الثلاثاء ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم كروان خالد

فقط للذكرى

تُشْرِقُ الشَّمْسُ كُلَّ صَبَاحٍ لأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّنَا، إِذَا مَا حَلَّ اللَّيْلُ نَنْسَاهَا؛ الهِلاَلُ تَعِبَ مِنْ ذَلِكَ فَأَضحَى يَزُورُنَا كُلَّ شَهْرٍ، لَعَلَّنَا نَتَذَكَّرُ؛ الكَوْنُ كُلُّهُ يُخَاطِبُنَا، رُغْمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنَا نَنْسَى، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، فَقَط لِلذِّكْرَى.

سَادَ القَوْلُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ يَكُونُ نِعْمَةَ أَحْيَاناً، لِكَي نَتَجَنَّبَ المُعَانَاةَ و الأَلَم؛ لَكِنَّنَا فِي خِضَمِّ ذَلِكَ، نَتَعَوَّدُ عَلَى النِّسْيَانِ، فَيُصْبِحُ إِدْمَاناً؛ و عِنْدَهَا نَنْسَى الذِّكْرَى؛ لِذَلِكَ سَأَرْوِي لَكُمْ حِكَايَةَ ذِكْرَى، لَكِنْ تَذَكَّرُوا أَنِّي لَنْ أَعُودَ مَرَّةَ أُخْرَى لأَرْوِيهَا لَكُمْ مِنْ جَدِيد.

ذِكْرَى فَتَاةٌ مَحْبُوبَةٌ مِنَ جَمِيعِ النَّاسِ، تَعِيِشُ فِي حَيٍّ فَقِيرٍ؛ و سِرُّ حُبِّ النِّاسِ لَهَا أَنَّهَا لاَ تَنْسَى أَحَدَا، فَلاَ يَمُرُّ يَوْمٌ عَلَيْهَا دُونَ أَنْ تُحَيِّي كُلَّ مَن فِي الحَارَةِ و تَسْأَلَ عَن أَحْوَالِهِمْ؛ ذِكْرَى لَيْسَتْ فَاتِنَةً، لَكِنَّ بَرَاءَةَ الطُفُولَةِ الَّتِي فِي عَيْنَيْهَا الزَّرْقَاوَتَيْنِ، جَعَلَتْ كُلَّ مَنْ يَرَاهَا يُحِبُّهَا، مَادَامَ يُحِبُّ البَرَاءَةَ؛ شَقْرَاءٌ، مُمْتَلِئَةٌ نَوعاً مَا و دَائِمًا مُبْتَسِمَةٌ؛ فَفَلْسَفَتُهَا فِي الحَيَاةِ تَتَلَخَّصُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: السَّعَادَةُ.

السَّعَادَةُ عِندَ ذِكْرَى هِيَ أَنْ تَرَى الجَمِيعَ سُعَدَاء،فَرُؤْيَةُ مَلاَمِحِ الحُزْنِ لَدَى شَخْصٍ مَا، أَيّاً كَانَ، تُعَكِّرُ صَفْوَ مِزَاجِهَا؛ و لاَ شَيْءَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَهِيَ تُؤْمِنَ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ قَضَاءٌ و قَدَرٌ، لاَ شَيءَ يَدعُو إِلَى النَّدَمِ عَلَى الإِطْلاَقِ، فَالدُّنْيَا مَدْخَلُ لِحَيَاةٍ أُخْرَى، و كِلاَهُمَا امْتِدَادٌ لِلرُّوحِ البَشَرِيَّةِ ذَاتُهَا؛ إِنْ تَعِشْ فِي سَعَادَةٍ، فَسَتَعِيشُ أُخْرَاكَ كَذَلِكَ لاَ مَحَالةً، هَكَذَا قَالَتْ ذِكْرَى.

تَعِيشُ ذِكْرَى فِي سَعادَةٍ عَارِمَةٍ مَعَ وَالِدَيْهَا النَحِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ يَعْتَمِدَانِ عَلَيْهَا كَثِيرًا فِي تَسْيِيرِ أُمُورِ البَيْتِ كَوْنَهَا لاَ تَنْسَى أدَقَّ التَفَاصِيلِ؛ أَمَّا هِيَ، فإِنَّهَا مُقتَنِعَةٌ أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ شَيءٌ يَسْتَحِقُ عَنَاءَ التَسْيِِيرِ فِي هَذَا البَيْتِ البَسِيطِ؛ وَحَتَّى خَارِجَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ أَيَّ شَيءٍ، يَسْأَلُ ذِكْرَى؛ و تُجِيبُ هَذِهِ الأَخِيرَةُ فِي سَعَادَةٍ عَارِمَةٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ تَسْتَمْتِعُ بِسَرْدِ مَهَارَتِهَا هَذِهِ؛ لَكِنَّ مَا يُسْعِدُهَا حَقًّا هُوَ مَدُّ يَدِ المُسَاعَدَةِ لِلغَيْرِ، فَهِيَ دَائِمًا تَقُولُ أَنَّ النَاسَ يَعْرِفُونَ، لَكِنَهُم يَنْسُونَ، أَو يُفَضِلُونَ عَدَمَ التَذَكُّرِ، اعْتِقَاداً مِنْهُمْ أَنَّ َالنِسْيَانَ نِعْمَةٌَ؛ أَمَّا هِيَ، فَإِنَّهَا لاَ تُوَافِقُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، لِذَلِكَ هِيَ لاَ تَنسَى أَبَداً؛ وَلاَ حَتَّى فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، حِينَ صَدَمَتْ سَيَّارَةٌ فَخْمَةٌ سَوْدَاءَ ابْنَ جَارَتِهَا جَلاَلْ، ثُمَّ ابْتَعَدَتْ مُسْرِعَةً.

جَلاَلٌ الَّذِي لَمْ يَتَجَاوَزْ عُمُرُهُ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، هُوَ صَدِيقُ ذِكْرَى الحَمِيمُ، لأَنَّهُ يُشَاطِرُهَا نَفْسَ نَظَرَاتِ البَرَاءَةِ و السَعَادَةِ، فَوَجْهُهُ داَئِماً مُبْتَسِمٌ، حَتَّى عِنْدَمَا يَتَأَلَّمْ؛ لِذَلِكَ، و رُغْمَ تِلْكَ الفَوضَى العَارِمَةُ، اسْتَطَاعَتْ ذِكْرَى أَنْ تَلْحَظَ نَوْعَ السَيَّارَةِ و رَقْمَهَا و مَنْ بِالدَّاخِلِ و أَنْ تَتَذَكَّرَ ذَلِكَ جَيِّداً؛ رَجُلٌ أَنِيقٌ يُدَخِّنُ سِيجَارَةً سَمِيكَةً يَجْلِسُ بِالخَلْفِ و سَائِقُهُ الخَاصُ؛ نَظَرَتْ ذِكْرَى إِلَى جَلاَلٍ فِي حُزْنٍ و قَد التَفَّ أَهْلُ الحَيِّ مِنْ حَوْلِهِ.

كَانَ الضَّجِيجُ يَمْلأُ المَكَانَ، الكُّلُّ يَصِيحُ، الكُلُّ يُبْدِي رَأْيَهُ، الكُلُّ يَسْتَنْكِرُ، لِمُدَّةِ رُبْعِ سَاعَةٍ؛ ثُمَّ يَتَفَقَّدُ أَحَدُهُمْ سَاعَتَهُ، و يَمْضِي مُسْرِعاً؛ لَعَلَّهُ أَكْثَرُهُمْ حِرْصاً عَلَى أَلاَّ يُضِيعَ وَقْتاً أَكْثَرْ، فَقَدْ اعْتَادَ أَنْ يَقُولَ أَنَّ كُلَّ شَيْءِ لَدَيْهِ بِمَوَاعِيدَ، و أَحْيَاناً يَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَينِ، كَأَنْ يَسْتَمِعَ لِلمُوسِيقَى بَينَمَا يَتَنَاوَلُ طَعَامَهُ، حَتَّى يَكْسِبَ مَزِيداَ مِنَ الوَقْتِ؛ رُبُعُ سَاعَةٍ هِيَ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَحَ لِلطِّفْلِ جَلاَلْ مِنْ أَزْرٍ و اهْتِمَامٍ؛ و قَدِ اعْتَادَ أَهْلُ الحَيِّ إِذَا مَا انْسَحَبَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ، كَمَا لَو كَانُوا فَقَطْ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يَفْعَلُهَا أَوَّلاٌ؛ و قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ الدَّمْعُ عَلَى خَدَّي ذِكْرَى، كَانَ الشَّارِعُ قَدْ فَرَغَ مِنْ كُلِّ النَّاسِ، مَا عَدَايَ و ذِكْرَى و الطِّفْلُ جَلاَل المُلْقَى عَلَى الأَرْضِ، فِي انْتِظَارِ سَيَّارَةِ الإِسْعَافِ.

فِي المَسَاءِ، اجْتَمَعَ بَعْضُ رِجَالِ الحَيِّ كَالمُحَامِي شَوْقِي و الدُُّكتُورْ عِصَامْ و الضَّابِط رَأْفَتْ ... الخ، ثُمَّ تَوَجَّهُوا إِلَى مَنْزِلِ رَجُلِ الأَعْمَالِ الشَّهِيرِ السَّيِدْ رَشَادْ، و ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى الضَابِطْ رَأْفَتْ بَعضَ التَّحَرِيَاتِ بِنَاءًا عَلَى المَعْلُومَاتِ الَّتِي أَدْلَتْ لَهُ بِهَا ذِكْرَى؛و فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَالِي، كَانَتِ المُوَاجَهَةُ.

كَانَتْ فِيلاَّ السَّيِدْ رَشَادْ آيَةً فِي الجَمَالِ كَمَا لَوْ كَانَتْ قَصْراً أُسْطُورِيّاً يَفُوحُ مِنْهُ عَبِيرٌ لاَ يَغْدُو أَنْ يَكُونَ سِوَى الهَوَاءُ نَفْسُهُ، لَكِنَّهُ هَوَاءٌ نَقِيٌّ خَالٍ مِنْ أَيِّ غُبَارٍ أَو تَلَوُّثٍ؛ لَمْ يَسْتَنْشِقْ أَهْلُ الحَيِّ مِثْلَ هَذَا الهَوَاءِ مُنْذُ زَمَنٍ، فَنَسُوهُ؛ أَمَّا ذِكْرَى، فَقَد كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّهُ فِي زَمَنٍ مَا، كَانَ الهَوَاءُ عَبِيرًا.

بِمُجَرَّدِ أَنْ رَأَى السَّيِدْ رَشَادْ ذِكْرَى حَتَّى تَغَيَّرَتْ نَبْرَتَهُ، أَقَرَّ أَنَّهُ مُذْنِبٌ و أَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًا للإِسْرَاعِ آنَذَاكَ، و تَعَهَّدَ لأَهْلِ الحَيِّ أَنَّهُ سَيُعَالِجُ الطِفْلَ عَلَى حِسَابِهِ الخَاصْ. لَكِنَّ الحَقِيقَةَ أَنَّ مَا جَذَبَ رَشَادْ نَحْوَ ذِكْرَى لَمْ يَكُنْ حُبّاً أَوْ إِعْجَاباً، فَقَد كَانَ رَشَادْ رَجُلَ أَعْمَالٍ لاَ يُحِبُ البَرَاءَةَ و لاَ يُؤْمِنُ بِهَا، مَا جَذَبَهُ نَحوَ ذِكْرَى كَانَ تَحَدِّياً، كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَمْحُو البَرَاءَةَ مِنْ عَيْنَيْهَا.

فَكَّرَ رَشَادْ فِي طَرِيقَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَنْ يُبْقِيَ ذِكْرَى مَعَهُ لِلأَبَد، لَعَلَّهُ كَانَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا دُونَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ، رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ إِخْبَارَهَا بِذَلِكَ، و رُبَّمَا كَانَ عَلَيهِ فَقَطْ أَنْ يَنْسَاهاَ، فَهِيَ لَمْ تُخْلَقْ لأَجْلِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ؛ كَانَ لَدَيْهِ اليَقِينُ أَنَّ ذِكْرَى، بِبَسَاطَتِهَا و بَرَاءَتِهَا، لاَ تُبْدِي اهْتِمَاماً لِلثَّرَاءِ أَو السُلْطَةِ، كَانَتْ تُفَضِلُ الحُرَّيَةَ عَنِ السَيْطَرَةِ لِدَرَجَةِ أَنَّهَا لَمْ تَشَأْ يَوْماً أَنْ تَكُونَ مُسَيطِرَةً عَلَى حَيَاتِهاَ؛ لِذَلِكَ، بِرُغْمِ كُلِّ مَا يَمْلِكُ رَشَاد مِنْ قُوَّةٍ، كَانَ يُحِسُّ بِالعَجْزِ أَمَامَ ذِكْرَى، و كِانَ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهاَ؛ رَأَى رَشَاد مَدَى اهْتِمَامِ و تَعَلُّقِ ذِكْرَى بِأَهْلِ الحَيِّ، فَقَرَّرَ أَنْ يَتَقَرَّبَ مِنْهُمْ لَعَلَّهُ يَحْظَى بِبَعْضِ الاِهْتِمَامِ، حَتَّى يَتَسَنَّى لَهُ الاسْتِيلاَءُ عَلَى قَلْبِهَا.

تَصَرُّفُ السَّيِدْ رَشَادْ مَعَ أَهْلِ الحَيِّ جَعَلَهُمْ يَحُومُونَ حَوْلَهُ كَمَا تَحُومُ الكَوَاكِبُ حَولَ الشَمْسِِ، حَتَّى وَالِدَا ذِكْرَى انْقَادَا مَعَ التَّيَارِ، إِلَى أَنْ انْتَقَلَ الحَيُّ كُلٌّهُ إِلَى المُجَمَّعِ الَّذِي يَمْتَلِكُهُ رَشَادْ و الَّذي تَتَوَسَّطُهُ فِيلَّتُهُ الأُسْطُورِيَّةُ. رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ ذِكْرَى كَوْكَباً كَبَاقِي الكَوَاكِبِ، و رُبَّمَا لَمْ يَكُنْ رَشَادُ شَمْساً بِالنِسْبَةِ لَهَا، فَلَم تَكُنْ للسَّيِدِ رَشَادٍ أَيَّةُ صِلَةٍ بِالذِّكْرَى.

حِيَلُ رَشَادٍ لَمْ تُجْدِي نَفْعاً، فَقَرَّرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ ذِكْرَى؛ و بِمُسَاعَدَةِ وَالِدَيْ هَدِهِ الأَخِيرَةِ و أَهْلِ الحَيِّ، الَّذِينَ أَصْبَحُوا جَمِيعاً يُفَكِّرُونَ مِثْلَهُ و يَتَكَلَّمُونَ لُغَتَهُ، اسْتَطَاعَ رَشَادٌ أَنْ يُحَقِّقَ هَدَفَهُ؛ و عِنْدَهَا اكْتَشَفَتْ ذِكْرَى الحَقِيقَةَ؛ أَنَّ رَشَادَ هُوَ الشَيْطَانُ نَفْسُهُ، جَاءَ إِلَى الأَرْضِ لِيُحَوِّلَ كُلَّ البَشَرِِ إِلَى شَيَاطِينَ أَتْبَاعٍ لَهُ، و أَنَّ المُجَمَّعَ السَّكَنِيَّ لَيْسَ إلاَّ سِجْناً، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالأَصْفَادِ فَبِالمُغْرَيَاتِ.

لَمْ تُؤمِنْ ذِكْرَى يَوْماً بِأَنَّ هُنَاكَ شِجْنٌ فِعلِيٌّ بِمَا تَحْمِلُ الكَلِمَةُ مِنْ مَعنَى، كَانَتْ ذِكْرَى شَدِيدَةَ التَّعَلُّقِ بِالحَيَاةِ، كَانَتْ تُحِبْ، و الحُبُّ لاَ يُمْكِنُ سَجْنُهُ؛ كَانَ حُبُّ ذِكْرَى يَنْطَلِقُ مُخْتَرِقاٌ الجُدْرَانَ، فَيُقَدِّمُ تَحِيَّةَ الصَّبَاحِ لِلطُيُورِ الهَائِمَةِ فَتَلتَفُّ حَوْلَ القَصْرِ و تُغَرِّدُ لِسَاعاتٍ، و تَيْنَعُ الأَغْصَانُ الذابِلَةُ فَيَفُوحُ مِنْهَا عَبِيرٌ يَطْغَى عَلَى جَوِّ الفِيلاَّ؛ كَانَتْ ذِكْرَى مَشْغُولَةٌ جِداً، لاَ تَفْعَلُ شَيْئاً، فَقَطْ تُحِبُّ كُلَّ مَا حَوْلَهاَ؛ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهاَ الوَقْتُ لِتُفَكِّرَ فِيماَ يَرمِي إِلَيْهِ رَشَاد، و مِنْ وِجْهَةِ النَظَرِ هَذِهِ، لَمْ تَكُنْ ذِكْرَى سَجِينَةً بَلْ حُرَّةً؛ عَلَى قَدْرِ بَسَاطَتِهاَ و بَرَاءَتِهاَ و جَهْلِهاَ بِأُمُورِ الحَيَاةِ، كَانَتْ تَعْرِفُ كَيفَ تَحْيَى فِي طُمَأْنِينَةٍ.

رُغْمَ قُدْرَةِ رَشَادٍ المُذْهِلَةِ عَلَى الإِقْنَاعِ، لَمْ يَسْتَطِعْ هَدَا الأَخِيرُ أَنْ يَأْخُذَ البَرَاءَةَ مِنْ عَيْنَي ذِكْرَى؛ فَقَرَّرَ أَنْ يَسْجُنَهَا حَقّاً لِتَتَفَرَّجَ عَلَى أَهْلِهَا و عَشِيرَتِهَا و هُمْ يَتَحَوَّلُونَ شَيْئاً فَشَيْئاً إِلَى شَيَاطِينٍ كُلَّماَ سَقَاهُمْ خَمْراً؛ مَنَعَهَا مِنَ الخُرُوجِ، مِنَ الكَلاَمِ و مِنَ السَّعَادَةِ أَيْضاً؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا حَزَّ فِي نَفْسِهَا رُؤْيَةُ الطِّفْلِ جَلاَلٍ و هُوَ يَتَحَوَّلُ إِلَى شَيْطَانٍ، و البَراءَةُ الَّتِي فِي عَينَيْهِ تُصْبِحُ ابْتِسَامَةً مَاكِرَةً.

أَصْبَحَتْ ذِكْرَى تَعِيشُ وَسَطَ الشَيَاطِينِ، تَعْرِفُ لُغَتَهُمْ و تَفْهَمُ آرَاءَهُمْ، لَكِنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ مِثْلَهُمْ، بَلْ ظَلَّتْ عَلَى طَبِيعَتِهَا تُذَكِّرُ مَنْ يَنْسَى و تُسَاعِدُ المُحْتَاجَ، حَتَّى بَدَأَتْ الفِيلاَّ تَتَحَوَّلُ مِنْ جَحِيمٍ إِلَى جَنَّةٍ. أَحَسَّ رَشَادُ أَنَّ نِهَايَتَهُ وَشِيكَةً، فَفَشَلُهُ يَعْنِي أَنْ يَعُودَ إِلَى عَالَمِهِ حَيْثُ الجَحِيمُ حَقَّا، حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لَهُ.

أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ شَغَلَتْ تَفْكِيرَهُ لَمْ يَسْتًطِعْ عَلَيْهَا صَبْراً، تَمَلَّكَتْهُ الحِيرَةُ شَهْراً، و الغَضَبُ، و تَمَلَّكَهُ اليَأْسُ دَهْراً؛ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْرِفَ إِنْ كَانَ يَكْرَهُ الذِّكْرَى؟

و فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ قَاتِمَةٍ ، لاَ يَكَادُ يُطِلُّ القَمَرٌ فِيهَا عَلَى الأَرْضِ و لَوْ بِهِلاَلٍ، كَمَا لَو أَنَّ شَيْئاً يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُذَكِّرَنَا، عَادَ رَشَادٌ مِنْ إِحْدَى النَّوَادِي اللَّيْلِيَةِ و هَوَ يَحْمِلُ بِيَدِهِ مُسَدَّساً و بِقَلْبِهِ حِقْداً و غِلاً، كَانَ الكُرْهُ بَادٍ فِي عَيْنَيْهِ القَاتِمَتَيْنِ، كَانَ بَدِيهِيّاً أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مَا، و مَهْمَا كَانَتْ لِتَقُولَ أَو تَفْعَلَ ذِكْرَى، لَم يَكُنْ ذَلِكَ لِيُغَيِّرَ مِنْ شَيْءٍ، فَالنَّتِيجَةُ وَاحِدَةٌ، قَرَّرَهَا رَشَادُ مُسْبَقاً، و لأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يَكْفِي لِيُنَفِّدَ رَغْبَتَهُ، قَرَّرَ أَنْ يُلْغِي إِرَادَتَهُ، أَنْ يَسْجُنَهاَ خَلْفَ رِدَاءِ الخَمْرِ، كَانَ لاَ يَكَادُ يَفْقَهُ قَوْلاَ، قَدَمَاهُ تَخُونَاهُ و عَيْنَاهُ، لَكِنَّهُ كَانَ يُحِسُّ بِالسَّعَادَةِ، كَأَنَّهُ سَيُقْدِمُ عَلَى أّمْرٍ جَلِيلٍ؛ تَقَدَّمَ نَحْوَ ذِكْرَى فِي خُطىً مُتَثَاقِلَةٍ ثُمَّ سَأَلَهَا.

 رَشَاد : كَيفَ أَنَّكِ لَمْ تَتَغَيَّرِي للآن؟
 ذِكْرَى : لأََنَّنِي لَمْ أَنْسَى.
 رَشَاد : لَمْ تَنْسَيْنَ مَاذَا؟
 ذِكْرَى : التَّارِيخْ.

بِحَسْرَةٍ و خَيْبَةِ أَمَلٍ بَادِيَتَينِ فِي عَيْنَيْهِ القَاتِمَتَيْنِ، أَطْلَقَ رَشَادُ النَّارَ عَلَى ذِكْرَى؛ و عِنْدَهَا تَذَكَّرْتُ ... أَنَّ ذِكْرَى لاَ تَسْتَحِقُّ مِثْلَ هَذَا المَصِيرِ، فَقَد كَانَتْ تُحِبُّ الخَيْرَ لِلنَّاسِ، حَتَّى بَعْدَمَا أَصْبَحُوا شَيَاطِينَ؛ تَذَكَّرْتُ كَمْ كُنْتُ أُحِبُّهَا، كَبَاقِي أَهْلِ الحَيِّ؛ و كَانَ ذَلِكَ هُوَ ذَنْبِيَ الوَحِيد، لأَلْقَى مَصِيرِي، مِثْلَهَا ... آهٍ ... لأُصْبِحَ ذِكْرَى؛ لَكِنَّنِي أَحِسُّ بِسَعَادَةٍ عَارِمَةٍ.

أَنَا الآنَ ابْنُ السَّمَاءِْ
اسْجُنُونِي
و بِالسَّلاَسِلِ قَيِّدُونِي
لَنْ تَسْتَعْبِدُونِي
فَأَنَا جَبَلٌ مِنَ الكِبْرَيَاءْ
قَدْ لاَ أَبْرَحُ مَكَانِي
و رُبَّمَا لَنْ تَسْمَحُوا لِي أَنْ أُعَبِّرَ عَنْ أَحْزَانِي
فَرُغْمَ أَنِّي سَجِينٌ
قَرَّرْ تُم أَنْ تَقْطَعُوا يَدَيَّ و لِسَانِي
و لِمَزِيدٍ مِنَ الاطْمِئْنَانِ
فَقَأْتُمْ عَيْنَي سَجَّانِي
كَيْ لاَ يَرَانِي
أقْتَرِحُ أَنْ تَعْدِمُونِي
اقْطَعُوا رَأْسِي و احْفِرُوا أَلْفَ ذِرَاعٍ ثُمَّ ادْفُنُونِي
لَنْ أَشْعُرَ بِاسْتِيَاءْ
فَأَنَا الآنَ رُوحٌ هَائِمَةٌ
سَآتِيكُمْ فِي أَحْلاَمِكُمْ
فَقَط لأُُخْبِرَكُمْ
أَنَّ لِي رَأْيٌ و لَكُمْ رَأْيٌ آخَرٌ
فَإِنْ لَمْ تَقْتَنِعُوا بِرَأْيِي، فَاسْمَحُوا لِي أَنْ أَقُولَ لَكُمْ:
أَنِّي ابْنُ السَّمَاءْ
أَفْعَلُ مَا أَشَاءْ
فلِلتَّعْبِيرِ أَلْفُ وَسِيلَةِ إلاَّ الانْحِنَاءْ.

مَا وُجِدَتْ العَيْنُ فِي أَعْلَى الرَّأْسِ لِتَنظُرَ إِلَى الأَسفَل؛ مَا خُلِقَتِ السَّمَاءُ فَاتِنَةً لِنَنظُرَ إِلَى الأَسفَل؛ مَا ارْتَقَى إِنْسَانٌ بِالنَّظَرِ لِلأَسفَلِ، فَقَط سَيُكْسَرُ عُنُقُهُ، و سَيَخْتَنِقُ صَوتُهُ، و عِنْدَئِذٍ، لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَتَكَلَّم.

عَيْنِي الآنَ زَرقَاء، أَرَى السَّمَاءَ كَضِيَاء، بَل أَرَى ما وَرَاءَ السَّمَاء، أَنظُرُ إِلَى العَلْيَاء، هَامَتِي مَرْفُوعَةٌ كَأَنِّي أَطِير، و صَوتِي مُنْتَشِرٌ كَالرَّعد، يُريدُ أَنْ يَقُولَ لَكُمْ شَيئاً، لَعَلَّكُم تَتَذَكَّرُون:

"مَاتَتْ ذِكْرَى، رُغْمَ أَنَّهَا جَمِيلَةٌ، رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ جَمِيلَةَ كِفَايَةً فِي عَيْنَيْ قَاتِلِهَا، لأَنَّنَا بِبَسَاطَةٍ نُشَارِكُهُ ذِكْرَاهُ. مَاتَتْ ذِكْرَى، تَارِكَةً لَنَا الكَثِيرَ مِنَ الحُزْنِ و الأّسَى، حَتَّى تَمَنَّى الجَمِيعُ لَوْ كَانَ بِمَقْدورِهِمُ النِّسْيَانَ؛ هَذِهِ المَرََّةُ، إِكْرَاماً لََهَا، دَعُونَا لاَ نَنْسَى، أَنَّ ثَرِيّاً قَتَلَ ذِكْرَى، و أَنَّ غَداً سَيَقْتُلُ ثَرِيٌّ آخََرُ الذِّكْرَى، اعْتِقَاداً مِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ أَلْفَ ذِكْرَى، دَعُونَا لاَ نَنْسَى أَنَّ لَنَا الحَقَّ فِي أَنْ نُشَارِكَهُ، حَتَّى لاَ تَمُوتَ فِينَا الذِكْرَى؛ كَيْفَ نَنْسَى المَاضِي و قَدْ كَانَ دَائِماً أَجْمَلَ مِنَ الحَاضِرِ؟".
.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى