الأربعاء ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

في قفص الاتهام

أعماقه غائمة تصارعها سحب شتائية مجنونة، أفكاره مشلولة تتقاذفها هواجس شيطانية ماردة، يتهاوى على كف الجراح فارسا تائها أضناه المسير، يتنهد في صعوبة بالغة، يردد بين شفتيه: سأقتلها، نعم سأقتلها. في أعماقه الموحشة تندلع براكين الغضب نارا متأججة، يتلوى سخطا وعذابا، يحترق، يتبخر، النار تأكله من كل الجهات، يسقط في ميدان الرتابة دمعة ضائعة، ورقة خريفية تعبث بها أيدي الرياح، يتشبث بخيوط وهمية من الفراغ بحثا عن طوق النجاة، يصرخ ملتاعا، لغة الصمت تقتله، تمزقه، تحول رأسه إلى ساحة مهجورة يلهو فيها جراد الزمن، يكتسح ذاته في تعنت مر، يمتص تلافيف ذاكرته، وأوردته. التساؤلات الجحيمية تكبله بقيودها، تزج به في زنزانة معتمة لا تزورها شمس ولا أغنية.

وهو كمجنون تافه يدور، ويدور، ويدور في حلقة مفرغة يطغى عليها السواد، يتمرد على ذاته، يصب جم غضبه في عالمه الشاحب الذي فقد لونه، يقف من صدماته، يتعثر، يسقط ثانية، يصرخ كمراهق أقبر الدهر أعز أحلامه.

رحى الألم تطحنه في الأوج وهو كطير مذبوح يصارع أشباح اليأس، يهتف في تربة نفسه: سأمزقها إربا، إربا، وأرميها في إهمال لكلاب المدينة المتوحشة. إنها خائنة، والخائن إذا ارتكب أرذل الرذائل سيحكم عليه بالموت، سأنهي حياتها بيدي وأرتاح، إنها أفعى تسمم حياتي، تطعن كرامتي، سأقتلها، ولن أترك أي أثر يفضح جريمتي. من سترته الباطنية يسحب لفافة تبغ، يمتصها بعصبية، ينفث دوائر الدخان، يطارد تلك الزوابع بعينيه الحائرتين، وسرعان ما تتوزع في أرجاء غرفته، ثم تتلاشى، وتغدو لا شيء، يقول في نفسه وهو يسقط في بحيرة التعب: ستتلاشى من حياتي كهذا الدخان، وسأنعم لحظتها بالهدوء.

ــ أبي، أبي.

يلتفت حيث مصدر الصوت، تتعلق عيناه الزائغتان بابنه، تتغير سحنته، يقطب حاجبيه فزعا، يقول في شبه ثورة: ماذا تريد؟

يتسمر عمر في مكانه مشدوها، ويبكي في صمت.

ــ ما الذي يبكيك؟

ــ ليس من عادتك أن تكلمني بهذه اللهجة القاسية.

ــ إنصرف إلى أمك، إنصرف.

يهتف في مرارة بينه وبين نفسه: إنه ليس ابني، ليس ابني.

يتقلب في فراشه كأنه يتقلى على جمر، ذلك الشيطان الصغير سيفسد عليه خطته، سيبلغ البوليس عنه إن هو قتل أمه.

ــ لن أتراجع عن قراري الحاسم، بل سأنفذ فكرتي عن طواعية، عن إرادة من حديد، إنها ناكرة لعشرتي، اللعنة عليها إلى يوم الدين، إنها حرباء تتلون بألف لون، إنها أخطبوط جبار لا ينفع جسدها سوى رشاشة تدمير تكون على إثرها نهايتها، سأقتلها، سأريها من أنا، أنا الرجل المغوار الذي يتحدى همجية العواصف، ويمتطي سفينة الأهوال، أنا الرجل الذي......

يتقدم ببطء نحو العدالة، يسأله قاضي التحقيق: لماذا قتلت زوجتك؟

ــ لأنها خائنة يا سيدي.

ــ كيف عرفت ذلك؟

ــ من تصرفاتها.

ــ لماذا خانتك؟ هل هناك سبب واضح أجبرها على خيانتك؟

ــ سيدي القاضي، نساء العالم كلهن خائنات.

ــ كفاك هذرا، حدد إجابتك.

يطأطئ رأسه المتعب، ويصمت.

يلح القاضي في سؤاله بصرامة: لماذا خانتك زوجتك؟

ــ لست أدري يا سيدي، لست أدري.

وكادت الدموع تطفر من عينيه لولا أنه تجلد صبرا ومقاومة.

يعلن قاضي التحقيق بعد أن يتشاور مع جليسيه: القتل عمدا ستكون نتيجته السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.

ندت منه صرخة عنيفة اهتزت لها القاعة:لا....لا....لا....

وهب من فراشه مذعورا كمن كان يحلم حلما فظيعا، يحضن رأسه بيديه، ويبكي في مرارة قاتلة، تسأله زوجته في حنان وهاج: ماالذي ألم بك يا زوجي العزيز؟

يزعق في وجهها كعاصفة مزمجرة، ويهوى على خدها ضربا.

ــ أغربي عن وجهي، أغربي عن وجهي.

يتشبث عمر بثوب أمه وهو يستعطفها قائلا: أرجوك يا أمي تعالي، تعالي، إن والدي لا يطيق رؤيتنا. تحضن الأم إبنها الصغير، وتقول له في صوت باك حزين: لا تشغل نفسك بأمورنا، إذهب إلى غرفتك، وراجع دروسك.

قال له صديقه (أكرم): لقد حظيت بامرأة منذ شهور، ونحن نتقابل خفية عن زوجها.

ــ ما اسمها؟

ــ كريمة.

إهتز جنونا، هتف في نفسه والشك يملأه: إنها زوجتي، إنها زوجتي. أتكون هي بلحمها ودمها تغامر، وتلعب لعبة دنيئة من ورائي؟ ألا تكون هي التي اخترق ستائر حياتها وكانت من حظه ونصيبه؟

غامت عيناه المعذبتان، تضببت المرئيات أمامه، أحس أنه وحيد، منبوذ من رقعة الحياة، أحس أنه لا يساوي شيئا، لا قيمة لوجوده. أوهام سوداوية تلفه بزوبعتها، وحل الغيرة ينخر عظامه، الضباب الداكن يملأ جمجمته، بالأمس فقط سمع رنين الهاتف وإذا بزوجته كريمة تقول: ألو، من؟

ضحكت في رقة وعذوبة وقالت: لقد اشتقت إليك كثيرا، متى أراك؟

من يكون هذا الذي تتحرق شوقا إليه، وتسعى للقائه، لن يكون غيره، لن يكون سوى صديقي أكرم، إذن زوجتي تخطط، وتضرب له مواعيد محددة أثناء غيابي، إنهما يتقابلان من ورائي، ويتناجيان، إنهما يسحقان قلبي الطاهر ليصلا إلى هدفهما المنشود.

إعتدل أمام المرآة، رأى وجهه شاحبا، مصفرا كأن الهزال أصابه منذ أعوام بعيدة، عيناه مضببتان كأفكاره السود، ما هذا الشحوب؟

اللعينة تبدو أمامي بريئة من جميع التهم، تبدو كأنها ملاك طاهر نزل من السماء إلى أرض مقدسة، سأسألها، سأواجهها، سأكشف لها عن خيانتها الوضيعة، وما لبث في تساؤلاته حتى سمع رنين الهاتف يصله من الغرفة المجاورة، جحظت عيناه وشيء ما صرخ بداخله: إنه غريمك، إنه غريمك.

هرع إلى الغرفة والغضب يزلزله، رفع السماعة: ألو، من؟

وجاءه الصوت ضعيفا: أنا.

فارت دماؤه، قال حانقا: من أنت؟

ــ صديقك أكرم.

خفق قلبه، طاش صوابه، صاح: ما بك؟

وما إن سمع الاسم حتى كاد يسقط مغشيا عليه لولا أن صديقه ابتدره قائلا: كريمة التي أخبرتك عنها.

قال كالمعتوه والسماعة ترتعش في يده: ما بها؟

ــ سافرت، سافرت مع زوجها.

فغر فاها، زاغت نظراته في المتاهة، تساءل: إذن شكي لم يكن في محله، زوجتي كريمة بريئة.

وضع السماعة في مكانها، هرول إليها، صاح والفرح يبدد أفكاره السوداء، ويقضي على شكوكه أيما قضاء: إنك بريئة، والله بريئة.

صاحت مندهشة: ماذا تعني بقولك؟

ــ إنها حكاية طويلة يا عزيزتي، سامحيني، إنك أنبل امرأة عرفتها في حياتي.

ــ أبي سيزورنا هذه الليلة، إنه مشتاق لرؤيتنا.

ــ إذن هو الذي كلمته في الهاتف؟

نعم هو بعينه.

ــ سامحيني يا عزيزتي، إن بعض الظن إثم.

طوقها بذراعيه، وسافر في صفاء عينيها ملكا يمتطي صهوة جواد جامح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى