذر من تذوق الفاكهة المحرمة.

يغريه لون التفاح الأحمر بالقضم.. وأسنانه ما زالت لبنية.. يشعر بحكة في لثته.. تدعوه للضغط على ما هو متاح له.. كي يسكن ألم أسنانه!!

طار الخبر مرفرفا، يغادر لساناً ليحط على آخر، حكايا من ألف ليلة وليلة حُكيت.. وقصص ما حدثت قط.. حُبكت ، ونُسِجَ ثوب الفضيحة فضفاضاً.. يتسع لكل العائلة.

هي.. حزمت حقائبها وغادرت قبل حضور الغائب، علم الجميع ما حملت في حقيبتها، لكن أحداً قط ، لم يعلم.. ولم يهتم أن يعلم بما حملته في قلبها !!

بقي البرعم.. الذي كان أخضر!!بقي وحده، مع إحساسه بالعجز، يرتعش خوفاً وانتظاراً، لا يعرف ما أعدوا له، كاد الخوف يفتك به!!

أسرج حصان الذاكرة وارتحل على متنه إلى الماضي القريب، بضعة أشهر، حينما تكشفت له لأول مرة.. مجاهل غابة كثيفة الأغصان لدرجة كانت تمنع الرؤية تماماً، كان ذلك ذات صباح، بعد أن نال نصيبه من الضرب والإهانات، لأنه مازال يبول في الفراش. جاءته تخفف عنه ، قبلته على شعر رأسه ثم جبينه، ثم بدأت القبلات تسخن في رحلتها منحدرة إلى أسفل استقرت قليلاً على وجنتيه قبل أن تميل بطريقها إلى منتصف الوجه، ليتلقى البرعم أول قبلة محرقة على شفتيه، وسقطا متعانقين، شعر البرعم كأنه يسقط على غيمة تسبح في الفضاء وليس على ملاءة بيضاء!

همست له:

ـ هل صار بمقدورك أن تنتج.. الرحيق؟!!

في حيرة تمتم متسائلاً:

ـ لم أفهم، مالذي تعنينه؟ كيف!!

أعادت السؤال بشكل مختلف، لكنه شيئاً من كلامها ما فهم، بل زاده التوضيح جهالة، هل الحديث عن بقرة الجيران أم عنه!!!! حار بما يجيبها، وفي اللحظة التي هم بها بالاعتراف بالعجز التام عن فهم مرادها.. فاجأه شلال متدفق من السحر.. لم يك يتصور قبله.. أن هنالك في الدنيا.. ما هو أشهى من طعم قطع الحلوى المقطعة والمصفوفة، التي يركض لقطفها عن طبق البائع كل صباح. أو أن هناك ماهو أمتع من اللعب بصف جنود من البلاستيك يعتمرون قبعات الكاوبوي، وحولهم مقاتلون من الهنود الأباتشي، يشهرون الأقواس المعمرة بالسهام والخيول تتقافز، والرصاص يلعلع. لكنه ذاك الصباح اكتشف كم كان مخطئاً.

فالمياه الساقطة بقوة وعنف، أدخلته عالماً جديداً.. خيالياً. أحس أنه السندباد محمولاً على جناح طائر الرخ الخرافي، سُحِر بما عاشه، وبعينين غائمتين وأنفاس متلاحقة سارع للإجابة بعد أن أدرك بحدسه أن هذا بالضبط.. المقصود بسؤالها:

ـ نعم نعم، قد أنتجت الرحيق!!

ضحكت بسخرية و دفعته عنها برفق، نهضت وغادرت الغرفة !!

توقف حصان الذاكرة عن العمل عندما علم بوصول الغائب!! عاد إلى الواقع بكل هوله ورعبه، هرع إلى الفراش، اندس فيه ورفع الشرشف.. الذي كان أبيض!!! حتى غطى وجهه وانتظر مصيره، والشرشف يعلو ويهبط فوق وجهه كشراع قارب صغير.

انبلج الصباح.. والبرعم لم يذق طعم النوم، ومضى النهار لكن شيئاً سيئاً لم يحدث، لا صفعة ولا كلمة توبيخ!! بل.. وفوجئ بكلمات وصلته عن لسان من.. كان غائباً، تحمل له اعتذاراً عن التشويه الذي لحق بأحاسيسه ومشاعره، والقلق من تداعيات نفسية خطيرة واضطرابات في الشخصية قد يعاني منها مستقبلاً !!

هدأ روعه وسكنت نفسه، غادره الرعب الذي سكنه لأسابيع وشل جسده وعقله. لكن هذا تبدل بمرور الوقت، نظرات الريبة والشك واللوم، بدت له مقيمة لا تبارح عيون من حوله، تمنى حينها لو أنه نال الركل واللطم بدلاً مما يقاسي من إحساس بالصغر والمهانة والندم!

بلحظة قرر الهروب مما يراه في أعينهم والخلاص من عذابه.. فتح زجاجة المهدئات المركونة على الرف، قام بإحصاء الحبوب الباقية فيها، أية مصادفة هذه 13 حبة بقيت في الزجاجة، وكأن القدر رسم أن يكون لكل عام من عمره حبته الخاصة. وبلا تردد ابتلع محتوى الزجاجة دفعة واحدة. بعد قليل زاغ بصره وثقلت أهدابه. لاحظت الأم حال صغيرها.. بلهفة وجزع استجوبته.. باكياً.. مستغفراً أقر بما فعل.. وسقط في حضنها.

قال الطبيب بعد أن أنهى غسل معدته.

ـ الحمد لله.. لو تأخرتم خمس دقائق لا أكثر لكنت وقفت عاجزاً!!

رغم خطورة ما حدث.. أحس البرعم يومها بالرضا بعد أن لاحظ اهتماماً افتقده، وحظي بحضن دافئ، كان قد لفظه فترة من الزمن. نال غفران والدته، وتوقف حتى عن البول في الفراش!! لكنه رغم ذلك، لم يستطع أن يغفر لنفسه.

توجه بعد ظهيرة أحد الأيام إلى شاطئ البحر القريب. جلس مطولاً، بكى بحرقة.. تساقطت دموعه لتزيد مياه البحر ملوحة.

منذ ذاك اليوم لم يره أحد. واختلفت الروايات فيما حصل فقال صياد كان قريباً من المكان:

ـ ما حصل لا يصّدق، عندما حضرت تلك السمكة الكبيرة، كانت سوداء بلون الليل، تحمل في منتصف رأسها قرناً أحمر، وعيناها تقدحان شرراً!! حملت الصبي وغارت به إلى الأعماق.

فيما خالفه صياد آخر قائلاً:

غريب!! في الحقيقة.. ليس هذا ما رأيت بالضبط، نعم رأيت تلك السمكة الضخمة.. لكنها كانت بيضاء بلون زبد الموج، وقد لاحظت بوضوح أن لها جناحين، وبعد أن قفزت السمكة وابتلعت دموعه، تحولت إلى ما يشبه مصباح "نيون" عملاق، عندها.. حملت الصبي وطارت به لكن إلى الأعلى!!

مرت سنون قبل أن يحلف أحد شبان البلدة أنه شاهد البرعم في ميناء دولة أجنبية، يعمل حمالاً على سفينة شحن يونانية.
قال العجوز عندما سمع الخبر.. أنا أصدق هذا.. فالبرعم تعود حمل الأثقال مبكراً!!!!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى