الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

البائع الصغير

يوميا تراه في محطة الحافلات حاملا في يديه الطريتين مختلف الجرائد، والصحف، عيناه عميقتا السواد في سواد الزيتون الطازج، وشعره فاحم أملس تخاله الحرير الناعم، ينط كالغزال الشارد من مكان إلى مكان ساعيا في جهد جهيد وراء لقمة العيش في الزمن الأغبر الصعب، وبشفتين حانيتين مسكونتين بالأنين والوجع يردد بصوت عال مسموع: الخبر، النهار، الشروق.

مؤلم جدا أن تلتف عيناك حول بائع صغير كهذا ينفق أعز أوقاته وأشهاها في الذهاب والإياب، لقد ألقيت على عاتقه جسامة المسؤولية وهو لم يزل غصنا طريا لم يتماسك بعد.

عاش منذ نعومة أظفاره محروما، معذبا حيث تصدت له زوجة أبيه كالطود الشامخ، ووقفت حاجزا منيعا بينه وبين طموحاته المستقبلية، وصممت تصميما لا رجعة فيه على أن يلج عالم الشغل دون أن يؤنبها ضميرها الإنساني شر تأنيب.

قذفت في سماء وجهه كلاما متعجرفا يتلطخ بسحب الغيظ، والأنانية، والحقد: لا أوبة إلى حضن المدرسة بعد اليوم، كن متيقنا أنك ستكون مسؤولا على إعالتنا، أنا ووالدك.

الوالد المسكين تعرض لحادث رهيب أفقده نعمة الإحساس بالحركة، وصار يوميا يلازم كرسيا متحركا ذي عجلات.
تكشر عن أسنانها الهشة المتآكلة سائلة إياه في تبرم:كم جنيت من الأرباح أيها الشقي الأحمق؟
تصعقه رعشات مباغتة من الخوف الجارف كأنها صعقات كهربائية مسمومة، قاتلة، ويتقزم إلى أن يصير فقاعات تتبخر في الهواء، صفرا معدما لا قيمة له، ولا معنى.

يمنحها المبلغ كله وهو غير راض في قرارة نفسه، ولا عن تصرفاتها الجائرة التي تشعره على الدوام بالضعف، والجبن، والهزيمة.

خيبة آماله المحبطة توجعه كالأشواك المدببة في صميمه، وتدميه، يتوغل في مناجاة خفية تطفح بالدهشة، والإستغراب، يالها من امرأة شمطاء، قاسية، حقودة لا تملك بين جنباتها البور ولو ذرة من حنان، ولا شعاعا متوهجا من دفء.

استخفافها بي تعدى الحدود، وفاق تصورات الخيال، فهي تهدف وباستمرار إلى إذلالي، وإهانتي، وإيلامي، وتعذيبي.

والدي العزيز عاجز تمام العجز عن تقديم يد العون لي، وإنقاذي من حمأة هذه المعاناة التي انغمست فيها حتى القاع.

انهالت عليه ضربا ذات يوم دون أن يخالجها شعور بالشفقة، تدخل الوالد ليفك عنه ذلك الحصار المر، صرخت بملء فيها: إخرس أيها المشلول، دعني أربيه ليصير رجلا.

استعطفها بتأثر شديد: أرجوك، أتركيه، إنه لا يزال صغيرا، طريا كالنسمة.
ــ أنت تدللُه، ودلالك هذا قد أفسده.

تعود البائع الصغير على حمل الجرائد والصحف، وبشفتين حانيتين مسكونتين بالأنين والوجع يردد بصوت عال مسموع: الخبر، النهار، الشروق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى