الاثنين ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم سحر حسن أبو ليل

الإنسان

تشاجرت شياطين الهموم بعد تزاحمها بقوة على جنات خارطة وجهه وتهافتت لتحتار اين ستترك بصمات لتجاعيد المعاناة في ملامحه التي بدت رغم شبابه كأنها ارض خصبة قد اقفرت ونزفت احداق اشجارها مراراً حتى يبست دون أن يلتفت اليها احد، فتحولت إلى رماد فوق ذرات ترابها المخنوق في دنيا كئيبة قد ضاقت عليه!!

كان يتحدث عبر الشاشة الفضية بعيونٍ ساجدة تحت سماء الشرود والخضوع لاله الالم، وقد ضلت الدموع في عينيه حتى قررت المكوث رغماً عنه في جفنيه المتعبين، فلعلها لن تتوه في الطريق أوتفجر أحد الالغأم المزروعة في قلب ميادين بكائه الصامت يومياً..

ولست ادري أن كان قد اختار ذلك بمحض ارادته لتقيده بوقت البرنامج الذي لم يخصص المخرج فيه وقتاً للبكاء، أم أن كبرياءه منعه من نثر عقد اوجاعه الخفية امأم مئات المئات من المشاهدين..وفي كلتي الحالتين كان شاباً في الثلاثينات، وقد جسد نموذجاً مصغراً لضحايا تجارة الأعضاء البشرية...

كان قادماً من مخيم البقعا، اكبر المخيمات الفلسطينية تعداداً للسكان في الاردن، حاملاً على ظهره هموم مائة وعشرين الف لاجئ فلسطيني واكثر، لتفيض من جيوب كلامه المخنوقة انهار تنهيدات وآهات جيرانه وابناء بلده وعائلته ليسرد قصة وحش الفقر المدقع فيعبر عن ندمه بعد أن باع إحدى كليتيه امأم من تبقى من البشر..فما الذي يدفع هؤلاء إلى بيع اعضائهم؟ اهي اغراءات سماسرة وأطباء بلا قلب ولا رحمة؟ أم أن شدة الفقر والبطالة والعوز باتت تمد يدها الفتاكة لتسرق اغلى ما يملكون- الصحة – في حين لم يجدوا " شيئا عليه القيمة " ليبيعوه سوى اعضائهم؟!

لا يخفى على أحد ما تعانيه المخيمات الفلسطينية من بطالةٍ، فقرٍ وبنى تحتية سيئة، ليغدواقصى احلأم هؤلاء هوالعيش تحت سقف بيت بكرامة والحصول على لقمة العيش دون ذل أواهانة، وهذا تماماً ما جعل (س) وهواب لثلاث بنات أن يبيع قطعة غالية من لحمه رغم تدهور حالته الصحية..فقط ليوفر بعض القطع النقدية اللعينة، لعله يؤمن حاجات بيته الاساسية من اكلٍ وشراب، وفقط وفي تلك اللحظة بالذات حينما تحدث عن ابتسامة طفلته الصغيرة وفرحها لشرائه بجزءٍ من ثمن لحمه كنزةً جديدة..تساءلت..اين هي البشرية بالضبط؟
اين تنأم ضمائر اصحاب البطون المنفوخة؟ أم أن الانسانية باتت مجرد شعارات في المؤتمرات والخطابات الرسمية والسلام؟ وهل وحده ابن المخيم هوذاك الذي يتعرض لهذه السرقات الاجرامية اليومية؟

الاجابة وللأسف قطعا لا، فمصر، الباكستان، الصين، الهند والبرازيل تتصدر قائمة الدول التي تنتشر بها تجارة الأعضاء، ويفيد أحد تقارير منظمة الصحة العالمية أن قرى كاملة في الباكستان باتت معروفة بأن خمسين بالمائة من اهلها يعيشون بكلية واحدة بسبب انتشار التجارة بالأعضاء، وان هذه التجارة في سوريا تحولت لبورصةٍ يديرها سماسرة وأطباء، ومصادر رسمية تحدثت عن سوقٍ لبيع الكلى..فما هذه المهزلة بحق السماء؟

هل اضحت تجارة الأعضاء البشرية " بيزنس" العصر الحالي؟ ولمَ يتوجب على الفقير بيع لحمه وصحته كي يشتري أحد رجال الاعمال فيلا في كل بلد يزوره أويبتاع لزوجته أوعشيقته سيارة جديدة كما يحدث اليوم مع العديد من اصحاب الاسماء المعروفة في مصر والذين جنوا اموالاً طائلة من وراء هذه التجارة؟

هل ما نقرأه في قواميسنا وكتبنا كل يوم عن المثالية ومعاني العدالة، هي مجرد اوهأم تعشش في افكارنا؟ وان كان عكس ذلك فأين هي العدالة السمائية؟ لعلها تمنع ظلم الوحوش البشرية بين البشر انفسهم!!

لا نستطيع انكار بعض ايجابيات الموضوع هنا، فقد تفك ضيقة احدهم ببيع جزء من جسده لكن حيرتي فاقت ذلك " فالمتبرع" قد يقبض ثمن لحمه وقد لا يقبض، وقد يعيش بكلية واحدة وقد يدفع حياته ثمناً لذلك، فهل يستحق الامر كل هذا العناء؟؟

ثم أن العديد من الحيثيات المعقدة بهذا الموضوع، وقد نغدوغير قادرين احياناً على الحكم المطلق، وسأورد قصة تحقيق اجرته (ال بي بي سي) بشكل سري، فقد كشفت النقاب عن سرقة لأعضاء المساجين المحكوم عليهم بالاعدأم في الصين، والتي تؤخذ منهم لتباع لأشخاص يحتاجون اليها كي يكملوا مشوارهم الحياتي، وتحديداً هنا وقفت محتارةً، هل اتخذ موقفاً معادياً لهذا العمل أم اؤيده..؟ لما يعود بالفائدة على الآخرين، وهنا تتأرجح كفتي الميزان بين انتهاك الحق لأولئك المودعين لوجه الدنيا، وبين ابتسامة الحياة التي قد تمنح من جديدٍ لشخص عانى طويلاً، فتذكرت رواية البؤساء لفكتور هوجو، تلك التي ناقشت قضية العدالة الاجتماعية والخير والشر، والتي اضحى بها " جان فالجان" مجرماً لمجرد سرقته رغيف خبز، وأنا شخصياً احترمت واحببت شخصيته رغم انه لص، ويوصلنا المؤلف إلى الاستنتاج الواضح وهوانه لا توجد قيمة مطلقة للخير أوالشر في التصرفات البشرية، ولكن هل هذا يعطينا الحق أويبرر نهب أعضاء البشر وبكل وقاحة؟

هي اسئلةٌ صعبة لا استطيع الاجابة عليها، لكن يبقى لدي ايماني الكبير بأن الانسانية لا تقاس بالقدرة على تنفيذ القوانين الدولية، إنما هي اولاً واخيراً تكمن بمحكمة الضمير لدى كل وأحد منا وان قل وجودها في ايامنا الحالية للاسف!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى