الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم الطاهر محمد شرقاوي

المنذور

ـ 1 ـ

أضع طرف جلبابي بين أسناني ، أقبض عليه بقوة ، وأخوض في الأرض المروية ، أدوس على النبت الأخضر ، الغض ، فأدفنه في الطين ، تاركا ورائي آثار أقدامي ، ممسكا بيدي فم الجوال الذي يتدلى على ظهري . تتساقط قطرات العرق في خطوط من جبهتي إلى شفتي ، فيلذعني طعمها المالح .. أجد في السير ، اختار طرقا مختصرة بين الغيطان ، كنت أسمع دقات قلبي عالية ، أقول في سرى :" كلها ساعات قليلة ويشيع الخبر بين الناس .. فتنقلب الدنيا .. ويعرفون ما الذي يستطيع أن يفعله راعى الغنم ".

أتجه نحو كرم النخيل المهجور ، ارتمى تحته على النجيل الجاف وأنا ألهث ، أمسح الطين العالق في قدمي بقرن ليف ناشف ، وأنا أفكر في خطوتي المقبلة ، أخرج الرأس من الجوال ، كانت ملطخة ببقع الدم المتجلطة ، ولحظات الفزع الرهيب تسكن ملامحها .. أتأملها قليلا .. ثم أعيدها مكانها مرة أخرى ، أحمل الجوال على كتفي ، متجها نحو بيوت النجع القريب ، ألمح دخان أفرانه وكوانينه تتصاعد في كسل نحو السماء ، وثلاثة طيور سوداء تتجه بعيدا حتى تختفى .

ـ 2 ـ

هل كنت تظنني طفلا يلعب في التراب ، ولن يقدر على فعل شئ ؟
... لم يكن يخفى على ، ما كنت تقوله في مجالسك ، عندما يطالبونك بالحذر منى ، فتهز رأسك بكبرياء ، وتقول في سخرية :" ما هو إلا راعى غنم .. لا هم له إلا حماية نعجاته من الذئاب ".

فلماذا إذن كل هذا الخوف ، الذي ارتسم على وجهك ، لما رأيتني ؟
وأين ذهب الذي لم تكف عن حكيه في مجلسك مع الرجال ، وتتفاخر به دائما أمام نسائك ، فيبهرن بفحولتك وقوتك .. تحكى وأنت تتنحنح وتفتل شاربك ، قصتك مع الذئب ، الذي طلع لك في ليلة مظلمة ، فلم تهتز لك شعرة ، صارعك ، فكنت كالجبل في الثبات ، قتلته وشققت صدره .. أكلت قلبه نيئا .. ثم تسحب طرف جلبابك لأعلى ، وترى مستمعيك أثر حافره على ساقك ، وأنت تحلف في فخر بأيمان المسلمين ، أنك ما عرفت الخوف بعدها ..

فلماذا خفت منى ؟

انظر في وجهي .. دقق .. أنا لست ذئبا ، ولا عفريتا ، ولا قاطعا للطريق ... أنا راعى الغنم ، الذي لا يجيد شيئا في الدنيا ، إلا هش نعجاته بالعصا ... ألا تتذكرني ؟ .. ألا أشبه شخصا كنت تعرفه ذات يوم ؟ .
أنا ابن صديقك القديم .. من أكلت معه عيشا وملحا ، وفتح لك باب بيته ، تأتى في أي وقت ، فتجد الترحاب والوجه البشوش ، شاركك في تجارة البلح ، وعلمك من أسرارها ما لم تكن تعلم ، أنزلك في منزلة الأخ الشقيق ، أكلت معه آخر زاده من الدنيا ، ضحكتما وأنتما تشربان الشاي ، ثم خرجتما ، ولم يعد بعدها ..
حدق في ملامحي .. تقاطيع وجهي .. ألا تتذكرني ؟
تسألني : ما الذي سأفعله ؟
لن أفعل سوى الحق والعدل .. انه القصاص ولو بعد حين .. عين بعين ، ورأس برأس ، والبادي أظلم .

ـ 3 ـ

أدخل النجع .. أراهم متحلقين كعادتهم أمام باب المندرة ، أتجه إليهم بخطوات ثابتة ، أصواتهم عالية ، يتفاوضون على إتمام صفقة بلح ، أتوسط حلقتهم فيكفون عن المساومة ، وأمام أعينهم المحدقة ، وفى هدوء ، أفتح الجوال ، فيتدحرج على الأرض كالكرة .

فوجئوا بالأمر .. بهتوا فلم يستطيعو نطقا ، تبادلوا النظرات بينهم لمعرفة رد الفعل ، عدل أحدهم من وضع الرأس المقلوب .. حدقوا .. نهضوا في فزع .. وبدون تفكير نزلت عصيهم على ، تكاثرت ضرباتهم الموجعة على كل مكان في جسدي ، وكبيرهم يضغط على أسنانه ، ويصرخ في حنق : " يا فاجر .. جلبت لنجعك خراب الديار .... تنكش في أشياء قديمة ماتت ، وذهبت لحالها ونسيها الجميع .. يا بومة النجع ما وراءك إلا الشر والبوار " .

تمكنوا منى ، أوثقوني بالحبال ورموني في ركن بالمندرة ، وبجانبي الرأس الملفوفة في الجوال ، كانت أصواتهم في الخارج زاعقة ، انقلب حال النجع ، علا الصياح والتراب في السماء ، انتشر الخبر بين البيوت فخرجوا يهرولون ، حتى الكلاب بدأت تتقافز وتنبح في عصبية .

يأتيني صوت أمي من الخارج ، وهى تصرخ فيهم وتطالبهم بفك قيودي ، كانت تصفهم بأنهم ليسو رجالا ، ولا يستحقون الشوارب التي تزين وجوههم ، ومن الأصلح لهم أن يلبسوا الطرح ويقعدون كالنساء في البيوت .. و كان كبيرهم يصيح في ناس النجع المتجمعة : " لا تسمعوا كلام أم الشؤم .. ولن يفك قيود ابن الكلب إلا الحكومة ".

ـ 4 ـ

أمسكت في يدي "بالفرد الروسي" .. وبكل مرارة السنين السابقة .. وبكل ما أوتيت من عزم وقوة .. ضغطت على الزناد .. خرجت الطلقة .. قطعت المسافة الفاصلة بين فوهة "الفرد" والجسد .. اخترقت الصدر بصوت مكتوم .. مطفأ .. سقط على الأرض .. أخذ يتخبط كقرموط سمك وهو ينفر بالدماء .. ساخنة .. تجرى على التراب في خطوط ملتوية كثعابين هاربة .. في هدوء سحبت المنجل المسنون من الجوال .. وبدأت في حز الرأس .

ـ 5 ـ

نذرت نفسي لهذا اليوم ، خططت له منذ صباي ، حلمت به عشرات المرات ، أنا المنذور لمحو الذل اللاصق بنا ، كنت أظنكم ستفتحون أبواب المندرة ، وتتلقون العزاء في أبي ، لكن يبدو أنكم استطعمتم العيش اللين ، فرقت جلودكم الخشنة ، وآثرتم السلامة ، خفتم على تجارتكم وأرباحكم الوفيرة ، وعلى مصالحكم في بقية النجوع .. أحيانا أسأل نفسي ، كيف تأتيكم القدرة على إتيان نسائكم ، واستعراض فحولتكم ـ أدامها الله ـ عليهن ، وانتم لا تقدرون على رفع عيونكم في وجوه الناس ، تمشون في الأسواق ، تسمعون اللمز ممن لا يساوى شيئا ، فتغضون آذانكم ، وعندما تدخلون في عراك مع شخص ما ، يصيح فيكم باستهزاء :" خذوا ثأر ابنكم أولا ، قبل أن تتشطروا على ". فتكفون عنه . لقد خلصتكم من ذلك ، فسيروا في الأرض ، وامشوا في مناكبها .. انتم لا تدرون ما عانيت في سبيل ذلك ، حرمت نفسي من النساء ، من أن تكون لي امرأة مثلكم ، أنام في حضنها الدافئ الحنون ، أتغطى بشعرها الليلي الطويل ، من أن يكون لي أطفال يجرون تحوى عند دخولي البيت ، يفتشون جيوبي بحثا عن الحلوى المخبأة .. من تجارة كتجارة أبى ، الذي سارعتم فأخذتم مكانه في الأسواق .. أعرف ما تفكرون فيه .. تسلمونني للحكومة ، لتلف حبل المشنقة حول عنقي ، ثم تتبرءون من الولد الضال الفاسد ، ومن أفعاله التي أملاها عليه شيطان رأسه الصلد .. ترسلون الرسل وحكماء النجوع ، يسعون في الصلح .. والصلح خير .. ورأس برأس .. وما ذنبنا نحن بما فعله السفهاء منا .. ووقى الله المؤمنين شر القتال .. ثم تمشون وراء كلام كبيركم ، الذي يمتلك ثلاث من النسوة لا يقدر عليهن ، ويتركهن كل ليلة يتقلبن على الجمر ، ومع ذلك يبغي الزواج من رابعة ... وكلما جاء ذكرى ـ عفوا ـ على ألسنتكم .. تلعنونني .. وتقولون لبعضكم :" افتكروا الخير" . وكضباع جائعة ، تبدءون في نهش لحمى ، ورغم مرارته ، كنتم تمضغونه في أفواهكم ، باستمتاع وتلذذ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى