السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

وَمَـض الـذاكـرة

كومة من أحجار تلافاها لساني حتى استطعت النفاذ بكلماتي أمامك دون لجلجة تدفن أنصاف الجمل في صدري, تتركني في منتصف الطريق الصعب الذي اخترت سلوكه، ولذا سوف أحاول الاسترخاء قدر استطاعتي، كما لو كنت أحاور نفسي، أضعها أمام مرآة سلبياتها، نزواتها وفجورها، تستغربين ذلك؟...

أعرف أني لم أبدِ التردد أمامك ذات يوم، اعتدت أن أغلف أخطائي بصوتٍ عال، أرغمتك على التآلف معه منذ بداية زواجنا، تستغربين تهاوي علاظته تحت جنح شبق لم تروض من احتدامه تهادي الأيام والشهور، حاولت مجاراة أطواري و في داخلك يكمن خجل العذارى، كنت بين أحضاني تلميذة مثقلة بالواجبات، تتطوحين بين ثنايا غيومٍ تتضمخ بخلجات عشق يطغي على استغراب لم تفلحي في مداراته طويل، هيامٍ أراد تطويق كل كيانك، صهر أضلعك بين جوانحي، عسى أن أمتلك اكتمالي وليس امتلاكك كما كنتِ تتوهمين...

ههه... لن أقول أنك من رميت بي إليها لئلا تسخري من العذر الجاهز على ألسنة كل الرجال...
جذبتني منذ تعارفنا في الكلية، ولكنها لم تكن ترى سواه، وكأنها ما خلقت إلا من أجل أن تكون له، من ضمن ممتلكاته, خضوعها الكامل كان يغيظني بقدر ما يثير غيرتي، وجدت نفسي مرغما أن أكون أحد شاهدي عقد زواجهما العرفي، عاجزا عن التفكير بأي تصرف آخر أمام دلال فرحتها بدخولها عشهما السري، في سطوع عينيها تبرق نشوة تمرد على تسلط والدها و تعدد زيجاته، هجرانه البيت أغلب الأحيان، حتى تم الانفصال بينه ووالدتها المتلقعة بعباءة الاستسلام دوما...
كنت أعتقد أنه لن يوفي بأيٍ من وعوده لها، التقدم وأهله الأثرياء لخطبتها بعد التخرج، إقامة أبهى عرس لها، كنت شبه متيقن بهجرانه لها عاجلا أم آجلا، لا أن تتمرد هي على هوس الماضي بتلك السرعة المباغتة لمجرد شكها في وجود علاقة تربطه بغيرها، فسخا العقد أمامنا, ما خلد بذهني أبدا أنها يمكن أن تمتلك كل ذلك الجبروت لدى مغادرتها الدار، مخلفة بكارتها في تلك الغرفة التي ظللت أتمعن في تفاصيلها قبل تسليم الدار لصاحبه...

نالت مني دهشة كبيرة عند آخر مرة شاهدتها فيها، كانت تجلس في سيارة إلى جانب رجل يكبرها بعشرين عاما على الأقل، وفي الخلف يطل رأس صبية من الشباك، نضحت فيها بعض ملامح وجهها الجميل, أدارته عني بحجة تعديل غطاء رأسها الذي سكن صدري بحنوٍ يغدق علي ما صرت أبحث عنه بين أحضانك, لم تمانع بزواجٍ عرفي آخر، كنت أنا أحد طرفيه هذه المرة، لم نأتِ على ذكر الماضي أبدا، مع أنها فاجأتني بعد تعيينها في البنك الذي كنت أعمل فيه بمعرفتها خبر زواج صديقي بإحدى قريباته وهجرته إلى الخارج...

لا أدري كيف أفسر لك سرعة تجاذبنا الحميمي، وكأني أتعرف إليها لأول مرة، دون أن أجد عائقا يعترض سبيلي إليها، وافقت بسرعة، قبل أن تمضي ثلاثة أشهر على وفاة أبيها بين أحضان عروسه الشابة، رغم علمها بزواجي وأبوتي و تمسكي بالتزاماتي العائلية، لا تنكري هذا الأمر رغم كل شيء، بل لعل ذلك الأمر بالتحديد كان أكثر ما حفزها للقبول، فلم تكن من أنصار الزواج التقليدي، بقيوده ورتابته وتداعياته التي أظلت حياتها، المهم لديها الصراحة والصراحة التامة، حتى عندما تحضر أحدنا نية ترك الآخر، دون إساءة أو تجريح، بل أنها قالت كما لو كانت تناقش أمرا إداريا: في اليوم التالي من قرارنا الانفصال سوف أطلب نقلي إلى فرع آخر, أوكَي...

بحثت عنكِ فيها، ولعل شيء مني كان يبحث عنها فيكِ؟... أحجية ما أدركت لها حلا، يحق لك نعتي بما تشائين, اتهامي بالجنون، ولكن صدقيني، ما عشت فترة في حياتي أجمل ولا أصفى من تلك الشهور المخملية, كنت مرتوٍ بالكامل، فحصلت على الترقية التي كنت أحلم بها بسرعة أذهلتني قبل الجميع، توليت إدارة فرع غير الفرع الذي كنت أعمل فيه...

ـ الآن لست بحاجة لطلب النقل فيما لو انفصلنا عن بعضنا...

كنت أمازحها وما دريت ما كانت تفكر فيه... توقعت أني فقدت القدرة على الحراك تماما عندما لكمت كلماتها وجهي، أقسمت لها برجاء أني لم أخنها أو فكرت في خيانتها يوما... استفزتني ضحكاتها: أنت تخون زوجتك معي...

أوَ تصدقين تلك السخرية السمجة؟... شعرت حينئذِ أنها هي من كانت تقتفي شيء من أثر حبيبها الأول بين أضلعي, كيف لم أتنبه إلى ذلك من قبل !!!...

يصعب السيطرة على جسدك عندما تنتفض كل عروقه، تسيطر على كل انفعالاتك، وكم من شخصٍ ظنوا به الجنون المطلق في مثل تلك اللحظات المريعة... كنت عصبا مشدودا لم يلن أو يركن إلى الهدوء إلا بعد إطلاق كل ارتعادي في وجهها, خصل شعرها المتهدلة إلى أعلى ظهرها, كل جزء في جسدها... غزوتها بفضاضة رجل يمتطي صهوة آخر أمانيه، يهتاج رغبة وامتعاضا يستمدان صلابتهما من العناد الراسخ فينا، كل رفسة دلال لا تريد الخلاص عاجلتني بها غرزت بتلات أنوثتها داخلي أكثر، كنت على أتم استعداد لإعلان زواجنا أمام الجميع، لكني مع اقتراب منتصف الليل وجدتني أرتدي ثيابي بسرعة، ومع انشقاق جدح نظراتنا أرمي عليها يمين الطلاق، غادرت تلك الشقة التي شهدت فيما بعد جل أوقات عزلتي وتوقي للاختلاء بنفسي، بعد يوم مشحون بالعمل و المجادلات وسلسلة غير منتهية من الأرقام متفاوتة الأصفار... وأيضا عدد من علاقات تتماهى فيما بينها، ليس في تفاصيلها ما يستحق أن يذكر، ترفع شعلة الانتقام من كلتاكما، لم تخلف سوى نزق سخرية مضمرة من جسدي الواهن أمامك في هذه الغرفة الخانقة كعلبة مفرغة من الهواء...

جرفتنا السنون سريعا يا حبيبتي، كبر الأولاد والبنات، تزوجوا وأنجبوا، غادرونا فعدنا وحيدين، حل المرض في جسدك أكثر مني، وهأنت تتمددين فوق فراش المرض أمامي، مغيبة عن الوعي, تعتاشين على المحاليل منذ أيام ألقتني إلى سعير الجحيم، افتقدت أحاديثنا، نقارنا، أكيد أنك افتقدتِ مشاكساتي أيضا، لفح مداعبات السنوات الخوالي، شكواك من إهمالي الذي لم تستطيعي ترويضه عبر خمسة وثلاثين عاما...

نهض عن الكرسي بتأنٍ, يتكئ على ركبتيه، أطلق تنهيدة جابت فضاء الغرفة، اقترب منها هوينا، انحنى نحوها, ارتجفت أصابعه لدى تلمسها خصل فضية من شعرها، شابت شفتاه حرارة قبلة ضمخت جبينها، كما فعل في أولى لحظات ليلة زفافهما المخملية...

التقطت أذناها صوت انغلاق الباب, بعد ثرثرة طويلة واصلت زحفها إلى أذنيها كرجع صدى من غور كهف سحيق, لا تدري إن كانت للحياة أو الموت أقرب، حتى انتظمت الكلمات والجمل في ذبذبة صوت محددة، تعرفها جيدا، عاشرتها عقودا عدة، أضرمت النار في هشيم خيالات تدحرجت على شواطئها الشائكة، في لجة الهوس أكثر من فترات الجفاء، أعواما تأوهت احتياجها إليه، يضنيها الشوق إلى رومانسية حب ولى منذ زمن، لم تجنِ منه سوى رسائل ترشف أشعارها من الضمأ عذوبة الوجيب الأول...

رمش جفناها الشاحبان بمواجهة الضوء الخافت قبل فتحهما كاملا, خدَل تام ينوش جسدها، تخضب غضون حدقتيها الدموع، نظراتها الغائمة جابت أنحاء الغرفة حتى حطت على الكرسي الموجود أمام السرير...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى